ليست القطّة ضيفةً طارئةً على الفنّ، فهي كائن مقيم في ذاكرته البصرية منذ فجر الإبداع الإنساني. من جدران المعابد المصرية التي حملت صورتها بوقار الآلهة، إلى ضربات الريشة الجريئة لدى بيكاسو وماتيس، ومن الخطوط الحالمة عند بول كلي وميرو، إلى الأحلام الملوّنة لشاغال، ظلَّت القطّة تعبُر القرون والحدود، محافظة على سحرها الخاص؛ خليط من الاستقلال والغموض والنعومة الماكرة.

في هذا الصيف البيروتي، اختارت «غاليري آرت سين» في قلب منطقة الجميزة أن تجعل القطّة محور احتفال فنّي متنوّع حمل عنوان «قطط على القماش». المعرض استضاف أعمال فنانين مخضرمين وأسماء صاعدة، في تجربة جماعية بدت كأنها مساحة حرّة تتيح لكلّ فنان أن يُقدّم رؤيته لهذا الكائن المُلهم، سواء أكان موضوعه الأليف في الحياة اليومية، أو رمزاً أسطورياً، أو شخصية مُتعالية تمشي في لوحته كما تمشي القطّة في العالم: بثقة، وبلا استعجال، وبإحساس أنها مالكة المكان.

تتحدَّث مؤسِّسة الغاليري رانيا حمود عن علاقتها بالقطط. تقول إنها ليست عابرة، فقد عاشت معها سنوات في مقرّ الغاليري القديم، حيث كانت تتحرَّك بحرّية بين الأعمال، وتُشارك الفنانين أوقات العمل مثل رفاق صامتين يمنحون المكان دفئاً خاصاً. بعد انتقالها إلى المقرّ الجديد، شعرت بفراغ غيابها، رغم أنها لا تزال تعيش مع قطّيها «سمسم» و«زعتر» في المنزل. ومع ملاحظتها أنّ كثيراً من الفنانين يحتفظون بقطط تُلازمهم في مراسمهم وتُلهمهم، قرَّرت أن تمنح هذا الحضور الفريد مساحةً كاملةً على الجدران.

الحرّية كانت العنوان الأهم في دعوة رانيا حمود للفنانين المُشاركين، فلم تضع شروطاً أو قيوداً، وإنما فتحت أمامهم الباب ليُقدّم كلّ منهم القطّة كما يراها. فجاءت النتائج متعدّدة الألوان والوسائط: رسم زيتي، تصوير فوتوغرافي، كولاج، نحت، أعمال باستخدام «السبراي» وفنون الشارع، وحتى قطع تجريبية بمواد غير مألوفة. كانت القطّة أحياناً حنونةً وهادئةً، وأحياناً أخرى غامضةً ومتأهّبةً، أو متجسِّدة على هيئة رمز لأسطورة قديمة.
وتشير حمود في لقاء مع «الشرق الأوسط» إلى أنّ بعض الفنانين لم يخفوا تأثّرهم الواضح بأعمال عمالقة الفنّ مثل بيكاسو وماتيس، خصوصاً في الجرأة اللونية واستخدام الخطوط الحرّة، فيما حملت أعمال أخرى روح ميرو أو شاعرية شاغال؛ كأنَّ المعرض استعاد، عبر القطط، حضور هؤلاء الكبار من بوابة جديدة. وفي بعض اللوحات، رُسمت القطّة بأسلوب البورتريه، كأنها شخصية تاريخية تملك الهيبة والوقار.

أما عن الفرق بين رؤية الفنانين المخضرمين والمواهب الجديدة، فترى حمود أنّ الفوارق ليست صارخةً، مُستشهدةً بأعمال حسين ماضي الذي اكتفى بخطّ واحد لرسم القطّة ببساطة مُدهشة، وبإبراهيم مرزوق الذي منحها بأسلوبه الحديث حضوراً لافتاً. ومع ذلك، فقد لجأ بعض الفنانين الشباب إلى تقنيات أكثر جرأة وعصرية، مثل استخدام الورق المعجّن أو المزج بين الكولاج وفنون الشارع بألوان نابضة وحيوية.

بالنسبة إليها، الموضوع أعمق من مجرّد صورة جمالية: «القطط ليست عنصراً بصرياً فحسب؛ هي مرآة لحالاتنا النفسية، وانعكاس لحاجتنا إلى الاستقلال، أو العزلة أحياناً، أو حتى الحبّ الهادئ غير المشروط. سلوكها وطباعها تُشبه الفنان الذي يحبّ أن يظلَّ حراً، يُراقب من بعيد، ويختار متى يقترب ومتى يبتعد».
ردود الفعل التي تلقّتها من الزوّار كانت بدورها لوحةً موازية. البعض انجذب للقطط الهادئة التي تكتفي بالنوم في زاوية الشجرة. آخرون أحبّوا القطط المُشاكسة التي ترتدي نظارات أو تلعب دور المحقّق. بعضهم قال إنّ لوحةً معيّنةً ذكّرته بالقطّة التي تُشاركه بيته، بينما ارتبط زوّار باسم الفنان قبل العمل نفسه. هذا التبايُن في التلقّي، بالنسبة إلى رانيا حمود، «يبرهن كيف يمكن لموضوع بسيط أن يلامس الناس بطرق شديدة الاختلاف».

اللافت أنّ «آرت سين» غالباً ما يُنظّم معارض تتناول الحرب والصراعات بأسلوب فنّي معاصر، لكن هذا المعرض جاء على شكل استراحة فرح وبهجة وسط ضغوط الحياة. القطط كانت، بمرحها وصمتها الأنيق، مدخلاً مثالياً لهذه الراحة البصرية والروحية، ولذكريات الطفولة الدافئة التي لا تزال قادرةً على التسلُّل إلى الروح.
هكذا، بدا «قطط على القماش» مساحةَ لقاء بين الفنّ والذاكرة، بين الإنسان والكائن الذي يظلّ، رغم صمته، الأكثرَ قدرة على قول ما يعجز البشر عن التعبير عنه.



