روبرت مانش، المؤلف المحبوب لكتب مثل «الأميرة ذات الرداء الورقي»، و«سأحبك إلى الأبد»، وعشرات الكلاسيكيات الأخرى، بنى مسيرته الإبداعية من خلال أداء قصصه مباشرة أمام الأطفال، مجرّباً ومعدّلاً إياها حتى تصل إلى صورتها المثالية للنشر. لكن اليوم، وقد بلغ الـ76 من عمره، بدأ الخرف ينهش الخيال الذي غذّى واحدة من أبرز المسيرات الأدبية في أدب الطفل.

في عام 1989، بدأت الطفلة غاه - نينغ تانغ، (8 أعوام)، بمراسلة مانش من بلدتها الصغيرة هيرست في أونتاريو، وكانت رسائلها غالباً تُكتب على قصاصات من مفارش مطعم والديها. وعلى عكس كثير من المؤلفين، كان مانش يحرص على الرد على كل طفل بشكل شخصي، مهما كان بسيطاً أو عابراً.
امتلأت رسائل غاه - نينغ تانغ بتفاصيل الحياة اليومية في بلدة صغيرة، مليئة بالإحباطات والفضول الطفولي، وكانت الشرارة التي أطلقت مراسلات طويلة مع مانش، وألهمته في نهاية المطاف لكتابة كتابه الصادر عام 1994 بعنوان «أين هي غاه - نينغ؟». وكان مانش يؤمن بأن الطفل الذي يُلهم قصة ما، يمتلكها بحق، فيُدرج اسمه، وشخصيته، وصورته الحقيقية داخل الحكاية، كما لو كان شريكاً أصيلاً في صناعتها.
من الرهبنة إلى أدب الطفل
هذا الإخلاص العميق لأصوات الأطفال، وقدرته على تحويلهم من مجرد مستمعين إلى شركاء في الإبداع، جعلا منه واحداً من أكثر كتّاب أدب الأطفال مبيعاً في أميركا الشمالية، إذ تجاوزت أعماله 85 كتاباً، وبيعت منها أكثر من 87 مليون نسخة.
ورغم هذا النجاح، فإن رحلة مانش إلى عالم القصص لم تكن تقليدية. فقد وُلد في بيتسبرغ بأميركا لعائلة كاثوليكية كبيرة، وبدأ دراسته في سلك الرهبنة ساعياً ليصبح كاهناً. لكن أثناء تطوعه في دار للأيتام، اكتشف ميله العميق للعمل مع الأطفال، فقرر التخلي عن الرهبنة، والتحق بجامعة «تافتس» لدراسة تعليم الطفولة المبكرة. ومن هناك بدأت رحلته الحقيقية حين عمل في رياض الأطفال.
وهناك، في لحظات ما قبل قيلولة الأطفال، اكتشف مانش قدرته الفريدة على جذب انتباههم من خلال القصص. فكان يحكي بعفوية، فيسكن الضجيج وتُفتح العيون. ومع تشجيع زملائه، بدأ بتدوين تلك القصص التي أحبها الأطفال.
في عام 1975، وبعد انتقاله إلى كندا مع زوجته آن، قدَّم مجموعة من القصص للناشرين. لم يُقبل منها سوى واحدة فقط بعنوان «بركة الطين»، لكنها كانت كافية لتكون بداية انطلاقته الأدبية.
أما انطلاقته الكبرى فجاءت عام 1980، حين نشر كتاب «الأميرة ذات الرداء الورقي» بالتعاون مع الرسام مايكل مارتشينكو. في هذه القصة، تُنقذ الأميرة إليزابيث الأمير رونالد من التنين، لكنه بدلاً من شكرها ينتقد مظهرها الرث. فترد عليه بجملتها الشهيرة: «تبدو أميراً حقيقياً، لكنك أحمق». وقد بيع من هذا الكتاب أكثر من 7.5 مليون نسخة، وأصبح يُحتفى به بوصفه واحداً من أبرز الكتب النسوية التي قلبت موازين القصص الخيالية التقليدية.

أما كتابه الأشهر الآخر «سأحبك إلى الأبد» (1986)، فقد كان بطابع مختلف تماماً. كتبه بعد فقدانه لطفلين وُلدا ميتين، فجاءت القصة نوعاً من الرثاء الحنون. وتتابع الحكاية حياة الأم وهي تردد لابنها، في كل مرحلة من عمره، عبارة تؤكد حبها غير المشروط له. ورغم أن بعض النقاد رأوا فيه مبالغة عاطفية، فإن الكتاب لامس وجدان ملايين الآباء والأمهات بعمق، وتسلل بهدوء إلى قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، حتى أصبح من أكثر كتب الأطفال تأثيراً وانتشاراً.
قصص صنعتها عفوية الأطفال
كان مانش يؤكد دائماً أنه راوٍ للقصص قبل أن يكون مؤلفاً. وكان يقدم عروضه في المدارس في جميع أنحاء أميركا الشمالية، وغالباً ما يُفاجِئ الجمهور بظهوره دون سابق إنذار، ويقيم مع العائلات المحلية لجمع الأفكار من الحياة اليومية. وكانت عروضه المليئة بالطاقة والمرح والتفاعل تُشكّل مختبره الإبداعي الخاص.
الأطفال كانوا هم صانعي قصصه الحقيقيين؛ يقاطعونه، ويضحكون، ويقترحون إضافات تُدمج أحياناً في الحبكة. وتطورت القصص عبر ما يصل إلى 50 عرضاً حياً قبل أن تستقر على شكلها النهائي. وكان مانش يوضح أن هذه العملية تُزيل الدروس التي يفرضها الكبار، وتحتفظ فقط بما يجده الأطفال مضحكاً ومفاجئاً ومثيراً.
كما قالت محررته ديان كورنر: «يستمع مانش للأطفال أكثر من أي مؤلف آخر عرفته». وعلى عكس الكتب المليئة بالعبر الأخلاقية الصارمة، كانت كتب مانش خالية من الدروس المباشرة، ومليئة بحفلات الميلاد، والمقالب، وحتى النكات عن التبول، وكلها أشياء يحبها الأطفال فعلاً.
ورغم بهجة قصصه، فإن مانش كان يعاني من الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب، بالإضافة إلى الوسواس القهري. ففي ثمانينات القرن الماضي، انضم إلى جمعية مدمني الكحول المجهولين، ولاحقاً تلقى علاجاً نفسياً. وقد ساعدته الأدوية على الاستقرار من دون أن تخمد شرارة إبداعه.
لكن في سنواته الأخيرة، تعرض لانتكاسات، مع إدمان الكحول ثم الكوكايين. ورغم ذلك، أبقى هذه الصراعات بعيدة عن كتبه للأطفال، مصرّاً على ألا تسمح آلام البالغين بتدمير عالم الطفولة في قصصه.
الخرف وسرقة الخيال
وفي عام 2008، أصيب بجلطة دماغية أفقدته مؤقتاً القدرة على سرد القصص. وبمساعدة معالج نطق، تعافى وعاد ليزور المدارس مجدداً. لكن بحلول عام 2021، أعلن تشخيصه بالخرف ومرض باركنسون.
بدأ المرض يسلبه كلماته وتوازنه، فأصبح يتعثر كثيراً، وبدأ ينسى الأسماء، ولم يعد قادراً على قراءة الكتب، إذ بدت له النصوص مشوشة وغريبة. ومع الإرهاق الشديد، لم يعد يخرج من المنزل، وقال ذات مرة: «حياتي تنكمش بهذه الطريقة».

لكن الأكثر إيلاماً كان توقف تدفق القصص. فعلى مدى عقود، كانت الأفكار تأتيه كاملة، وكأنها من دون حدود. أما الآن، فعندما ينتظر الإلهام، «لا يحدث شيء».
وفي عام 2023، حدث أمر استثنائي: ظهرت قصة جديدة. أثناء تفكيره في شقيقتين مسنّتين يعرفهما، تخيلهما كأنهما طفلتان مشاغبتان تثيران الفوضى في مستشفى. وعلى مدى أيام، كتب وعدّل القصة مسترشداً فقط بالأطفال الوهميين في رأسه. وكانت النتيجة كتاب «اقفز!» الذي نُشر عام 2024، وهو أول كتاب جديد له منذ سنوات. لكنه لم يكتب شيئاً منذ ذلك الحين.
ولا يزال مانش مدركاً لتدهور حالته الصحية، إذ يمزح بسخرية قاتمة قائلاً إنه سيصبح مثل «نبات اللفت». لكنه يتحدث بصراحة مع أحفاده عن الموت. وبعد تشخيصه، تقدم بطلب للانضمام إلى برنامج المساعدة الطبية على الموت في كندا، موضحاً أنه لا يرغب في الاستمرار في الحياة بعد فقدانه القدرة على التواصل.
ومع ذلك، تبقى قصصه القديمة محفوظة في ذاكرته، لم يمسّها المرض. فما زال قادراً على سرد «مورتيمر» أو «الأميرة ذات الرداء الورقي» من البداية إلى النهاية، مؤدياً إياها بالحيوية الكوميدية نفسها التي كانت تملأ قاعات المدارس.
وفي أحد اللقاءات، وبعد حديثه عن مرضه، بدأ مانش فجأة في سرد قصة «مورتيمر». فتغيرت ملامحه، وارتفعت نبرته بأصوات «عميقة، تشبه أصوات رجال الشرطة» التي أسعدت أجيالاً من الأطفال. ولبرهة قصيرة، بدا المرض وكأنه اختفى، وبقي روبرت مانش، راوِي القصص، حيّاً في كلماته الخالدة.
خدمة: «نيويورك تايمز»*


