عباس عبد جاسم: الأدب بلغ درجة الاضمحلال

يرى أن ابن خلدون تجنب الحديث عن المستقبل مخافة مما سيؤول إليه

عباس عبد جاسم
عباس عبد جاسم
TT

عباس عبد جاسم: الأدب بلغ درجة الاضمحلال

عباس عبد جاسم
عباس عبد جاسم

عباس عبد جاسم باحث وناقد إشكالي، تحوّل من النقد النصي إلى الفكر النقدي، ليُعنى بالنظرية النقدية العابرة للتخصصات، وما يسميه «النقد البعدي»، ونقد ما بعد الأكاديمية، و«الإزاحة والإبدال في أنساق الكتابة».

في هذا الحوار؛ نحاول فهم شفرات منجزه ما بعد النقدي، بوصفه مشروعاً يتأسس على فكر مركب تركيبة جديدة مثيرة لجدل الاختلاف، والخلاف كذلك من حيث النظرية والممارسة.

> ثمة تحوّل واضح في مشغلك النقدي من حقل «النقد الأدبي» إلى حقل جديد اصطلحت عليه بـ«الفكر النقدي».. فما جديد هذا الحقل، وما سببية هذا التحوّل النوعي؟

- لم يعد النقد الأدبي يمتلك من عناصر القوة والدينامية ما يجعله أكثر قدرة وإمكانية لاستيعاب تعقيدات اللحظة التاريخية المعاصرة من حيث تحوّلات النوع والكم في فكر ما بعد الحداثة، وخاصة بعد أن تراجعت معايير القيمة والذائقة والانطباع الشخصي أمام تقدم مقولات الوعي المركب لتناقضات الواقع، وحتى جماليات الحياة، وفي هذا الحال كان لا بد من الانتقال إلى حقل جديد، اصطلحت عليه بـ«الفكر النقدي» لفهم إشكاليات الرؤية إلى الذات والعالم في القرن الحادي والعشرين بأفق أوسع.

كما أرى أن الفكر النقدي أكثر تمثلاً للضبط المعرفي في فهم قوانين الكتابة العابرة لحقول الأدب على مستوى التفكير النقدي وأنساق ما بعد المعرفة، وخاصة بعد أن أطاحت الكتابة بالأشكال والأنواع الأدبية، حتى تقوّضّت سلطة الناقد الأدبي وتفكّكت مركزيته النقدية.

> قرأنا لك قضايا جديدة في الفكر النقدي، يتقاطع فيها «عبور التخصصات» مع «تعدد التخصصات»، وكأنك في مرحلة عبور آخر لكتابك النقدي «النظرية النقدية العابرة للتخصصات»، لأنه فتح لنا إشكاليات جديدة في (النقد البعدي)... فهل يعني ذلك أننا إزاء مرحلة جديدة من «نقد ما بعد الأكاديمية»؛ بعد تراجع المناهج الوصفية والمعيارية؟

- قبل الإجابة، لا بد أن أوضح أنه منذ منتصف الثمانينات، حدث تحوّل عميق، فقد انتقل النقد إلى وضع إبستيمولوجي (معرفي) جديد من المجال الأكاديمي إلى ما بعد الأكاديمي، وبذلك دخلت النقدية في طور جديد من الانتقال من المناهج السياقية إلى المناهج النصية، ولكن ثمة مشكلة - إن لم نقل إشكالية جديدة تنطوي على عدة مشكلات؛ واجهت النقد الأكاديمي – لم تنبثق من عزلة الناقد الأكاديمي عن الوسط الاجتماعي، وإنما من عزلة النقد الأكاديمي عن المعرفة الوفيرة التي توصّل إليها البحث النقدي في العالم.

ومن جدل النظرية مع الواقع؛ اتجه الفكر النقدي نحو نظرية متحوِّلة، تتجاوز حدود النظرية النقدية التي توصّل إليها أدورنو وهوكهمير، وتتخطى التفكير المحدود لــ«البعد الواحد» لهربرت ماركوز، وتمثلت أولى إرهاصات التحوّل النقدي في كتاب «ما بعد النظرية » للماركسي تيري إيغلتون، ويمكن الاصطلاح عليها بــ«نظرية اللانظرية »، ولكن ما بعد النظرية أخذت تتشكل بحيوات متجدِّدة، لتتجاوز التفكير السائد، التي تفتقد الضبط المعرفي للأنساق بوعي محكم ومتماسك، باستثناء أطروحة مغمورة لأدورنو لم ينتبه إليها أحد، هي «النقد البعدي لنظرية المعرفة – دراسات عن هوسرل والنقائض الظاهراتية»، وهي أول أطروحة تلقّفت شفرات ما بعد النظرية النقدية برؤية ما بعد حداثية من جهة، وتبنت فكرة العبور التخصصي برؤية ما بعد مناهجية.

> لعلك أول مَن تنبّه إلى «غياب المستقبل» في مقدّمة ابن خلدون في كتابك «في النهضة والتنوير والحداثة البعدية»، وأرى أن فكرة المستقبل بنية مهيمنة في تفكيرك النقدي – كيف يمكن أن نتشوّف المستقبل برؤية جديدة؟

- لم يتبن ابن خلدون الزمن الدائري الذي يتعارض كلياً مع فكرة تقدم الزمن أو الامتداد الأفقي للزمن، فهل أراد مَن توظيف المستقبل للماضي أن ينفي فكرة التقدم؟، وسواء أجاء المستقبل في «بُعد حضاري أم بُعد زماني»، فإن ما يعنينا أكثر: الكيفية التي انكفأ بها ابن خلدون على ذاته في «تشوّف المستقبل»، ليتخذ من «الدورة العصية» المفتاح الرئيسي لتدوير هذه الإشكالية من دون حل لها.

> إذن؛ ما تفسير سكوت ابن خلدون عن المستقبل؟

- إن كان الجابري يرى أن سكوت ابن خلدون عن المستقبل «لم يكن مجرّد سكوت، بل عدم قدرة على الكلام»، فإنه لم يحدّد سبب عدم قدرة ابن خلدون (على الكلام) بوضوح ودقة. لقد افتقد ابن خلدون القدرة على الكلام، بعد أن توجّس خيفة مما سيؤول إليه المستقبل من تفكّك اجتماعي وسقوط سياسي للدولة الإسلامية، ولكن مم كان خائفاً؟ وممن؟

لذا لم يتحرّر المستقبل من سجن الماضي، لأن الماضي كان بنية مهيمنة تحكّمت باتجاهات الصراع حول منازع الملك بعد فساد العصبية التي كانت مصدر قوة الدولة، أما الحاضر، فقد كان يشكل جوهر هذه الإشكالية بينهما، لأنه جزء حيوي من المسكوت عنه، وخاصة ما يتعلق بالكيفية التي اندمج فيها الماضي بالمستقبل في مفهوم زمني هو «مستقبل الماضي»؟

وبذا، أراد ابن خلدون أن يتجنّب المساءلة في تلك اللحظة التاريخية الملتبسة بتفكك الدولة الإسلامية، وأن يمارس أسلوب «المكر الحميد» في تعمية المستقبل، وذلك باستخدام أقصى سياقات الإزاحة في (التورية).

> لا شك أنك تسعى في كتابك «الأدب والكتابة – الإزاحة والإبدال» إلى تأسيس أنساق جديدة عابرة للبنى الأدبية المألوفة كاستبدال الكتابة بالأدب... هل تراجعت الأجناس الأدبية أمام تقدم أنساق الكتابة؟

- عندما أنظر إلى المستقبل، أرى أن الأدب صائر إلى زوال، وخاصة بعد أن تفكّك الأدب بظهور الكتابة، حتى أطاحت به بصيغ متعدّدة من الانفتاح الأجناسي أو الترافد الأجناسي، لهذا فإن ما يعنينا منها: البنيات الإبدالية، وأشكال الحساسية الجديدة في الكتابة العابرة للأجناس.

لقد بلغ الأدب درجة الاضمحلال، ولم يعد يمتلك من عناصر القوة والبقاء ما تجعله يتشكل بحيوات جديدة، وبذا فهو سائر باتجاه نقطة الصفر، ونقطة الصفر تعني غياب الحدود بين الأجناس الأدبية.

> على الرغم من إنجازاتك الدالة في الميتا سرديات التي دخلت الدرس النقدي، فإنك توقفت عن الكتابة فيها تنظيراً وممارسة... فما تعليل ذلك؟

- تنتمي الميتا سرديات إلى مرحلة مبكّرة من مشاغلي النقدية، وكانت تمثل أعلى تمرّد في نطاق الكتابة القصصية والروائية - سرداً ونقداً - في مرحلة اتسمت باتجاهات متعاكسة من صراع المفاهيم والأفكار النقدية، وخاصة مع نقاد وأكاديميين مؤثرين في صياغة البنى النقدية، وكنت أنتمي إلى جيل متمرِّد محايث للستينات، وقد بلغت درجة الاصطدام بيننا مستويات حادة وعنيفة، بين آيديولوجيا لم تنهزم بعد وآيديولوجيا لم تتثبت بعد من حيث الأفكار والتوجهات، وغالباً ما كانت تنتهي المساجلات المتوترة بيننا إلى طريق مسدود، عبر معارك موثقة في الصحافة الثقافية، وغالباً ما كانت تجري المعارك والمساجلات في مؤتمرات وملتقيات وندوات نقدية، وفي الصحافة الثقافية، وقد وثقت بعض هذه المساجلات في كتابي «الكتابة بأفق الاختلاف». إلا أنني أدركت فيما بعد؛ ضرورة التحوّل باتجاه الفكر النقدي على وفق قناعتي بأننا نعيش في عصر البنى المتحوّلة والأنساق المتغيّرة، وأن ثمة قضايا جديدة زحزحت البنى السردية السائدة.

> هناك مَن يرى أنك «ناقد إشكالي على صعيد المعرفة»... كيف نفهم هذه الإشكالية في الفكر النقدي؟

- يعد كتاب «ثقافة الناقد الأدبي» للدكتور محمد النويهي أول كتاب تأثرتُ به، وأنا شاب من حيث قاعدة العمر والتجربة، وقد أغرتني كلمة «ثقافة»، لدرجة هيمنت على وعيي الذاتي، ولم أتحرّر منها حتى الآن، وإلّا فبم يتميّز الناقد عن الكاتب؟ ألم يكن محمود أمين العالم، وغالي شكري، ولويس عوض مثقفين قبل أن يكونوا نقاداً؟ وعلى نحو مختلف، تأثرت بأفكار نيتشه، ولا أستطيع أن أخفي انحيازي إلى هذا المفكر الإشكالي.

وقد تبيّن لي فيما بعد، أن الكاتب غير المثير لجدل الاختلاف، وحتى الخلاف كذلك، كاتب عادي، ويتمثل الاختلاف في الكتابة في كيفية «كسر النمط» بنمط آخر بقوة الدال المغاير له، وقد يكون الاختلاف في كفية تدمير سلطة النموذج بجماليات جديدة في الخروج عليه، ولكل ذلك، فالاختلاف ينبني بوجه عام على كيفية زحزحة قوانين البنيات القائمة بقوانين عمل جديدة.

إذن «الاختلاف، والخلاف كذلك» ناتجان عن «إشكاليات» مركبة تركيبة طباقية، ترتبط بواقع إشكالي بالأساس، وبذا فإن علاقة هذه الإشكالية بالكتابة لا تنتمي عندي إلى ما هو أدبي أو ما هو ثقافي، ولا تقع في المنطقة الوسطى، وإنما تنطلق من بنيات تحتانية باتجاه الوعي بالبنيات الفوقانية، عبر المرور بالمتون المعرفية، لهذا فهي نتاج تصادم سياقي وتقاطع نسقي بين «قراءات متصارعة»، قائمة على مبدأ نفي النفي بحيوات متجدّدة.

ويمكن اختزال تناقضات الفكر النقدي بإشكاليات عدة، منها إشكالية فلسفة الفلسفة في الفكر النقدي، ابتدءاً من كتابي الأول «مشاكل التأويل العربي أواليات - التأويل وأوالاته المعرفية»، لأن الفكر عندي شبيه بــ«المشكال»، فـــ«المشكال»؛ آلة تتألف من أنبوب زجاجي يحتوي على مرايا صقيلة، وأشياء صغيرة ملوّنة، تتحرّك داخل الأنبوب، تتولد منها صور مختلفة الألوان والأشكال لدرجة تحوّل اللون والشكل في اللحظة التي نسعى فيها لتثبيته إلى لون أو شكل آخر مغاير لذاته.


مقالات ذات صلة

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

ثقافة وفنون المؤرخة أود دو كيروس

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن».

شرف الدين ماجدولين
ثقافة وفنون عباس محمود العقاد

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي.

رشا أحمد (القاهرة)
ثقافة وفنون تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس
TT

الفن المعاصر من الجمالية إلى صناعة القيمة

المؤرخة أود دو كيروس
المؤرخة أود دو كيروس

لعل من أهم سمات الكتابات النقدية المواكبة لتحولات الفن المعاصر عبر العالم، تلك التي تقرنه دوماً بمسعى الانزياح الجذري بدلالات كلمة «فن»، على نحو يجعله معاكساً في كثير من الأحيان لتقاليد التشكيل البصري الخاضع للقواعد، في الرسم والصباغة والنحت، ومناهضاً لثقافة التحفة المرتكزة على مفاهيم فلسفية، متصلة بأذواق نخب محدودة ذات تكوين فني متين. لتنتقل إلى كونها شاملة لـ«أغراض» تجارية متباينة، موجهة لطبقة جديدة من الأثرياء، منفصلة عن المعايير الجمالية والأكاديمية المستقرة، وخاضعة لنوازع استهلاك المنتج الفاخر، وما يتصل به من رغائب إبراز الرفاه. وهو الفهم الذي يبرز للنظر انتقال الفن من وضع «التعبير الثقافي» إلى كونه تمثيلاً «لانتماء طبقي».

في هذا السياق، يتموضع كتاب «الفن المعاصر، التلاعب والجغرافيا السياسية» (منشورات إيرول، باريس، 2025) - Art contemporain, manipulation et géopolitique- وهو الإصدار الأخير للناقدة ومؤرخة الفن الفرنسية أود دو كيروس Aude de Kirros، التي اكتسبت شهرتها عبر العقود الثلاثة الأخيرة بوصفها من أكبر الباحثات المرتابات في واقع الفن اليوم، ومن أشد المعترضين على اختراقات الفن المعاصر لقواعد التشكيل البصري، ومن أكثر النقاد تشدداً في تحليل معايير تصنيف الأعمال ومنحها معادلات مالية. هي القادمة إلى عوالم الأروقة والمتاحف ومزادات الأعمال الفنية من مسار تعليمي توزع بين معهد الدراسات السياسية، وكلية الحقوق، ومحترفات الحفر (الغرافيك) في باريس، لتنتج أعمالاً بنكهة فلسفية لا تخفي تولعها بالسياسة والاقتصاد والسوسيولوجيا، من قبيل: «الفن الخفي، المنشقّون عن الفن المعاصر»، و«السنوات السوداء للرسم: 1983 – 2013»، و«قداسة الفن المعاصر، الأساقفة والمفتشون والمفوّضون»، و«خديعة الفن المعاصر، طوباوية مالية». إصدارات جعلت إسهاماتها المكثّفة في الحياة الفنية تتجلى عبر إدراك ناضج لعمق التحوّلات التي شهدها الفن عبر أصقاع الكون.

يتناول الكتاب موضوع الفن المعاصر في صلاته بما يمكن وسمه بـ«صناعة القيمة»، عبر تحليل نقدي لسوق الفن المعاصر، يضع تحت مجهر الاختبار السياقات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية، متجاوزاً التحليل المستند إلى قراءة وتأويل مرتكزات الخطاب الجمالي البحت؛ إذ تناقش أود دو كيروس تلك المرتكزات بوصفها عتبات لما بعدها، انطلاقاً من افتراض نقدي يرى أن الفن المعاصر، خاصة الأعمال التي تباع بأسعار خيالية، لا تعكس في وضعها ذاك «ذوقاً» أو «تعبيراً فنياً» فقط، عبر صور لا تخلو من تطرف، بل إنها غدت، على نحو ظاهر، تتخطى منطلقات الأسلوب «المفاهيمي»، الزاهد في أشكال اللوحة والمنحوتة المأثورتين، لتتحول إلى أداة نافذة شديدة التأثير في أيدي النخب والمؤسسات المالية والجهات الحكومية، توظفها بحرص ووفق شروط معقدة لخدمة مصالحها الخاصة. وبتعبير الباحثة في إحدى فقرات الكتاب: «لقد توقّف الفن المعاصر عن أن يكون مجرد مفهوم صرف، محصور تداوله في دائرة صغيرة من (السعداء المعدودين) الذين يتغذّون على غموضه. وأصبح فنّاً (جامعاً لكل شيء)، يضمّ كل المفاهيم: الفن، والموضة، والتصميم، وما سوى ذلك» (ص 16).

يمتد الكتاب على 4 فصول، ومقدمة، وخلاصات، وفهارس، في أزيد من 350 صفحة، تتخذ العناوين الفرعية التالية: «فنون في زمن الحرب» وهو الفصل الأول المشتمل على مبحثين، تدرس في الأول «البدايات الطوباوية للفن العالمي ما بين 1917 - 1991»، وتعالج في الثاني «التحوّل ذو الطابع الهيمني للفن ما بين 1990 - 2000 »، وتخصص الفصل الثاني: لـ«الحقبة العالمية في عقدي 2000- 2020» وتتناول فيه عبر مبحثين قضايا: «أوج النموذج الهيمني»، ثم «بزوغ العصر متعدد الأقطاب»، وتتناول في فصل ثالث: «خرائطية الفن المعاصر: من الهيمنة إلى التنافس»، وفي الفصل الرابع والأخير الموسوم بـ«قوى جديدة وتقنيات جديدة: ثورة الفن عالمياً»، تخوض في تحولات العقود الفنية الأخيرة عبر مبحثين، أولهما عن: «آخر حروب الفن، سنوات 2010–2020»، والثاني عن «التحولات النسقية للفن المعاصر ما بين 2020–2024».

والحق أن التحليل النقدي في هذا الكتاب، الذي لا يخلو من نبرة سجالية ملحوظة، يذهب في مجمله إلى تبني نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي - الاقتصادي، حيث يوَظَّف الفن المعاصر، من جهة، من حيث هو نتاج لقضايا العنصرية والعولمة وتغير المناخ والتحول الجنسي... ومن جهة ثانية، بوصفه حصيلة للتحكم المؤسساتي، وهو ما يبرر الانتشار السريع لتيارات الفن المعاصر المتفاقمة عبر العالم، وسعيها لإخضاع ما سواها. ولا غرابة بعد ذلك أن لا تالو الباحثة جهداً في إبراز أن عالماً يفيض بالصور والعروض والاحتفالات الفنية، التي روّجت لها إقامات فنية وأروقة ومتاحف شهيرة عبر العالم من نيويورك إلى سيدني، ومن لندن إلى باريس ومن داكار إلى دبي،... أصبح معها الفن المعاصر المدعوم مؤسساتياً والمسنود مالياً، عبر سياسات حكومية شتى، الأكثر حضوراً، على نحو يغمر المشهد بشكل شبه كلي، حيث بات يشكل واجهة براقة تحجب خلفها ما تبقى من تجارب فنية أخرى.

وغير عصي عن البيان أن هذا الوهج المتصل لا يكشف حقيقة الفن، بل يخلق واجهة مكتفية بذاتها، بحيث يبدو كل ما يقع خارج دائرة الضوء كأنه غير موجود أصلاً. وشيئاً فشيئاً تنزلق أعمال استثنائية كثيرة من داخل هذا المشهد المزدحم إلى منطقة العتمة، لا لأنها تعجز عن التأثير، بل لكونها تفتقد لمجال يسمح لها بالتجلي. ومع مرور الوقت، لا تتوارى هذا التجارب إلى الخلفية فحسب، بل تُدفَع إلى حالة من الانمحاء تجعل وجودها نفسه موضوعاً للشك، ويحتاج من يشتغل عليها إلى إثبات أنها ما تزال حية.

ولا ينفصل الدور التحكمي للمؤسسات الفنية الكبرى من إقامات وأروقة ومتاحف، التي تسلط أود دو كيروس عليها الضوء، عن وظائف المُموِّلين الخواص، وبعض الحكومات في تشكيل الذوق العام، والتلاعب بقيمة الأعمال الفنية، ما يُرسخ هيمنة المركز الغربي على المشهد الفني العالمي من جهة، ولا يترك لمفاهيم من قبيل «الجمهور الفني» و«جامعي الأعمال الفنية» و«تلقي المعارض»، دلالات واضحة، خارج ما تكسبها إياه تلك المؤسسات والسياسيات المتصلة بها، بحيث يتجلى الأمر كما تبرزه الباحثة في أكثر من موضع في الكتاب، من حيث هو «صناعة» لاعبين كبار، لهم قدم في الواجهة البراقة لأعمال «التركيب الفني» و«الهوت كوتير» و«تصاميم المجوهرات» و«أعمال الديكور»... وقدم في الخلفية المعتمة للمال ورهاناته ومضارباته ومآزقه.

ولا جرم بعد ذلك أن تكون «صناعة القيمة» تعريفاً مهذباً لما يمكن أن يكون عليه «التلاعب بسوق التحف»، وسرعان ما تكشف الباحثة الفرنسة، التي تعلن عن نفسها كأحد أصوات مقاومة هذا الدور التحكمي، عن آليات التلاعب التي تُمارس في هذا القطاع، من خلال وسطاء يجعلون القيمة تبدو غير طبيعية، بل «مُؤمَّنة» من خلال شبكة مغلقة، يتم فيها تحديد الأسعار وتضخيمها، عبر تكتلات من جامعي التحف والمستشارين وصالات المزادات الكبرى، ما يخلق نوعاً من التداول من الداخل (délit d’initiés)؛ إنها شبكة الوسطاء نفسها التي تنتهي إلى قولبة «العمل الفني» وأصحابه، باعتبارهم «منتجات» يتم الترويج لهم، وفقاً لمنطق السوق، بدلاً من الجدارة الفنية. ما دامت أعمال الفن المعاصر لم تعد تقيَّم، بناء على معايير جمالية أو فنية، بل أصبحت تدار باعتبارها منتجاً مالياً مشتقاً، داخل سوق يمكن وسمها حسب الباحثة بـ«يوتوبيا مالية» (Utopie financière) تُنتج قيمة لأشياء قد لا تمتلكها في الأصل.

يتبنى الكتاب في مجمله نظرة تاريخية محكومة ببنية الصراع السياسي ــ الاقتصادي

وتدريجياً تخلص أود دو كيروس، عبر مباحث الكتاب وفصوله، إلى محصلة، تتولى فيها تلك المؤسسات المتحكمة في القيم الفنية وما يوازيها من أنصبة مالية، تشريع سوق لا يعكس حقيقة المنجز، بل حقيقة افتراضية متواضع عليها من قبل سلسلة الوسطاء، الأمر الذي سيسهل معه أن تتحول الأعمال الفنية التي باتت لها تلك القدرة التجريدية الكبرى للقيم المنقولة، إلى جعل سوق الفن ملاذاً مالياً، يعتبر مرتادوه من رجال أعمال، ومنتهزي فرص، ومغامرين، الأعمال الفنية بمنزلة أصول آمنة مربحة، خاصة بعد الأزمات الاقتصادية الكبرى، مثل أزمة 2008، التي لاحظت الكاتبة بصددها أن سوق الفن (على عكس الأسواق الأخرى) استمر في تسجيل مبيعات قياسية، ما دلّ على انفصاله عن الاقتصاد الحقيقي وتحوله إلى مكان آمن لاستثمار الأرصدة الجامدة، بالقدر نفسه الذي مثّل فيه فضاءً تبادلياً استثنائياً لغسيل الأموال، والتهرب الضريبي. وبتعبير الباحثة، فـ«جيل جامعي التحف الفنية الذي كان يحدّد الذوق في نهاية القرن العشرين لم يعد موجوداً. كان هذا الجيل أنغلوساكسونياً وأوروبياً، غنياً ومثقفاً أو راغباً في أن يكون كذلك. أما الموجة الجديدة فهي تتجاوزه في الثراء، ولم تعد لكلمة (فن) في عرفها المعنى نفسه... لهذا من الطبيعي أن تتكيّف دور المزادات لتقدم لهذا الجيل الجديد مزيجاً بارعاً، وغير متجانس، مما قد يرغب في استهلاكه؛ من العمل الفني إلى حقيبة اليد، ومن غرض التصميم إلى الموضة» (ص 15- 16).

ولعل تحول دلالة «الفن»، واختلال توازن القيمة الإبداعية والمالية، وخضوع أثمان التحف لتحكم مؤسسات كبرى، مع اتساع سوق الفن ليشمل صناعات فاخرة شتى تغري بالاستثمار، كلها عوامل أسهمت بحسب كتاب «الفن المعاصر: التلاعب والجغرافيا السياسية» في الرهان على القوة الناعمة للفن، ليس داخل الاقتصاد فقط، بل ضمن سياقات جيوسياسية متعددة، حيث أضحى سوق الفن ساحة معركة غير مباشرة بين القوى التقليدية (أوروبا والولايات المتحدة) والقوى الصاعدة (الصين ودول الخليج)، هذه الأخيرة التي دخلت مضمار المنافسة بخطط مستقبلية لتَبْيِئَةِ منتجات الفن المعاصر ضمن محيطها، ليس بهدف اكتساب شرعية ثقافية مضافة فقط، بل بقصد تحدي الهيمنة الغربية القديمة. إنه التنافس ذاته الذي ضاعف من أسعار الأعمال الفنية، وحوّلها إلى «سلاح» في أيدي النخب المالية والسياسة المتصارعة. وبتعبير موجز، فقد مثّلت الجغرافيا السياسية للفن، بحسب أود دي كيروس، السبيل إلى الكشف عن «تحوّل العمل الفني من كونه قيمة جمالية إلى رمز للقوة»، ونقطة ارتكاز في شبكات النفوذ العالمية التي تربط بين الإبداع والمال، والسلطة، والعلاقات الدولية في عالمنا المعاصر.


«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد
TT

«فلسفة الضحك» عبر التاريخ كما يرويها العقاد

عباس محمود العقاد
عباس محمود العقاد

رغم أن الطبعة الجديدة التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة من كتاب «جحا الضاحك المضحك»، توحي بعمل مخصص لأشهر شخصية ساخرة في التراث العربي، فإن عباس محمود العقاد (1889 – 1964) اختار كمفكر من طراز خاص أن يكرس المساحة الكبرى من كتابه لمناقشة «فلسفة الضحك» عبر حقب زمنية مختلفة.

البداية كانت من عند أفلاطون؛ إذ ذكر المضحكين والمضحكات وهو يبحث عن مكانهم في «مدينته الفاضلة» أو جمهوريته المثالية التي أراد أن يقصرها على الأفاضل والمأمونين، وأن يجنبها عوارض النقص والرذيلة، فبدا له أن الشعر موكل بالجانب الضعيف من الإنسان، بغير تفرقة بين شعر المأساة وشعر الملهاة.

ويرى الفيلسوف اليوناني الأشهر أن الإنسان الكريم يأبى أن يستسلم للبكاء إذا أصيب في عزيز عليه بشكل شخصي، لكنه لا يبالي أن يبكي أو يحزن إذا رأى هذا المنظر معروضاً عليه في مسرحية مفجعة؛ لأن البكاء يخدعه في هذه الحالة ويوقع في روعه أنه يبكي لغير مصابه فيتغلب على نفسه في سبيل غيره. والإنسان الكريم يأبى أن يتفوه بالعبارات الكوميدية أو التراجيديات المضحكة، ولكنه يستسلم للضحك إذا سمعها محكية في رواية هزلية يمثلها المسرحيون أمامه.

وليس بالشيء الجيد، وفقاً له، أن يكون في «الجمهورية الفاضلة» إنسان يغلب على وقاره الضحك أو البكاء على نحو يحطّ من منزلة البشر في صورتهم المثالية. إن نزلاء جمهوريته «يجب أن يتساموا على مشاهد الهزل التي لا تليق إلا بالعبيد والأجراء». ومن هنا أثنى على المصريين؛ لأنهم يعلمون الأبناء الموسيقى والرقص قياماً بالشعائر والطقوس في المعابد، ولكنهم لا يسمحون للشعراء بخلط الألحان بالأغاني المبتذلة، أو تركيب القصائد الموزونة على رقص الخلاعة والمجون.

وكانت خلاصة رأيه في كتاب «الجمهورية» وكتاب «القوانين» أن الشعراء يحسنون صناعة القصائد ويستحقون من أجل ذلك أكاليل الغار «ولكن ليلبسوها ويخرجون من المدينة الفاضلة إلى حيث يشاءون».

ولم يذكر أفلاطون سبب الضحك إلا في كلمات قليلة خلال هذه المباحث الأخلاقية، وهو يرى في تلك الكلمات أن الضحك مرتبط بالجهل الذي لا يبلغ مبلغ الإيذاء، وأن الشعراء يضحكوننا حتى يحاكوا أولئك الجهلاء، ولكنهم «إذا طرقوا موضوع الملحمة أو المأساة عظموا الطغيان وجعلوا رواياتهم حكاية لأعمالهم، فلا أمان لهم في محاكاة الجهل ولا في محاكاة الطغيان».

وكان أرسطو أدق من أستاذه في تعبيراته وتصنيفاته لأقسام الشعر؛ لأنه وضع فيها مبحثاً خاصاً بـ«المسرحيات المضحكة» التي تتبع تطورها منذ أن كانت نوعاً من الهجاء والأغاني الشهوانية إلى أن أصبحت موضوعاً للإضحاك والتسلية. وهو يرى أن الضحك نوع من أنواع الدمامة أو التشوّه، لكن بدرجة لا تبلغ حد الإيلام. وفي نبذة منسوبة إليه من رسالة مقطوعته، طُبعت في برلين سنة 1899، يؤكد على الدور التطهري للضحك قائلاً:

«إن الملهاة تطهر النفس كما تطهرها المأساة؛ لأن النفس المطبوعة على الرحمة أو على حسن الذوق تجد في المأساة والملهاة منصرفاً لما تنطوي عليه من العطف والشوق إلى الكمال واجتنابه التشويه».

ويرى العقاد أن كلا الفيلسوفين قد أخطأ في فهم المأساة والملهاة على أنها نوع من التقليد والمحاكاة؛ لأن «الشعر المسرحي يعرض الفواجع بتمثيل أناس يحاكون المصابين بها في حركاتهم وأقوالهم، وكذلك يفعل بالمضحكات والملهيات. ويندر بين فلاسفة القرون الوسطى من نظر إلى الضحك نظرة جدية ورآه يتضمن حكمة تجعله جديراً بالبحث عنه وعن أسبابه، لانصرافهم إلى البحث في الأصول الدينية وأسرار ما وراء الطبيعة. ولعل فلاسفة اليونان الأقدمين كانوا على هذا الرأي، ولم يبحثوا ولو بعض البحث في الضحك وأسبابه إلا في طريق بحثهم عن التراجيديا والكوميديا مع رجوع هذه في أساسها إلى سير الأرباب وطقوس المعابد».

ويرى العقاد أنه «إذا كنا نعيب على الثقافة القديمة قلة البحث في الضحك وأسبابه، فإن الثقافة الحديثة كانت على النقيض، حيث اهتمت به على نحو يكاد يكون مبالغاً فيه باعتباره مؤشراً على مزاج هذه الأمة أو تلك، ويكشف عن طبيعتها باعتباره مكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، ولا يقل أهمية في ذلك عن الأدب والتراث الشعبي. ومن أبرز الأمثلة لذلك كتاب (الضحك) الذي صدر للفيلسوف الفرنسي هنري برغسون عام 1911، والذي تجاوز عدد مراجعه الأربعين مرجعاً».

ويعود هذا الإفراط في الكتابة عن الضحك، كما يرى العقاد، إلى سبب مهم يتمثل في نشأة علم الذوق أو علم الجمال الذي ينظر في الفروق بين الجميل والجليل والمضحك كما تعرضها الفنون الجميلة، لا سيما الأدب المسرحي؛ إذ أصبح البحث عن المضحك والمبكي والحسن والقبيح مقروناً بالبحث فلسفياً عن المقدس والقداسة في شعور الإنسان وممارساته.

ويرى برغسون، كما يضيف العقاد، أننا «لا نضحك إذا رأينا إنساناً يتصرف تصرف الآلة ويقيس الأمور قياساً آلياً لا محل فيه للتميز المنطقي، ولكننا نضحك في الجماعة عامة ولا نضحك منفردين؛ لأن الضحك تنبيه اجتماعي أو عقوبة اجتماعية لمن يغفل عن العرف المتبع في المجلس أو في المحفل أو في الهيئة الاجتماعية بأسرها. والضحك عنده إنساني بمعاني الكلمة، فلا يُشاهَد في غير الإنسان، ولا يستثيرنا في غير عمل إنساني أو عمل نربطه بالإنسان».

كما أننا لا نضحك من منظر طبيعي أو من جماد كائناً ما كان، إلا إذا ربطناه بصورة إنسانية وجعلناه شبيهاً بإنسان نعرفه أو منسوباً إلى عمل من أعمال الناس، وقد نضحك من قبعة نراها، فلا يكون الضحك منها نفسها، بل من الإنسان الذي يلبسها ونتصور هيئته فيها، كما يقول.

ومن شروط الأمر المضحك عند الفيلسوف برغسون أن يحصل في جماعة أو يرتبط بالتصرف الجماعي، فقلما يضحك الإنسان على انفراد إلا إذا استحضر العلاقة الاجتماعية في ذهنه. وقلما ننظر إلى أحد يضحك على انفراد إلا خامرنا الشك في عقله، ما لم يكن له عذر نعلمه!


تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني
TT

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

تاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني

في روايته الجديدة «ولا غالب» الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة، يقدم الكاتب الكويتي عبد الوهاب الحمادي معالجة فنية ودرامية جديدة لتاريخ العرب في الأندلس من منظور إنساني يعلي من قيمة التسامح وقبول الآخر ويستنكر منطق الإقصاء بين الشرق والغرب.

على تلال غرناطة تلتقي أربع شخصيات معاصرة تطاردها أزماتها الشخصية في زماننا الحالي وقد دلفت عبر «بوابة الزمن» لتستيقظ في عام 1492 عشية سقوط المدينة حيث وجدوا أنفسهم أمام مهمة إنقاذ غرناطة من مصيرها المحتوم كآخر قلاع العرب في بلاد الأندلس. تمنح الرواية الشخصيات أحد خيارين: تغيير مجرى التاريخ أو أن يصبحوا ضحاياه الجدد، لكن كيف لأربعة غرباء يحمل كل منهم ندوب صدمته الخاصة أن يغيروا مصير الأمة الأندلسية؟

وسبق أن صدر للمؤلف عدة أعمال منها «سنة القطط السمان» التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة كتارا للرواية العربية، كما صدر له كتاب «دروب أندلسية» في أدب الرحلات.

من أجواء الرواية نقرأ:

على تل أخضر أمامي، استوى قصر الحمراء مثل شيخ شاحب ممدد على سرير مستشفى، لم يقتص المرض من وسامة تالدة. لطخت الشمس الآفلة غيوماً، تلتحف سماء غرناطة بلون النارنج. نظرت إلى الساعة في معصمي، قاربت السابعة أعدت لف الشال المغمور بعطرها حول رقبتي أحميها من صقيع نهايات ديسمبر فغمرتني رائحة الليمون. أغمدت كفي في جيبي، ضحكة شبان ورائي ونغمات عازف غيتار يصدح بغناء إسباني مكلوم. جميع الأعين وفرقعات آلات التصوير تحاول أن تقتنص جمال الشيخ على سريره الأخضر، لولا الحمراء لما أمسى لهذا المكان معنى لهم ولولاك ياصاحبة العطر، لما كان للحمراء معنى لي.

فهمت الآن لماذا كنت ياغادة تحبين هذه المدينة الواقعة خارج خريطة السياحة العربية غرناطة، ولماذا كنت تقرئين قبل النوم كتباً مصورة عن الأندلس أو تنصتين لبرامج إذاعية تاريخية وتتنهدين في أواخر أبيات الشعر، أو ترهفين لوديع الصافي وفيروز يتناجيان موشحاً، غصة في قلبي لن تزول لفتوري عن تحقيق رغبتك في زيارة هذا المعلم.

تغافلت أن القدر قد يسلب منا من نحب وقد يسلبنا أنفسنا. كنت أؤجل وكنت ترضين بأعذار انشغالي: عيادة مكتظة، سعال مرضي، حالات طارئة تنزف، خفارات ليلية مرهقة، نحيب أطفال، إعداد أوراق مؤتمرات طبية، بل وتجدين أعذاراً تقنعك أو هكذا كنت تتظاهرين لأنك تدركين أن التاريخ لا محل له في تلافيف دماغي.أحب تنفس عطر الليمون عندما تدنين مني وتلقبيني هامسة بصانع المعجزات، صانع المعجزات الذي رحلت يا غادة بين يديه، أغمضت عينيك إلى الأبد دون أن يقدر على فعل أي شيء».