تحتفي كلاسيكيات الفكر والأدب بمرور الزمن عليها كما تحتفي الأشجار العتيقة بحلقاتها؛ فتضيف كل حقبةٍ طبقةً جديدة من المعنى والأهمية.
وفي عام 2025، تكتمل الحلقة الـ400 حول واحد من أكثر النصوص السياسية بصيرةً في التاريخ: كتاب «المقالات» (The Essays) للفيلسوف والسياسي الإنجليزي فرنسيس بيكون (1561 - 1626)، الذي تبدو بصائره حول السلطة والطبيعة البشرية والاضطرابات السياسية لا تزال، بعد أربعة قرون، حيةً وثاقبة ومقلقة في آن واحد. ذلك أنه لم يكن مجرد شاهد على عصره، بل كان محللاً ومشرحاً لديناميات علاقات القوة التي لا يحدها زمن، مما يجعل مقالاته السياسية دليلاً لا غنى عنه لفهم تحدياتنا المعاصرة.
كان (السير) فرنسيس بيكون الابن الأصغر للورد حارس الختم الأعظم للملكة إليزابيث الأولى، وقد نشأ في قلب الحياة السياسية الإنجليزية. وتقول المصادر التاريخية إنّه كان طفلاً معجزة، فالتحق بكلية ترينيتي في كامبريدج وهو في الثانية عشرة من عمره، وسرعان ما أظهر نفوراً من الفلسفة المدرسية الأرسطية التي كانت تهيمن على الجامعات، واصفاً إياها بأنها عقيمة وغير قادرة على إنتاج أعمال تعود بالنفع على البشرية. أما حياته المهنية فكانت مزيجاً من الطموح الفكري والسياسي، وترقى في المناصب بثبات تحت حكم الملك جيمس الأول، ليصل إلى أرفع منصب في النظام القضائي، وهو «اللورد المستشار». إلا أن مسيرته السياسية انتهت بشكل مأساوي عام 1621 عندما اتُهم بقبول رِشاً، ورغم أن الكثير من المؤرخين يرون سقوطه كان نتيجة مؤامرة سياسية أكثر من كونه فساداً حقيقياً، فقد أُدين وأُجبر على اعتزال الحياة العامة. هذه السنوات الخمس الأخيرة من حياته، رغم مرارتها، كانت الأكثر إنتاجية فكرياً، حيث أكمل فيها أهم أعماله، بما في ذلك النسخة النهائية من «المقالات».
لم يكن بيكون مجرد رجل دولة إنجليزي، بل كان عقليةً جبّارة متعددة الأوجه: فيلسوفاً ومحامياً وكاتباً، وفوق كل ذلك، رائداً من رواد الثورة العلمية. ويتلخص مشروعه الفكري الأكبر في كتابه المؤسِّس «الأداة الجديدة» (Novum Organum) الصادر عام 1620، الذي أعلن فيه الحرب على منطق أرسطو الاستنتاجي الذي ساد لألفي عام، مقدماً بدلاً منه المنهج الاستقرائي القائم على الملاحظة والتجربة. وقد لخّص روح هذا المشروع في مقولته الخالدة «المعرفة هي القوة»، التي لم تكن شعاراً، بل جوهر فلسفة سعت إلى تمكين الإنسان من السيطرة على الطبيعة. هذه الرؤية الثورية هي التي ألهمت تأسيس «الجمعية الملكية» في لندن، وكانت الشرارة التي أشعلت فكرة «التقدم» المستمر للمعرفة، وأثرت في عمالقة عصر التنوير مثل فولتير وديدرو وكانط. وهذا الشغف نفسه بفهم «الأشياء كما هي» وليس «كما يجب أن تكون»، هو ما منح مقالاته السياسية قوتها التشريحية الباردة.
نُشرت «المقالات» لأول مرة عام 1597 في مجموعة صغيرة من 10 مقالات فقط، ثم توسعت إلى 38 مقالة في عام 1612، لتصل إلى شكلها النهائي الذي يضم 58 مقالة عام 1625. يصف بيكون كتابه بفخر متواضع بأنه يقدم «نصائح مدنية وأخلاقية». وما يجعل هذه المقالات خالدة هو أنه، إلى جانب ميكافيلي الذي كان معجباً به، كان من أوائل المفكرين الذين حللوا الجوانب المظلمة للطبيعة البشرية دون تجميل أو مثاليات.
في مقالات مثل «عن التفاوض»، و «عن الدهاء»، و «عن الطموح» يقدم دروساً في نظرية القيادة الحديثة، ولا يكتفي بالحديث عن السمعة والنيات الحسنة، بل يحذر من أن النيات وحدها لا تكفي في معترك السياسة، ويرى أنه لا يمكن الجمع بين «حكمة الأفعى وبراءة الحمامة» إلا إذا عرف المرء كل طباع الأفعى في «دناءتها وزحفها على بطنها، وتقلبها ومكرها، وحسدها ولدغتها». بعبارة أخرى، على القادة الصالحين أن يفهموا أساليب الشر والظلم لكيلا يقعوا فريسة لها، ويخصص تحليلاً دقيقاً لـمن يسميهم «أهل الدهاء» الذين يشبههم بـ«تجار السلع الصغيرة»، فهم بارعون في التلاعبات الصغيرة التافهة التي قد تسبب أضراراً جسيمة للدول والمؤسسات. ولا يزال صدى تحذيره يتردد بقوة اليوم: «لا شيء يضر الدولة أكثر من أن يُرى أهل الدهاء على أنهم حكماء».
لعل أبرز مقالات بيكون السياسية وأكثرها ارتباطاً بواقعنا مقالته الطويلة «عن الفتن والاضطرابات» التي يقدم فيها تشخيصاً لأعراض تسبق انهيار الدول عندما تفشل في الدفاع عن مؤسساتها ضد المغامرين والفصائل المتمردة. من بين هذه العلامات، يذكر: «التشهير والخطابات المنفلتة ضد الدولة، عندما تكون متكررة وعلنية؛ وبالمثل، الأخبار الكاذبة التي تنتشر صعوداً وهبوطاً». تحليله لا يزال يقدم إطاراً لفهم كيف يمكن للإشاعات والمعلومات المضللة أن تقوِّض الثقة في المؤسسات وتمهد الطريق للاضطرابات الأهلية. لقد أدرك قبل 400 عام أن المعركة على «السرديّة» هي جزء أساسي من الصراع على السلطة.
قد لا يمكن الحديث عنه دون الإشارة إلى الجدل المثير الذي يحيط بعلاقته بأعظم كاتب مسرحي في التاريخ، ويليام شكسبير، حيث يزعم أنصار النظرية «البيكونية» أن بيكون هو المؤلف الحقيقي لمسرحيات شكسبير. وعلى الرغم من أن الأوساط الأكاديمية السائدة ترفض هذا الطرح، فإنها تظل جزءاً آسراً من إرثه، وتُظهر حجم العبقرية الفذة التي تمتع بها هذا الرجل، لدرجة أن البعض يرى أنه الوحيد القادر على كتابة تلك المسرحيات الخالدة.
وبينما يحتفل العالم في عام 2025 بمرور 400 عام على صدور «المقالات»، تستعد المؤسسات الثقافية البريطانية للاحتفال بذكرى كبرى في العام المقبل، 2026، وهي مرور 400 عام على وفاته، حيث تقود جمعية فرنسيس بيكون التي تأسست عام 1861 فعاليات مهرجان «بيكون 400» التي تهدف إلى إعادة استكشاف إرثه المتعدد الأوجه، وأثره العميق في فكر عصر التنوير.
