في حبّ الحمير... مزرعةٌ نموذجيّة تغيّر النظرة إلى الحيوان المظلوم

مشروعٌ متكامل في جبل لبنان يحيي السياحة البيئية ويقرّب الأطفال من الطبيعة

في «مزرعة المعاصر للحمير» الاهتمام بالغ بحيوان معذّب ونادر الوجود (الشرق الأوسط)
في «مزرعة المعاصر للحمير» الاهتمام بالغ بحيوان معذّب ونادر الوجود (الشرق الأوسط)
TT

في حبّ الحمير... مزرعةٌ نموذجيّة تغيّر النظرة إلى الحيوان المظلوم

في «مزرعة المعاصر للحمير» الاهتمام بالغ بحيوان معذّب ونادر الوجود (الشرق الأوسط)
في «مزرعة المعاصر للحمير» الاهتمام بالغ بحيوان معذّب ونادر الوجود (الشرق الأوسط)

لا فرحةَ تضاهي فرحةَ «فَيْ» وهو يتنقّل بين رفاقه في المزرعة. يناوله طفلٌ بعض الطعام من هنا، ويحتضنه آخر بحبّ، فيما تقترب سيدة لالتقاط صورة معه. «فَي» حمارٌ صغير وُلد قبل شهر في «مزرعة معاصر الشوف للحمير». يمكن القول إنه موعودٌ بحياةٍ مثالية بمجرّد أنه أبصر النور في هذا المكان. فهُنا لا أحمال ثقيلة ستُلقى على ظهره، ولن تلمس وبرَه الأسود لسعةُ السوط، ولن يهينَه أحدٌ بالقول: «يا حمار».

«فَي» أصغر حمار في المزرعة ولد قبل شهر (إنستغرام)

ينظر شبلي أبو عاصي برِضا إلى الحمير العشرين المصطفّة، بانتظار أطفالٍ يزورون المزرعة ويذهبون في جولة على ظهرها. «وصلنا إلى عدد لا بأس به من الحمير بعد 5 سنوات على افتتاح المكان»، يخبر مؤسِّس المزرعة «الشرق الأوسط». اعتمد أبو عاصي، المتخصص في الهندسة الزراعية وعلوم الحيوان، على المزاوجة للحصول على هذا العدد. يوضح أنه «على عكس ما يظنّ الناس، فإنّ الحمير باتت نادرة الوجود، أما إذا عثرنا عليها، فتكون بمعظمها في حالٍ يُرثى لها لفرط ما تعرّضت له من أحمالٍ ثقيلة وتعنيف». لذلك، فإنّ ركوبها في مزرعة معاصر الشوف يقتصر على الأطفال، خوفاً من أن تحمل أكثر من طاقتها.

شبلي أبو عاصي صاحب المشروع والمتخصص في علوم الحيوان والهندسة الزراعية (الشرق الأوسط)

في ماضٍ قريبٍ، لم تكن الشاشة الإلكترونية تملك فيه حصريّة تسلية الصغار، اختبر أبو عاصي طفولةً نموذجية في قريته القابعة على ارتفاع 1300 متر في جبل لبنان. «كل ما عشتُه طفلاً هنا خلال عطلة نهاية الأسبوع والإجازات الصيفيّة، أردتُ أن يختبره زوّار المزرعة»؛ من تذوّق المتّة مع أعشاب الموسم كالخزامى وإكليل الجبل، مروراً بتكسير الجوز واللوز والصنوبر وتقشيرها، وصولاً إلى ملاعبة الحيوانات وإطعامها، وليس انتهاءً بالجولة على الحمير، نجوم المزرعة من دون منازع. يمكن كذلك قضاء ليلة أو أكثر في المزرعة، فالمكان مجهّز بغرف المنامة التي تستقبل الزوّار صيفاً وشتاءً.

تضمّ المزرعة غرفاً لاستضافة الزوار الراغبين بقضاء ليلة فيها (الشرق الأوسط)

هنا «ياسمينا» تجلس أرضاً محتضنةً أرنباً، فيما يعدو شقيقها «جورج» خلف الإوزّ. يلهوان إلى حين حلول اللحظة المنتظرة. تطلّ «سلطانة» ليتناوب الطفلان على التجوّل عليها، بمواكبةٍ من أحد عمّال المزرعة. «لا خطر إطلاقاً على الأطفال»، يطمئن أبو عاصي مضيفاً أن الحمار بطبيعته حيوان لطيف جداً ويُغدق حناناً وعاطفة على كل من يدنو منه. يذهب إلى حدّ القول إنّ «مجاورة الحمير والاهتمام بها هي بحدّ ذاتها علاج يريح النفوس ويمنحها السعادة».

نادراً ما يقوم الحمار بردّ فعلٍ عنيف، فإذا عوملَ جيداً فمن المستحيل أن يؤذي. يوضح أبو عاصي أنّ الحالات النادرة التي من الممكن أن يرفس أو يعضّ فيها، هي المبالغة في الضرب، أو إذا أصيب بلسعة نحلة أو أفعى، وهذه تكون ردود فعل وليس بقصد الإيذاء.

لا يُسمح سوى للأطفال بركوب الحمير تفادياً لتحميلها أكثر من طاقتها (الشرق الأوسط)

يربّت «جورج» على ظهر «سلطانة» شاكراً إياها على الجولة الجميلة. مَن يرى المشهد يصعب عليه التصديق أنه، وخلال سنواتٍ من الآن، ربما يستخدم الطفل كلمة «حمار» بهدف إهانة أحدٍ ما، على غرار ما يفعل كثيرون حول العالم وبكل اللغات.

«وحدَهم مَن لا يدركون قيمة الحمار يستخدمون اسمَه بهدف التنمّر أو التحقير»، يقول أبو عاصي. وفق خبرة الشاب وما هو مثبت علمياً، فإنّ الحمير ذكية جداً. «هنا، كلما نادينا واحداً منها باسمِه التفتَ إلينا أو اتّجه صوبنا. كما أنها تحفظ الناس بمجرّد رؤيتها مرةً واحدة».

يحفظ الحمار كذلك كل طريقٍ يسلكها، مهما كانت وعرة وشائكة، كما أنه يستشعر المخاطر. «يعتقد الناس أن رفضه سلوك طريقٍ معيّن ينمّ عن غباء أو عناد، لكنهم لا يعرفون أن الأمر نابع من الحذر والحرص على السلامة»، يقول أبو عاصي.

إضافةً إلى الذكاء، يتّسم الحمار بهدوئه وصبره. «مهما حُمّل من أثقال، فإنه لا يتذمّر ويتابع السير، وهذا أيضاً يدفع بالبشر إلى استغبائه والاستخفاف به»، وفق أبو عاصي.

يتّسم الحمار بذكائه ولطفه وقربه من الناس (الشرق الأوسط)

خلال رحلة البحث عن حمير للمزرعة، عاين الشاب حالاتٍ يُرثى لها؛ من تشوّهات بسبب الضرب المبرح، إلى انخساف في الظهر بسبب الأوزان الزائدة التي يُرغم على نقلها لمسافات طويلة. هذا عدا عن الأثر النفسي الذي يتركه التعنيف على الحمار، ما ينعكس عزلةً وعدم رغبة في الاختلاط.

وإذا كانت المزرعة تقدّم نموذجاً في السياحة البيئية والقروية وتتيح أمام زوّارها التخلّص من سموم التكنولوجيا والضجيج والتلوّث على أنواعه، فإنها تقدّم كذلك ملجأً مثالياً بالنسبة إلى حيوانٍ على طريق الانقراض. مثلما نرفّه عن ضيوفنا، كذلك نرفّه عن الحمير وسائر الحيوانات بأن نمنحها مساحات للجري والتعرّض للشمس، إضافةً إلى الاهتمام بطعامها ونظافة مساكنها»، يخبر أبو عاصي.

حليب الحمير مفيد جداً للصحة كما يُصنع منه الصابون المفيد للبشرة (الشرق الأوسط)

في المقابل، لا تبخل الحمير بحليبها على المزرعة. ومن المعروف عن هذا الحليب أنه مفيد جداً للصحة، تحديداً لتحصين المناعة ومحاربة الحساسية، كما يُصنع منه صابون مفيد جداً للبشرة.

عملية صناعة الصابون من حليب الحمير هي جزءٌ من تجربة زوّار المزرعة صغاراً وكباراً. باستطاعتهم كذلك اكتشاف تقنيّة تقطير الخزامى لاستخراج الزيت والماء العطري ذات المنافع الكثيرة. ومن بين الأنشطة التي نقلها شبلي أبو عاصي من زمن طفولته إلى المشروع، تحضير المونة البلديّة، ورحلات قطف الفاكهة على ظهر الحمار، وتناول الغداء ذات المكوّنات الطبيعية العضويّة في الحقل بين الأشجار وفي ظلّ محميّة أرز الشوف.

لا تكتمل التجربة من دون تذوّق الأطباق ذات المكوّنات العضويّة (إنستغرام)

لم يحقق شبلي أبو عاصي حلم الطفولة فحسب بإنشاء هذا المشروع، إنما أكمل ما أسّس والده الدكتور عادل يوم وضع اللُبنة الأولى، طامحاً لتحقيق الاكتفاء الذاتي؛ من خزّان تجميع مياه الأمطار، إلى حديقة المزروعات العضويّة فوق سطح المنزل، والأراضي المزروعة بأشجار الفاكهة، وليس انتهاءً بحيوانات المزرعة. أما الزوّار فيعيشون بدورهم جزءاً من الحلم، لمجرّد إمضاء بعض الوقت وسط حيواناتٍ تُغدق حباً مجانياً وطبيعة صامتة رغم جمالها الصاخب.


مقالات ذات صلة

دراسة: امتلاك كلب يعزز الصحة النفسية للمراهقين

يوميات الشرق كلب يرتدي أغطية للأرجل للحماية من المطر في نيويورك (أ.ف.ب)

دراسة: امتلاك كلب يعزز الصحة النفسية للمراهقين

كشفت الأبحاث أن وجود كلب في المنزل قد يُعزز الصحة النفسية للمراهقين، ويضيف العلماء أن هذا قد يُعزى جزئياً إلى مشاركة الميكروبات.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق السلحفاة «غرامّا» تأكل جذع موز في حديقة حيوان سان دييغو بالولايات المتحدة 17 مايو 2023 (أ.ب)

نفوق السلحفاة «غرامّا» الشهيرة عن عمر 141 عاماً

نفقت «غرامّا»، السلحفاة العملاقة التي عاشت أكثر من 141 عاماً، في حديقة سان دييغو بأميركا، بعدما أصبحت رمزاً محلياً وواحدة من أقدم السلاحف المعروفة عالمياً.

«الشرق الأوسط» (سان دييغو (الولايات المتحدة))
يوميات الشرق إندونيسيا من الدول القليلة التي لا تزال تسمح ببيع لحوم الكلاب والقطط (أ.ف.ب)

جاكرتا تحظر استهلاك لحوم الكلاب والقطط

أصبح استهلاك لحوم الكلاب والقطط والحيوانات الأخرى التي يمكن أن تنقل داء الكلب محظوراً في جاكرتا، على ما أفاد به مسؤول إندونيسي، الثلاثاء.

«الشرق الأوسط» (جاكرتا)
يوميات الشرق حياةٌ تعود خطوة خطوة إلى الطائر الجريح (أ.ب)

إنقاذ درامي لبومة سقطت في خلاط أسمنت

من المُتوقَّع أن تتمكّن من الطيران مجدداً بعد عملية تنظيف مُضنية أجراها عاملون في مأوى حيوانات وصفوا الطائر بأنه «مُقاتل».

«الشرق الأوسط» (يوتا (الولايات المتحدة))

جيسيكا ألبا تكشف عن مشروع سينمائي مع هيفاء المنصور

جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
TT

جيسيكا ألبا تكشف عن مشروع سينمائي مع هيفاء المنصور

جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)
جيسيكا ألبا خلال حضورها مهرجان البحر الأحمر (إدارة المهرجان)

كشفت الفنانة الأميركية جيسيكا ألبا عن ملامح مشروع سينمائي جديد يجمعها بالمخرجة السعودية هيفاء المنصور، مشيرة خلال ندوتها في «مهرجان البحر الأحمر السينمائي» إلى أن هذا التعاون لم يتشكل بين ليلة وضحاها، بل جاء نتيجة نقاشات طويلة امتدت على مدار سنوات.

وأوضحت في اللقاء الذي أقيم، الجمعة، أن الفكرة التي استقرتا عليها تدور حول قصة إنسانية عميقة تتناول علاقة ابنة بوالدها المتقدّم في العمر، ضمن سردية تقترب من تفاصيل العائلة وتحولاتها، وتسلّط الضوء على هشاشة العلاقات حين تواجه الزمن، وما يتركه ذلك من أسئلة مفتوحة حول الذاكرة والواجب العاطفي والمسؤولية المتبادلة.

وأضافت أن ما شدّها إلى المشروع ليس موضوعه فقط، بل الطريقة التي تقارب بها هيفاء المنصور هذه العلاقات الحسّاسة وتحولها إلى لغة بصرية تتسم بالهدوء والصدق، لافتة إلى أن «هذا التعاون يمثّل بالنسبة لي مرحلة جديدة في اختياراتي الفنية، خصوصاً أنني أصبحت أكثر ميلاً للأعمال التي تمنح الشخصيات النسائية مركزاً واضحاً داخل الحكاية، بعيداً عن الأنماط التقليدية التي سيطرت طويلاً على حضور المرأة في السينما التجارية».

وأشارت إلى أنها تبحث اليوم عن قصص تستطيع فيها المرأة أن تظهر بوصفها شخصية كاملة، تملك مساحتها في اتخاذ القرارات والتأثير في مسار الحكاية، وهو ما تراه في مشروعها مع المنصور، الذي وصفته بأنه «قريب من قلبها»؛ لأنه يعيد صياغة علاقة الأم والابنة من منظور مختلف.

وخلال الندوة، قدّمت ألبا قراءة موسّعة لتغيّر مسارها المهني خلال السنوات الأخيرة، فهي، كما أوضحت، لم تعد تنظر إلى التمثيل بوصفه مركز عملها الوحيد، بل بات اهتمامها الأكبر موجّهاً نحو الإنتاج وصناعة القرار داخل الكواليس.

وأكدت أن دخولها عالم الإنتاج لم يكن مجرد انتقال وظيفي، وإنما خطوة جاءت نتيجة إحساس عميق بأن القصص التي تُقدَّم على الشاشة ما زالت تعكس تمثيلاً ناقصاً للنساء وللأقليات العرقية، خصوصاً للمجتمع اللاتيني الذي تنتمي إليه.

وتحدثت ألبا عن تجربة تأسيس شركتها الإنتاجية الجديدة، معتبرة أن الهدف منها هو خلق مساحة لصناع المحتوى الذين لا يجدون غالباً فرصة لعرض رؤاهم، موضحة أن «غياب التنوّع في مواقع اتخاذ القرار داخل هوليوود جعل الكثير من القصص تُروى من زاوية واحدة، ما أدّى إلى تكريس صور نمطية ضيّقة، خصوصاً فيما يتعلّق بالجاليات اللاتينية التي غالباً ما تظهر في الأعمال ضمن أدوار مرتبطة بالعنف أو الجريمة أو الأعمال الهامشية».

وشددت على أنها تريد أن تساهم في معالجة هذا الخلل، ليس عبر الخطابات فقط، بل من خلال إنتاج أعمال تظهر فيها الشخصيات اللاتينية والعربية والنساء بصورة كاملة، إنسانية، متنوّعة، لافتة إلى أن تنوّع التجارب الحياتية هو العنصر الذي يجعل صناعة السينما أكثر ثراء، وأن غياب هذا التنوع يجعل الكثير من الكتّاب والمخرجين عاجزين عن تخيّل شخصيات خارج ما اعتادوا عليه.

وأضافت أن مهمتها اليوم، من موقعها الجديد، هي فتح المجال أمام أصوات غير مسموعة، سواء كانت نسائية أو تنتمي إلى أقليات ثقافية واجتماعية، لافتة إلى أنها تعمل على تطوير فيلم جديد مع المخرج روبرت رودريغيز، يعتمد على مزيج من الكوميديا العائلية وأجواء أفلام السرقة، مع طاقم تمثيل لاتيني بالكامل.

وأوضحت أن هذا العمل يأتي امتداداً لرغبتها في دعم المواهب اللاتينية، وفي الوقت نفسه تقديم أعمال جماهيرية لا تُختزل في سرديات العنف أو الهوامش الاجتماعية، واصفة المشروع بأنه خطوة مختلفة على مستوى بنية الحكاية؛ لأنه يجمع بين الترفيه والأسئلة العائلية، ويقدّم الشخصيات اللاتينية في إطار طبيعي وغير مصطنع.

وتوقفت جيسيكا عند مشاركتها المرتقبة في فيلم «الشجرة الزرقاء»، ويتناول علاقة أم بابنتها التي تبحث عن استقلاليتها رغم حساسية ظروفها موضحة أن ما جذبها لهذا العمل هو طبيعته الهادئة، واعتماده على بناء علاقة حميمة بين شخصيتين، بعيداً عن الصراعات المفتعلة، معتبرة أن هذا النوع من الحكايات يمثّل مرحلة أصبحت قريبة جداً منها في هذه الفترة من حياتها.


«الآثار المسترَدة»... محاولات مصرية لاستعادة التراث «المنهوب»

جهود مصرية متواصلة لاسترداد الآثار المهرَّبة إلى الخارج (وزارة السياحة والآثار)
جهود مصرية متواصلة لاسترداد الآثار المهرَّبة إلى الخارج (وزارة السياحة والآثار)
TT

«الآثار المسترَدة»... محاولات مصرية لاستعادة التراث «المنهوب»

جهود مصرية متواصلة لاسترداد الآثار المهرَّبة إلى الخارج (وزارة السياحة والآثار)
جهود مصرية متواصلة لاسترداد الآثار المهرَّبة إلى الخارج (وزارة السياحة والآثار)

في إطار الجهود المصرية المستمرة للحفاظ على التراث وحمايته واستعادة الآثار المصرية المنهوبة من الخارج وصيانتها، تعدَّدت الجهود الرسمية والأهلية والبحثية والأكاديمية للعمل على حفظ التراث واستعادة الآثار المُهرَّبة، واستضافت مكتبة الإسكندرية مؤتمراً علمياً، بالتعاون مع مؤسسة ألمانية، تناول استرداد الآثار المصرية من الخارج، وحفظ وصيانة التراث.

وركز المؤتمر على تجارب مصر في استرداد القطع الأثرية التي خرجت من البلاد بطرق غير قانونية، سواء عبر المتاحف الأجنبية أو الأسواق غير المشروعة. وشارك فيه عدد من المسؤولين والخبراء المصريين والدوليين، وتم عرض نماذج بارزة من الآثار المسترَدة حديثاً، مثل التوابيت المذهبة والقطع الخشبية النادرة، مع مناقشة الإجراءات القانونية والدبلوماسية التي اعتمدتها مصر لاستعادة هذه القطع الأثرية وحمايتها بوصفها جزءاً من التراث العالمي.

وأكد عالم الآثار المصرية، الدكتور حسين عبد البصير، أن هذه الجهود تمثل رسالةً قويةً للعالم حول أهمية حماية التراث الثقافي المصري والعربي والعالمي، وأن استعادة كل قطعة أثرية هي خطوة نحو الحفاظ على الهوية الوطنية وإعادة حق الأجيال القادمة في التراث الحضاري لمصر، والعالم العربي، والعالم.

وأضاف لـ«الشرق الأوسط» أن دور المجتمع المدني والجمعيات الأثرية مهم في دعم هذه الجهود، من خلال التوعية، والبحث العلمي، والتعاون مع المنظمات الدولية؛ لتقوية موقف مصر القانوني في مواجهة التجارة غير المشروعة بالآثار.

جانب من المؤتمر الذي ناقش الآثار المسترَدة وحفظ التراث (الشرق الأوسط)

وتحت عنوان «الاتجار بالآثار سرقة للتاريخ وطمس للهوية»، تحدَّث الدكتور شعبان الأمير، أستاذ ترميم الآثار ومواد التراث بكلية الآثار بجامعة الفيوم، وتناول التنقيب والاتجار بالآثار وتقارير اليونيسكو حول هذه العمليات، التي تُقدَّر بنحو 10 مليارات دولار سنوياً، وهي ثالث أكبر عملية تجارية بعد المخدرات والسلاح على مستوى العالم.

وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «حماية التراث واجب وطني ومجتمعي، والاتجار بالآثار يعدّ سرقةً للتاريخ وطمساً ومحواً وفقداناً للهوية». وأشار إلى أن المؤتمر تناول أبحاثاً حول تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والهندسة، والكيمياء، والوعي المجتمعي، وغيرها من الموضوعات التي اهتمت بكيفية حماية التراث والآثار، والحد من عمليات التنقيب غير الشرعي، وعمليات التسجيل والتوثيق والفحص والتحليل تمهيداً لعمليات الترميم والصيانة والحفظ والعرض المتحفي أو بالمواقع الأثرية.

وفي ورقة بحثية بالمؤتمر، تناولت الدكتورة منى لملوم، قوة الميديا ووسائل الإعلام المختلفة في المطالبة باسترداد الآثار، مشيرة إلى الحملات التي تقوم بها وسائل الإعلام من أجل الضغط لاسترداد الآثار المُهرَّبة من مصر بطرق غير مشروعة. وأضافت لـ«الشرق الأوسط» أنها «تناولت كثيراً من النماذج، منها استعادة تمثال من أميركا عام 2019 بجهود رسمية كبيرة، بالإضافة إلى قوة الإعلام، وكذلك الضغط من خلال حملات صحافية وأهلية، إلى جانب الجهود الحكومية لاستعادة آثار مصرية مهمة مثل رأس نفرتيتي من ألمانيا، وجدارية (الزودياك) أو الأبراج السماوية من متحف اللوفر، فضلاً عن استعادة حجر رشيد من المتحف البريطاني».

ولفتت د. منى إلى دور الدراما والسينما في التعامل مع الآثار والتاريخ مثل فيلم «المومياء» من إخراج شادي عبد السلام الذي لعب دوراً إيجابياً وصُنِّف من أهم 100 فيلم مصري في القرن الـ20، وهناك نماذج سلبية مثل مسلسل «كليوباترا» الذي أنتجته «نتفليكس» وقوبل بهجوم شديد لتجسيد الملكة المصرية بممثلة سوداء، و«اضطرت الشبكة إلى تغيير تصنيف الفيلم من (وثائقي) إلى (درامي) تحت ضغط (الميديا)» على حد تعبيرها.


«الملحد» للعرض في السينمات المصرية بعد معركة مع الدعاوى القضائية

«الملحد» تعرَّض لعدد من الدعاوى القضائية التي طالبت بمنع عرضه (الشركة المنتجة)
«الملحد» تعرَّض لعدد من الدعاوى القضائية التي طالبت بمنع عرضه (الشركة المنتجة)
TT

«الملحد» للعرض في السينمات المصرية بعد معركة مع الدعاوى القضائية

«الملحد» تعرَّض لعدد من الدعاوى القضائية التي طالبت بمنع عرضه (الشركة المنتجة)
«الملحد» تعرَّض لعدد من الدعاوى القضائية التي طالبت بمنع عرضه (الشركة المنتجة)

بعد معركة مع الدعاوى القضائية، أعلنت الشركة المنتجة لفيلم «الملحد» طرحه في دور العرض السينمائي بمصر يوم 31 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، بالتزامن مع ليلة «رأس السنة»، بعدما رفضت محكمة القضاء الإداري جميع الدعاوى التي طالبت بمنعه، واستند الحكم إلى حصول الفيلم على التراخيص المطلوبة من الرقابة على المصنفات الفنية، وفق منتجه.

الفيلم الذي كان مقرراً عرضه في شهر أغسطس (آب) 2024، تأجّل طرحه أكثر من مرة بسبب تجدد الدعاوى القضائية، من بينها دعوى المحامي مرتضى منصور، بالإضافة إلى الجدل الذي أُثير حوله عقب عرض «البرومو الترويجي»، واعتبار البعض أنه عمل مسيء من الناحية الدينية، إلى جانب تعرّضه لأزمات أخرى، من بينها التحفّظات الرقابية، وانسحاب الفنان الراحل مصطفى درويش من العمل احتجاجاً على آراء مؤلفه.

لقطة من البرومو الترويجي لفيلم «الملحد» (الشركة المنتجة)

وانتقد عدد من الفنانين والنقاد والجمهور، وبعض صنّاعه، منع الفيلم عبر منشورات «سوشيالية»، مؤكدين أن المنع ليس حلاً، وأن حرية الإبداع حق للجميع، ولا بدّ من المشاهدة قبل الاعتراض لوضع تصوّر كامل عن فكرة أي عمل فني.

من جانبه أكّد المنتج أحمد السبكي أن الفيلم حصل على جميع التراخيص والموافقات الرقابية اللازمة، لافتاً في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «قرار تأجيل العرض كان بسبب المناوشات (السوشيالية) من بعض المحامين، التي حصلت بالتزامن مع طرح البرومو الترويجي، وليس لأسباب أخرى».

وأوضح السبكي أن العرض سيتم دون أي تعديل أو حذف، بعدما أصدر القضاء الإداري حكماً يقضي برفض جميع الدعاوى المقامة لمنع عرضه. وقال: «لا توجد أي إشارة تمنع عرضه، وبحوزتي النصّ القانوني الذي يؤكد أن العمل لا يتضمّن أي إساءة كما اعتقد بعضهم، وقد صدر الحكم قبل المشاهدة».

وأشار السبكي إلى تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على آراء الجمهور قبل مشاهدة العمل، قائلاً: «في عصر (السوشيال ميديا)، يتشكّل رأي الناس بسرعة من خلال البرومو، وهذا أمر طبيعي، لكننا نؤكد أن الحكم النهائي يعود للمشاهد بعد مشاهدة الفيلم كاملاً».

الملصق الترويجي للفيلم (الشركة المنتجة)

واتّفق نقاد على أن المنع يحدّ من حرية الإبداع؛ إذ أكدت الكاتبة والناقدة المصرية صفاء الليثي رفضها لفكرة المنع، خصوصاً بعد حصول الفيلم على الموافقات الرقابية وتصويره بالفعل. وأشارت إلى أن «المنع بعد إنجاز الفيلم مشكلة كبيرة وكارثة على الصناعة، كما أنه أسلوب غير واقعي؛ فالجمهور اليوم يستطيع الوصول إلى كل الأفكار بسهولة، ولم يعد الاطلاع على أي موضوع أمراً صعباً».

وقالت صفاء الليثي في حديثها لـ«الشرق الأوسط» إن «سياسة المنع لا بدّ من التراجع عنها؛ فمن غير المعقول الحكم على عمل من اسمه أو من لقطاته الترويجية. فالأسماء أحياناً تكون وسيلة للجذب التجاري، وكذلك الأمر بالنسبة للبرومو، الذي لا يُفترض أن يكون ملخصاً للفيلم، بل قد يُستخدم فقط لجذب الجمهور. والحكم من خلاله غير صائب، فهو دافع للمشاهدة لا سبب للرفض والمنع».

ويتناول فيلم «الملحد» قضية فكرية واجتماعية بطريقة درامية، من خلال قصة رجل دين متشدّد وابنه الذي يتمرّد على أفكاره ويعلن إلحاده. والفيلم من بطولة أحمد حاتم، وحسين فهمي، ومحمود حميدة، وصابرين، وتارا عماد، ونخبة من الفنانين، وهو من إخراج محمد العدل، وتأليف إبراهيم عيسى، وإنتاج أحمد السبكي.

من جهتها أكدت الناقدة الفنية المصرية فايزة هنداوي أن «حرية الإبداع مكفولة للجميع، وأنها ضدّ المنع مطلقاً»، لافتةً في حديثها لـ«الشرق الأوسط» إلى أن «عرض (الملحد) بعد رفض كبير يُعد مؤشراً جيداً إلى أن الحرية تبقى أول العناصر الضرورية للإبداع».