في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا

من كانط إلى التباين الإنجليزي الفرنسي في تعريفها كحقل معرفي

في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا
TT
20

في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا

في مراجعة دلالة الإبستمولوجيا

يمكن اختزال جوهر الدرس الإبستمولوجي، في كونه تنبيها إلى ضرورة مساءلة المعرفة من حيث شروط وأدوات إنتاجها، وعلى الرغم من أن هذا النوع من البحث كان متداولا إلى، حد ما، في الفكر المنطقي والفلسفي القديم، فإن الإرهاص بتأسيسه، يرجع إلى القرن الثامن عشر مع الفلسفة النقدية الكانطية. والنقد في المعجم الكانطي لا يفيد الدحض، بل يفيد بيان حدود الصلاحية والاستعمال. وقد طرح بخصوص استعمال العقل. ومن هنا فقد كان السؤال النقدي الكانطي سؤالا يدل على تنبّه إلى التفكير في الأداة (العقل)، بدل الاستغراق في استعمالها، أي تفكير في العقل بدل الاقتصار على استعماله للتفكير في غيره. وإن كنت أرى أن كانط ذاته، لم يتنبه إلى ضرورة الوقوف، بتواضع، عند حدود إمكانات العقل التي قررها هو نفسه، حيث خلص إلى مجموعة من الأحكام، أصدرها فيما يخص حقيقة الفكر وطبيعته القبلية، متناسيًا أنه منهجيًا يقول باستحالة بلوغ الحقيقة الماهوية للوجود. لكن على الرغم من هذه المفارقة الواضحة في فلسفة كانط، فإن مشروعه النقدي أسَّس لثورة معرفية قلبت دفة الفكر الفلسفي الأوروبي من أولوية الإشكال الوجودي (الأنطولوجي) إلى أولوية الإشكال المعرفي (الإبستمولوجي). بمعنى بدل الإيغال في بحث أسئلة الوجود، أسهم كانط في إيقاظ العقل الفلسفي، ليبحث ابتداء مدى قدرته على الإجابة عن الأسئلة الوجودية. وبذلك تم تسييد مبحث نظرية المعرفة في مرتبة الأولوية. وهنا أشير إلى مسألة إغفال كثير من مؤرخي الفلسفة عن إدراك إسهامها ودورها. وهي أن حصيلة التفكير في الأسئلة الوجودية الكبرى كانت هي المناسبة الدافعة إلى إدراك محدودية العقل. ومن ثم فإن السؤال الديني كان هو المهماز الحافز للتساؤل عن إمكانات المعرفة ومحدودية أدواتها. ولذا لا بد من إعادة الاعتبار إلى هذا الدور المنهجي الذي قام به هذا السؤال أثناء التأريخ لتبلور الوعي الإبتسمولوجي.
وإذا كانت المساءلة الكانطية لقدرات العقل قد دفعت بمبحث نظرية المعرفة إلى مرتبة الأولوية في الفكر الفلسفي، فإن القرن التاسع عشر هو الذي سيشهد التأسيس الفعلي للإبستمولوجيا كحقل معرفي خاص. وذلك بسبب ما شهده من أزمات معرفية، مسّت الأسس المفاهيمية الكبرى التي ترتكز عليها العلوم الرياضية والمنطقية، حيث لم تقتصر الأزمة على مجرد إشكالات جزئية، بل أفرزت إشكالات بنائية عميقة.
فما دلالة هذا الحقل المعرفي المعاصر؟
على الرغم من الإشكالات والالتباسات التي تحوط هذا الحقل «الجديد»، الراجعة إلى طبيعته الموضوعية والمنهجية، تلك الالتباسات التي تزيد في تعميقها الاختلافات السائدة بين تيارات الإبستمولوجيا واتجاهاتها، فإنه في سبيل تعريف المفهوم، يمكن أن نوظف مسلكًا قد يبدو سطحيًا، ولكنه مقدمة ضرورية لإنجاز مقاربة دلالية، ولو في مستوياتها الأولية. ونقصد بهذا المسلك، التحديد اللغوي للفظ إبستمولوجيا، فهذا اللفظ إن كان قد استعمله جيمس فيرير Ferrier سنة 1854، في مقابل الأنطولوجيا، بقصد تعريف موضوعات الفلسفة ومباحثها، فإنه من حيث بناؤه اللغوي يتكون من كلمتين إغريقيتين هما: «إبستمي»، وتعني من بين ما تعنيه في اللسان اليوناني العلم، ولوجي: وتفيد الخطاب، كما تفيد العلم أيضًا. ومن ثم تكون الدلالة الحرفية للفظ «إبستمولوجيا» هي: علم العلم، أي خطاب يتخذ العلم موضوعًا له.
هذا من حيث المقاربة الدلالية اللغوية، أما من حيث الاصطلاح، فقد تعددت التعريفات واختلفت: فالفيلسوف الفرنسي كانجيليم، يعرف الإبستمولوجيا بكونها «وعيًا نقديًا تجاه المناهج». في حين يذهب لالاند في معجمه الفلسفي الشهير، إلى أنها «ليست دراسة المناهج العلمية»، لأن هذه الدراسة من اختصاص الميثودولوجيا وليس الإبستمولوجيا.
وفي معجم روبير الفرنسي، نجدها تعرف بوصفها «دراسة خاصة للعلوم تهدف إلى تحديد أصولها المنطقية وقيمتها»، لكن إذا كان هذا التعريف يركز على المقاربة المنطقية للعلوم، فإن ثمة تعريفات أخرى تركز على الاشتغال العلمي ذاته، كإجراءات وأبحاث: فالفيلسوف غرانجي مثلا، يحدد الإبستمولوجيا بكونها «دراسة خاصة للعلوم ولتطور مشكلاتها»، وهو بذلك يجعلها موصولة على نحو داخلي بتطور المعرفة العلمية وإجرائها العملي.
والواقع أن هذا الاختلاف في تحديد طبيعة الاشتغال الإبستمولوجي، ليس مجرد اختلاف بين باحثين أو ثلاثة، بل هو يقسم فلاسفة العلم إلى شطرين، حيث يذهب قسم منهم، كجون ستيوارت مل، وبرتراند راسل، وكارل بوبر، غالبا، إلى النحو منحى التقليد الكانطي، فيحددون الشروط المنطقية والنظرية للعلم، بينما يذهب قسم آخر إلى النحو منحى البحث في آليات اشتغال العلوم في صيغها التطبيقية، مثل بيير دوهيم، وإرنست ماخ، ولوتمان وكانجيليم.
إضافة إلى هذا الاختلاف، فثمة تباين يمكن تصنيفه من منظور جغرافي، إذ إن الإنجليز يحددون الإبستمولوجيا بوصفها «نظرية المعرفة»، بينما التقليد الفرنسي يذهب إلى اعتبارها «نظرية العلوم». وتماشيًا مع هذا التقليد، نجد لالاند يعرفها بـ«الدراسة النقدية لمبادئ العلوم ولفرضياتها ونتائجها، بقصد تحديد أصلها المنطقي لا السيكولوجي، وبيان قيمتها وحصيلتها الموضوعية».
وثمة نقاش سائد بين الباحثين حول أي الدلالتين أدق في توصيف مبحث الإبستمولوجيا، أهي الدلالة الإنجليزية أم الفرنسية؟ وهناك اجتهادات تميل إلى تغليب هذا الطرف، وأخرى تميل إلى ترجيح الآخر. غير أن هذه الاجتهادات في عمومها، محكومة بهاجس الإقليمية لا بهاجس المعرفة! أو لنقل بتعبير مخفف، إنها محكومة بالذوق الفكري السائد، ومتأثرة به.
ويبدو لي أن الخلاف بين هذين التقليدين ليس بالخلاف الجذري الذي يصعب على المرء أن يذهل عن المشترك بينهما. بل إن الإيغال في محاولة إبرازه أو التخفيف منه، يدفع إلى نسيان الأهم، وهو أن هذين التعريفين معا يحتاجان إلى مراجعة. وفي سبيل إيضاح رؤيتنا، يمكن أن نوجز ذلك فيما يلي:
أولا، من حيث الدلالة، فلا بد من توسيع حقلها لتصير الإبستمولوجيا خطابا نقديا في المعرفة عامة، سواء كانت علمية بحصر المعنى (أي العلوم الدقيقة)، أو كانت علومًا إنسانية، أو حقولا معرفية فنية.
ثم ثانيا، إن الإبستمولوجيا هي أيضًا خطاب في المعرفة ومنتجاتها. وبذلك لا تدخل في مجالها كل أنماط المعرفة فحسب، بل إنه بالتنصيص على منتجاتها، فإننا بذلك ندخل، فيما يخص المعرفة العلمية، التقنية كموضوع يستوجب التفكير والمساءلة الإبستمولوجية. ومن ثم يمثل هنا السؤال الأخلاقي، الذي نرى اليوم أنه أخذ في الحضور، ولو باحتشام في فلسفة العلم، لكننا ندعو إلى جعله جزءا من صلب الاهتمام الإبستمولوجي وليس مجرد تأمل خارجي عن العلم. خصوصًا أن التقنية ليست مجرد كينونة آلية، بل هي نمط في التفكير أيضًا.



حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة
TT
20

حكايتا «شارع الأعشى»... مسلسل ينتهي بالدم ورواية بالغناء

لمى الكناني في دور عزيزة
لمى الكناني في دور عزيزة

اخترت موضوعاً لهذه المقالة جزءاً صغيراً، فعلاً سردياً ربما لم يلفت انتباه كل مشاهدي «شارع الأعشى». جزء مهم لغرض المقالة، ولوجود تشابه بينه وبين عنصر آخر في المسلسل، ولأنه يشكل، أيضاً، صورة مصغرة لمقام سردي في رواية «غراميات شارع الأعشى». لا يشغل هذا الجزء سوى دقيقة وعدة ثوان من زمن سرد «عزيزة» (لمى الكناني) في الحلقة الأخيرة. وأعني «عزيزة» الصوت بلا جسد، التعليق الصوتي (voice-over)، الذي يأتي من خارج عالم الحكاية، ومن زمن غير زمن الأحداث فيها؛ وعلى نحو متقطع، يرافق المُشاهدَ من الدقائق الأولى إلى الدقائق، بل الثواني، الأخيرة من المسلسل، وليس «عزيزة» الشخصية، صاحبة «فيه شوط طق، فيه شوط مصري»، التي تعيش وتغني وترقص وتقلد سعاد حسني وتتصرف بتهور وتقع في الغرام بدون توقف في عالم الحكاية.

الصمت بعد «عرس الدم»

لو كنت عضواً في الفريق الذي يُشكِّل «المخرج الضمني» لـ«شارع الأعشى»، لجعلت الصمتَ يعقب فاجعة «عرس الدم»، مُنهياً به المسلسل، فلا يبقى في المشهد الأخير سوى صفحات دفتر مذكرات عزيزة والهواء يقلِّبها ويحركها، ثم تستقر مفتوحة وخالية من أي كتابة، في رمزية لنهاية مفتوحة، قد تطلق العنان لخيال المُشاهد ليكتب فيها النهاية التي يتخيلها، أو النهايات، فما إن يستقر على نهاية، حتى تظهر على شاشة خياله نهاية أخرى. سيكون المشاهد حينئذ في وضع يشبه إلى حد ما وضع قارئ رواية «غراميات شارع الأعشى» بنهايتها المفتوحة: «تمددت روحه (أبو فهد) في الغناء... صار وجه الجازي يظهر له من الضوء المنعكس في أعمدة الكهرباء المحاذية للشارع. يسوق سيّارته البويك على مهل... ويدخل من الشارع الملتوي متجهاً إلى بيته، وصوت الحب عالق في أذنه، ويبتسم وحده في السيارة، ويفكر في حبّة الخال السوداء ويغني وحده: (ماهقيت ان البراقع يفتنني)». وتنتهي الرواية بصوت محمد عبده. ويبقى ما يُحتمل حدوثه لـ«أبو فهد» والجازي مشرعاً للتخيلات والتآويل. أتساءل مبتسماً في هذه اللحظة، لماذا لم يختر «أبو فهد» أغنية أخرى يستمع إليها، أو لماذا لم تختر الروائية بدرية البشر أغنية مثل «أنا أشهد أن البدو حلوين حلوين/ وخفة الدم زودتهم حلاوة». وأضحك ضحكة صغيرة صامتة من الفكرة التي أخفقتُ في إبقائها خارج النص، مع الأغنية التي تعود تاريخياً إلى ما قبل زمن أحداث المسلسل بسنوات قليلة.

دفتر «عزيزة» يغري بإعادتها

أما في المسلسل، فيبدو أن الدفتر الملطخ بدم عواطف (آلاء سالم)، أوحى لـ«المخرج الضمني» فكرة إنهاء المسلسل بصوت «عزيزة» الساردة، حتى بعد أن تغادر «عزيزة» الشخصية في الداخل «شارع الأعشى»، وتغيبها ظلمة الطريق في رحلة الهروب.

اللافت أن «عزيزة» الساردة (voice-over narrator)، تبدو مختلفةً في الثواني الأخيرة. فلم تعد الذات/ الأنا الساردة التي تستمد مادة سردها وتعليقها من تجربتها، وتجارب من حولها، ومن الأحداث التي تشهدها وتتفاعل معها، كما يتجلى في الاقتباس التالي وفيه تصف، في بداية الحلقة الأولى، بدايات الأيام في حياة أسرتها: «كان يومنا يبدأ لما يُشغِّل أبوي الرادو... صوت إبريق الفواح يتداخل مع أصوات الأغاني اللي بينَّا وبينها بحور... من إذاعة لندن أصوات تملأ بيتنا وتفيض (على) شارع الأعشى».

يشعر المشاهد، و«عزيزة» تتكلم خلال الثواني الأخيرة، أنه يستمع إلى ساردة مختلفة، ساردة ذات معرفة تتجاوز الأحداث في ماضيها وماضي أسرتها، معرفة تحيط بما لم يحدث بعد، وبما يحتمل حدوثه في المستقبل، حين تعلق بنبرة تشي بتأكدها مما تقول: «بنات الأعشى باقين... حكاياتهم وأحلامهم هي اللي ما تموت... راجعين يعبون باقي صفحات دفتري... راجعين ومكملين مشوارنا... معكم». بالإضافة إلى تمدد حدود معرفة عزيزة لتبدو كساردة عليمة، يدرك المشاهد أنها، وخلال هذه الثواني بالذات، تملك وعياً ميتاقصياً، بأنها وبنات «شارع الأعشى» الأخريات شخصيات يعشن في حكاية، في عالم تخييلي، وأن حكايتهن لم تنته بعد، وأنهن عائدات في حكاية، وربما، حكايات أخرى، وتعي بذاتها ساردةً، وبأن هنالك متلقين ينصتون لما تقول، فتوجه كلامها إليهم: «راجعين ومكملين مشوارنا معكم... انتظرونا». لا أتذكر أنها خاطبت المشاهد مباشرة، وبهذه الطريقة من قبل، أو تلفظت بما يدل على وعي «ميتاقصي» بأنها والآخرين شخصيات خيالية في حكاية. في رأيي إن تلفظها الأخير فعل سردي نشاز، غير متسق نوعياً مع تعليقاتها السابقة. ربما يدل على ارتباك المخرج الضمني من ناحية، وعلى حرصه على إنهاء المسلسل بإعلان «برومو» لموسم ثانٍ من ناحية أخرى.

إلهام علي
إلهام علي

في انتظار بنات «شارع الأعشى»

سينتظر المشاهدون عودة بنات «شارع الأعشى»، ولكن هل تعود «عزيزة» الساردة، باختلافها الأخير، الذي اخترقت به أحد أعراف السرد الواقعي بإطلالتها الصوتية بإعلانٍ عن موسم ثان، يفترض ألا يعلم أحد به سوى المخرج الضمني؟ وهل تعود أيضاً بوعي ميتاقصي؟ أم أن تلك اللمحة «الميتاقصية» العابرة حدثت بدون قصد ووعي من المخرج الضمني؟

بالرغم من عنصر المفاجأة فيه، إن تحول «عزيزة» الساردة، ولو لثوانٍ في النهاية، أمر يمكن تَقَبُله إذا ما قورن بظهور الإرهابي المنشق جزّاع/منصور (نايف البحر) ومجيئه إلى «شارع الأعشى» للبحث عن أمه. ظهوره في واقع الحكاية يحدث بطريقة تشبه تطعيم شجرة بغصن من شجرة أخرى ولكن بأيدٍ غير ماهرة ومرتبكة؛ وإدخاله في عالم الحكاية متكلف وتنقصه السلاسة، وإيواؤه في بيت «أبو إبراهيم» (خالد صقر) تحت ذريعة وفاء «أم متعب» (إلهام علي) لأمه (ريم الحبيب)، واستمراراً للعب «أبو إبراهيم» دور «السنيد» (sidekick) لـ«أم متعب»، كلها أمور تتحدى قدرة المشاهد على تعطيل عدم التصديق. بدخول جزّاع فضاء وزمان الحدث ليكون حبيباً آخر لعزيزة تحقق معه حلمها في الهروب، يبدأ الترهل بالنفاذ إلى بنية المسلسل السردية والبطء إلى إيقاع حركة الأحداث إلى حد إثارة الملل في المشاهد.

تحولات صوت «عزيزة»

يشكل تحول «عزيزة» غير المسبوق إلى ساردة عليمة نقطة التقاء وتشابه بين المسلسل ورواية بدرية البشر. يُذَكر بتحول «عزيزة» الساردة بضمير المتكلم في الرواية إلى ساردة عليمة في فصول خمسة في الرواية (22، 13، 11،10 ،7). (ناقشت الموضوع في مقالة عن التقنية السردية في «غراميات شارع الأعشى»، نُشِرَت في صحيفة اليوم في 2016-05-07).

تراوح «عزيزة» في الفصول الخمسة بين سرد الشخصية (character narration) بضمير المتكلم بمحدودية المعرفة المرتبطة به تقليدياً في السرد الواقعي، والسرد العليم بضمير الغائب. فتروي في الفصل السابع، على سبيل المثال، حواراً قصيراً يدور بين الجازي ومزنة في بيت «أم متعب»، بينما هي فوق سطح بيتهم، وتنقل حواراً، لم تشهده، بين وضحى ومزنة في سوق الحريم، وكأنما تفتح في رأس ضاري كوة كالكوى الصغيرة في جدار سطح بيتهم تطل خلالها على أفكاره حين تروي: «بينما لا يجد في منزله سوى امرأة لا يلمس منها إلا حنانها، لأن قوتها الخفية تتحرك فقط في رأسها ولسانها. لا يعرف إلا هذه المرأة التي عملت طويلاً من أجلهم، فيرهقه شعوره بأنه عاجز عن تولي الأمر عنها» (الفصل 7، ص 66). ليس في هذا الفصل الذي يبدأ بصوتها «خرج والدي بعد صلاة العصر وركب سيارته، وقبل أن يدير محركها اكتشف أن مكان الراديو فارغ»، ما يدل على أن «عزيزة» تتوقف عن السرد، لتكمل الساردة العليمة المهمة. ويتكرر هذا المقام السردي في الفصول الأربعة الأخرى.

يرى عالم السرد البلاغي جيمس فيلان أن «سرد الشخصية أرض إنتاج خصبة للسرد المضاد للمحاكاة، غير الطبيعي، خصوصاً لاندلاعات المضاد للمحاكاة (antimimetic) المتفرقة داخل السرد الذي يكون المحاكي (mimetic) شفرته المهيمنة» (بويطقيا السرد غير الطبيعي، 197). يمكن القول إن اندلاعات المضاد للمحاكاة في أداء «عزيزة» بانتقالها من سرد الشخصية إلى السرد العليم هي «إفاضات/ paralepses» بلغة جيرار جينيت، أي سرود معلومات وأحداث تتجاوز محدودية معرفتها، ونقل ووصف ما لا يمكن لها إدراكه مثل أفكار ومشاعر ضاري، ليكون الناتج تمثيلاً سردياً مضاداً للمحاكاة (antimimetic narrative representation)، حسب تنظير علماء السرد غير الطبيعي مثل برايان ريتشاردسون وألبر جان. في رواية البشر، يتجاور المحاكي مع المضاد للمحاكاة، حيث يبدو الأخير تعبيراً عن تمرد على مواضعات السرد الواقعي.

هذه الكتابة حصيلة جولة ممتعة في «شارع الأعشى» في الرواية والمسلسل، وكأي كتابة لم تتسع لكل ما يراد كتابته، ما يعني أنها وكأي كتابة، أيضاً، تخلق الحاجة إلى كتابة أخرى تكملها. ربما تكون الكتابة الأخرى عن موسم ثان من مسلسل «شارع الأعشى»!

* ناقد وكاتب سعودي