كيف عبَّرت الرواية الإماراتية عن الهوية الثقافية للمجتمع؟

الأكاديمية مريم الهاشمي ترصد تحولاتها ومراحلها التاريخية

كيف عبَّرت الرواية الإماراتية عن الهوية الثقافية للمجتمع؟
TT

كيف عبَّرت الرواية الإماراتية عن الهوية الثقافية للمجتمع؟

كيف عبَّرت الرواية الإماراتية عن الهوية الثقافية للمجتمع؟

في كتابها «التحولات السردية في الأدب الإماراتي: الرواية الإماراتية الجديدة أنموذجاً - دراسة فنية» الصادر عن «مركز أبوظبي للغة العربية»، تقدّم الكاتبة والناقدة الإماراتية الدكتورة مريم الهاشمي قراءة لبعض الروايات الإماراتية الجديدة، تكشف من خلالها عن التحولات السردية في الأدب الإماراتي.

في مقدمة الكتاب، تعرض الباحثة القضايا التي تثيرها الرواية، مثل مكان ظهورها وزمانها ومراحلها التاريخية. حيث تشير إلى أن العلاقة بين الجنس والنص هي علاقة معقدة ومتحولة، وأن الرواية نوع من الأجناس الأدبية المتشعبة والمتنوعة، لها خصوصيتها وجذورها الضاربة في الملحمة والشعر الغنائي والأدب الشفوي. كما تشير إلى أن الرواية اقترنت في بدايتها الأولى في أواخر القرن التاسع عشر بوظيفة التسلية والفكاهة، ثم تطورت للتعليم والوعظ والإرشاد، وفي بداية القرن العشرين اتخذت بشيء من التعميم أحد الاتجاهات الثلاثة: الاتجاه الرومنطيقي، والاتجاه التاريخي، والاتجاه الواقعي. وأن تعبير الرواية الجديدة حمل إشكالية اصطلاحية لدى البعض، وأن المصطلح تمت استعارته من بيئات أخرى، مثل الرواية الفرنسية الجديدة.

وترى أن الإمارات، تُعدُّ من المجتمعات سريعة التغير والأكثر انفتاحاً على الآخر، وأن ذلك أثَّر على التعبير عن الواقع والذات وعلى اللغوية الإبداعية؛ لتزدهر الرواية وتتعدد أنواعها، وتتسع أغراضها، وتتنوع مصادرها، وتتسارع في تطورها، وتمردها على القوالب واستيعابها كثيراً من عناصر الفنون وانتشارها في كل الآداب المعاصرة.

وتقول إن الرواية الإماراتية، هي نص تخييلي سردي يدور حول شخصيات متورطة في حدث، وهي كذلك تمثيل للحياة والتجربة واكتساب المعرفة.

ومن خلال قراءة بعض الروايات الإماراتية؛ عرضت المؤلفة في الفصل الأول، اتجاهات الخطاب السردي في الرواية الإماراتية الجديدة، ومنها: الاتجاه التاريخي، والواقعي، والعجائبي. أما في الفصل الثاني «تطور التقنيات الفنية السردية في الرواية الإماراتية الجديدة»، فقد عرضت لكثير من التقنيات الفنية الخاصة بكتابة الرواية الإماراتية، ومنها: تقنية السارد، والتقنية الزمانية، والتقنية المكانية، والتقنية الحوارية، وتقنية الشخصية، وتقنية اللغة.

الرواية الإماراتية

ترصد الهاشمي مسيرة الرواية الإماراتية، والتنوع الذي تتميز به، وتعبيرها عن الهوية الثقافية للمجتمع الإماراتي. حيث تعرض لرواية «ثلاثية الدال» لنادية النجار، التي تناولت فترة الستينات في الإمارات، وحادثة احتراق سفينة «دارا»، والتي عرضت من خلالها تراث المنطقة بانسيابية سردية للأحداث. ثم عرضت لرواية «رحلة غريسة» للكاتبة فاطمة حمد بوعيسى الشامسي، التي تداخل فيها التاريخ مع السيرة في توليفة تراثية ثرية، يمكن أن تكون مرجعاً للعادات القديمة والتراث، والألعاب الشعبية، واللهجة، والحياة الاجتماعية والاقتصادية؛ فهي تقف على الحياة في الإمارات قبل مائة عام، بخاصة منطقتا عجمان ورأس الخيمة. ثم عرضت لرواية «يوميات روز» للكاتبة ريم الكمالي، التي تناولت قضية تعليم المرأة وتمكينها، والتي ارتبط فيها التاريخ بالحياة الاجتماعية.

وعرضت لرواية «رياح من طشقند» لمنى التميمي، التي تسقط التاريخ على الحاضر، والاعتبار من أخطاء الماضي برؤية وعظية. ثم عرضت لرواية «في فمي لؤلؤة» للكاتبة ميسون القاسمي، التي اعتمدت على المعطيات التاريخية في خطابها السردي.

وتوضح الكاتب أنه على رغم أن الرواية والتاريخ ينتميان إلى حقلين متباعدين، فالتاريخ يستند إلى المادة الواقعية، والرواية تعتمد في بنائها المادة التخييلية، لكنهما ينتميان إلى مملكة السرد، وصارت أشكال التبادل بينهما ميسورة نسقياً. كما أن نظرة الفن إلى سياق الواقع بصفة عامة تقوم على تخييله، فنكون أمام ذاكرتين: الأولى: تاريخية تسجيلية تنتمي إلى حقل التاريخ، والأخرى: جمالية تعتمد على لعبة الخيال.

الاتجاه الواقعي

وعن الاتجاه الواقعي للرواية الإماراتية، ذكرت المؤلفة أنه في العمل الروائي يوجد تكامل بين الفن والوعي، وبين الذات والموضوع، وبين بنية شكلية فنية وبنية موضوعية اجتماعية، وأن الرواية استطاعت أن تتمثل الواقع وتعكس صورته. كما أن الذات المتلقية هذا الفن سوف تنظر إليه من خلال عين أخرى، هي عين المبدع الذي اختار أن يمنح تجربته مع هذا الواقع قدراً من البقاء عبر التواصل مع فضاءات أخرى؛ ليتحول الواقع المرئي عبر هذه العين المبدعة إلى ما يشبه المرآة، التي يمكن للقارئ أن يرى فيها ذاته الفردية، وجماعته والظرف الزمني الذي يحتويه. والرواية الواقعية هي من أكثر الأنواع الروائية التي تحتمل تداخل الأجناس الأدبية في رحمها، وتعيد إحياءها في خطابها السردي؛ كالتراث، والأسطورة، والشعر، والقصة الشعبية، والملحمة والأرجوزة.

كما عرضت لبعض الروايات الواقعية الإماراتية، مثل رواية «رحلة غريسة» للكاتبة فاطمة الشامسي، التي تعكس واقع أمة وحضارتها وواقع إنسان عاش فترة ناضل فيها من أجل لقمة العيش. ثم عرضت لرواية «كولاج» للكاتبة فتحية النمر، التي تحكي عن القضايا الاجتماعية في المجتمع الإماراتي، والتي طرأت بفعل الانفتاح الحضاري، والتغير القيمي، والاحتكاك الثقافي مع الآخر، ثم عرضت لرواية «الهائمون» للكاتبة نجيبة الرفاعي، ورواية «ريتاج» للكاتب حمد الحمادي، ورواية «سين تريد ولداً» للكاتبة لطيفة الحاج، التي تطرح قضية الزواج في مجتمع منفتح ومتطور اقتصادياً وثقافياً، ونظرة الرجل للمرأة في المجتمع الحديث.

وتضيف الكاتبة أن الرواية في طرحها قضايا مجتمعية وواقعية – تُعدُّ توثيقاً للمجتمع وقضاياه خلال زمن كتابة الرواية أو زمن الخطاب السردي؛ فالمجتمع دائم التغير والتبدل، ليأتي دور الخطاب السردي في الأعمال الروائية كالراصد المستمر لتلك التحولات كونها من أكثر الأجناس الأدبية الحاملة لهم القضايا المجتمعية والكاشفة عن أسرارها وخباياها بواسطة اللغة والتقنيات السردية.

الاتجاه العجائبي

وعرجت الباحثة على الاتجاه العجائبي في الرواية الإماراتية، لافتة إلى أنه يعتمد على ثقافة الأديب ورؤيته للآداب الأخرى، عن طريق الخروج من الواقع إلى أشياء غير مألوفة تتعدى مخيلة الإنسان. وأن هذا النوع من الخطاب السردي في دولة الإمارات قائم على السحر والتحول واستحضار الجن، والغرائبية التخييلية، والتنقل عبر فضاءات غيبية غامضة ومخيفة.

ثم قدمت قراءة لبعض الروايات الإماراتية التي تعتمد هذا الاتجاه، ومنها: رواية «ثنايئة مجبل بن شهوان»، ورواية «زينة الملكة» للكاتب علي أبوالريش، ورواية «عذراء وولي وساحر» للكاتبة سارة الجروان الكعبي، ورواية «ربيع الغابة» لجمال مطر، ورواية «ك – ص: ثلاثية الحب والماء والتراب» لعلي أبو الريش ورواية «غرفة واحدة لا تكفي» لسلطان العميمي.

التقنية الزمنية والمكانية

وعن التقنية الزمنية في الرواية، تذكر المؤلفة أن الزمن يُعدّ أحد مكونات العمل الأدبي؛ فالزمن في الأدب هو الزمن الإنساني، وهو مكونً للنص الأدبي، له ارتباطه بعناصر أخرى مهمة للعمل منها المكان؛ فالزمن حركة لا تتم إلا في مكان. وله ارتباط كذلك بشخصيات العمل الأدبي وأحداثه ولغته، بل هو صانع الأحداث ومؤثر في صيرورتها.

وعرضت المؤلفة للتقنية الزمنية في رواية «الهائمون» للكاتبة نجيبة الرفاعي، وكذلك في رواية «يوميات روز» للكاتبة ريم الكمالي، وفي رواية «رياح من طشقند» للكاتبة منى التميمي. وفي رواية «دائرة التوابل» لصالحة عبيد.

وذكرت أن الرواية الإماراتية الجديدة، اتجهت إلى تفعيل البنية الزمانية بشكل أكبر؛ ما شكَّل نقلة نوعية في توظيفها تقنيةً فنيةً واضحة الحضور في النص السردي. ولم يعد الزمن هو الزمن الآني أو الماضي؛ بل أصبح الجمع بين زمانين مختلفين في البعد الحضاري والمكاني واللغوي والقيمي. ثم عرضت لتقنية الاسترجاع أو الفلاش باك، ومدى ارتباطها بالتناص الأدبي بكل أنواعه.

وبخصوص التقنية المكانية في الرواية الإماراتية، ذكرت المؤلفة أن وظيفة المكان في العمل الروائي لا يمكن أن تكون مجرد وظيفة تزيينية أو منفصلة عن باقي عناصر الرواية، أو زائدة عليها، إنما يقدم المكان دلالات رمزية متعددة حسب رؤية مؤلف الرواية واستجابة القارئ وما يراه من تأويلات قد تختلف من متلقٍ إلى آخر بوصفه عنصراً متداخلاً ومتحداً مع باقي مكونات العمل الروائي. وعرضت المؤلفة قراءة لبعض الروايات الإماراتية التي وظفت تقنية المكان. وتحدثت عن التعددية المكانية والفضاء المكاني، ودور المكان في خيال المتلقي، ورمزية المكان، ودور المكان في الكشف عن التاريخ وتفاصيل الحياة، ودوره في تفعيل الحواس وتحريك البصر لدى المتلقي، ليصبح جزءاً من المكان.

الحوار في الرواية

ثم عرضت المؤلفة للتقنية الحوارية في الرواية الإماراتية، مشيرة إلى أن الحوارية تعمل أحياناً على تقديم صوت الشخصية مستقلة عن صانعها، وأحياناً لا يمكن الفصل بين الصوتين، وقد يتماهى الصوت الداخلي للشخصية مع الصوت الخارجي؛ وهو ما يحيلنا إلى التناص الأدبي. ثم عرضت لأنواع التقنية الحوارية وطرق توظيفها بما يخدم رؤية الكاتب الإبداعية في بعض الروايات الإماراتية ومنها: رواية «كمائن العتمة» للكاتبة فاطمة المزروعي، التي استطاعت أن تدخل القارئ في أعماق الشخصيات، من خلال تقنية الحوارية؛ ما يسهم في الحفاظ على الإثارة في العمل الحكائي فيما يتعلق بتطور الشخصيات ودورها في المشاهد اللاحقة. كما عرضت لرواية «ليلة مجنونة» لمحمد بن جرش، وكيف أتت الحوارية في روايته ملائمة لمستوى وعي الشخصيات وطبيعة أدوارها، كما كشف عن الفوضى الداخلية التي تعتري كوامنها الشخصية. أيضاً الخلفية المجتمعية التي ينتمي إليها العمل الأدبي، كما في رواية «رحلة غريسة» لفاطمة الشامسي.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.