جمعة اللامي... السجن والمنفى وتاريخ القتلة

في وداع صانع الحكايات المختلفة

جمعة اللامي
جمعة اللامي
TT

جمعة اللامي... السجن والمنفى وتاريخ القتلة

جمعة اللامي
جمعة اللامي

ظهر مطلع الستينات من القرن الـ20 نوعٌ روائيٌ عربيٌ جديدٌ كان نموذجه رواية نجيب محفوظ «اللص والكلاب» أمران لا ثالث لهما، كان الناقد العراقي المعروف د. محسن جاسم الموسوي قد توقَّف عندهما في مقالته التأبينية عن الكاتب العراقي الراحل جمعة اللامي (الشرق الأوسط: 22 أبريل/نيسان 2025). الأول إشارته لكتابه القصصي الأول «من قتل جمعة اللامي»، وهو مجموعة قصص وليس رواية، وقد كان تتويجاً لتجربة اللامي في السجن. والثاني هو ظاهرة المنفى والطرد من العراق. وقد استخدم الموسوي الفعل «اختار» المنفى؛ والحقيقة أن لا أحد في هذا العراق، كما في البلاد العربية كلها، يختار المنفى. هاتان الإشارتان هما المدخل السليم لعالم اللامي المختلف حقاً في سياق القصة القصيرة والرواية العراقية، وليس في سياق جيله الستيني فحسب. لكن الموسوي نفسه كان قد ترك لنا إشارةً مهمةً في تقديمه للأعمال القصصية الكاملة (2004) تخص أمراً أساسياً قام عليه أدب جمعة اللامي، وهو ما سماه الناقد بـ«الكتابة العابرة» للأجناس الأدبية المعروفة والمستقرَّة؛ ففي «نص» اللامي، كما يقول الموسوي، لا قصة خالصة، ولا شعر خالص، ثمة كتابة متحرَّرة من عبء المقولات الأدبية الجاهزة. وهذه إشارة بليغة ولا شكَّ.

قصص القاتل

نتحدث، هنا، باطمئنان، عن ظهور نوع روائي عربي جديد مطلع العقد السادس من القرن الماضي. كان نموذجه/ نصه الأول هو رواية نجيب محفوظ الشهيرة «اللص والكلاب: 1961». ولقد دشَّنت تلك الرواية مرحلة جديدة في «رواية» محفوظ نفسه، سُميت سريعاً، أو مجاملة، باصطلاح «المرحلة الفلسفية»، وهي ليست كذلك كما نجادل هنا؛ إنما هي مما يمكن أن نسميه بـ«قصة القاتل»، أو «رواية القاتل» التي أخذت على عاتقها تشريح «شخصية» مجاورة، أو «مناوبة» للحاكم العربي في سياقات التحوِّل إلى «أنظمة» الحكم الثورية بعد عقود من الحكم الملكي المتهم بعلاقاته مع القوى الاستعمارية الصانعة له.

ورواية القاتل تختلف كثيراً، من ثمَّ، عن الرواية البوليسية؛ فهي لا تتورط بمهمة «كشف» القاتل، إنما تنشغل، كلياً، ببناء شخصية القاتل نفسه في سياقات سردية مشبعة بمنطق الريبة والشك والتآمر، وهذا عالم مختلف، كلياً، عن منطق الرواية البوليسية التي تعتمد على سياقات القص والتَّتبع المؤدية لاكتشاف القاتل. في العراق كان لجيل الستينات، بصورة خاصة، أن يؤدي هذه المهمة المختلفة في تاريخ القصة والرواية العراقية؛ برغم أن الأقطاب الرئيسية في الجيل الخمسيني الرائد، فؤاد التكرلي مثلاً، كانت لهم مساهمة أساسية في التأسيس لرواية مجاورة سمَّاها بعضهم «رواية جحيم شباط»، وهي ذات عوالم تتماثل مع رواية القاتل، وتختلف عنها بحدود معلومة لا تبعدها عن الصياغات الكبرى لرواية القاتل. وللكاتب الراحل جمعة اللامي مكانة مرموقة في المجالين. فإذا كان النقد العراقي يقف، من حين لآخر، عند التجربة الستينية، شعراً وقصاً، ويتحدَّث بانتظام عن نماذج ونصوص وحكايات صارت أشبه بأمثلة كتب البلاغة العربية المكررة جراء استهلاكها في سياق التجربة الستينية، في طليعتها، مثلاً، قسمة الثقافة ونصوصها بين قطبي البلاد السياسيين (الشيوعي والبعثي)، فإنه في حالة اللامي كان يتعثر فلا يعرف جهة يقصدها، ولا منطقاً بحثياً يعتمده. وفي عهود الديكتاتورية، لا سيَّما في نصف الثاني من السبعينات وحقبة الثمانينات، كان الصمت، أو الإهمال، ولا نقول المنع، هو السائد في مقاربة نصوص اللامي. ولا عجب؛ فالشكل السردي، ثم منطق الكتابة ذاته في نصوص اللامي، ذو صياغات اتهامية صدامية.

السؤال الكبير: من قتل حكمة الشامي؟ ولنبدأ من مجموعته «من قتل حكمة الشامي»، لا سيَّما من منطق السؤال ذاته الطامح لمعرفة شخصية القاتل. وقد نقول إن تلك قصص اللامي قد مثَّلت حالة متميزة ومتفردة حقاً، لا تشبه غيرها في سياق القصة القصيرة سوى روايات الكاتب الكويتي، عراقي الأصل، قبيل فراره من البلاد، واتخاذ الكويت وطناً بديلاً عن بلاد رفض حاكمها أن يعيش فيها. أتحدث عن روايات إسماعيل فهد إسماعيل، لا سيَّما ثلاثيته الشهيرة «كانت السماء زرقاء، والمستنقعات الضوئية، والحبل». فهي مختلفة من ناحية الشكل السردي، وهذه قضية لا تعني سوى الكاتب ومن يقرأ نصوصه. وباختصار السلطة لا تعتقل الكتَّاب لأنهم يكتبون بأشكال مختلفة وغير معروفة. لكن السلطة، وممثليِّها الثقافيين أو الأدبيين، قد تنبَّهت، مبكراً، لحقيقة أن الشكل السردي المختلف إنما يتضمن سؤالاً اتهامياً لم تعتده؛ فالقصص تتحدث، بصيغ مباشرة، عن وقائع قتل، وعن «قاتل» مفترض يجري البحث عنه لأجل محاكمته، أو أنها تكتفي بإطلاق الاتهام الخاص بجريمة ما. وهذا أمر لم تكن القصة العراقية قد عرفته، من قبل، بهذه الحدة، لا سيما أن منطق السؤال مرتبط بوقائع «مذبحة شباط عام 1963». يظهر هذا الأمر بوضح كافٍ، بل ومعلن في تلك القصص الرائدة والمتفردة، ابتداءً، من العنوان الاتهامي الذي يجاهر بموضوعة «القتل»، ويضعه في جملة استفهامية ذات طابع استنكاري.

وقد يزداد يقين القارئ بتلك القصص عندما يتأمل عناوينها بما تثيره من إشكالات كبرى على مستوى الشكل القصصي المتفرد وما تتضمنه من أسئلة كبرى مصاغة بخطاب اتهامي معلن في زمن إشكالي سينتهي بالصعود الظافر لسردية القاتل «الديكتاتور» وإنهاء التداول الشعبي، بل وحتى الأدبي الثقافي لكل ما يتصل بقصص القاتل وضحاياه. أفكر هنا بمنطق السؤال المكرر: «من قتل؟». مثلما أستعيد الصيغة الوثائقية الموجَّهة ضد منطق السلطة الساعي لتضييع «دم» القتيل وتبرئة القاتل من جرمه. ولا يرد «التوثيق»، هنا، بعيداً عن الرغبة بكتابة «تاريخ» سردي لـ«القتلة». خذ مثلاً «الليل في غرفة الآنسة (م)» و«وثائق الوحش» و«قراطيس السكران ماية بن بوذخشبان بن ده ديره السكران» و«من قتل حكمة الشامي» و«ساعات من زمن الآتي حكمة الشامي» و«اهتمامات عراقية» و«الغرفة» و«التحول» و«امرأة في خطوات رجل قتيل» و«تاريخ القتلة» و«إبراهيم العربي»، ثم «اليشن».

أريد هنا أن أتوقف عند ثلاث قصص أساسية في تلك المجموعة، وأنا أفترض أنها هي التي صنعت أقدار اللامي، وربما كانت وراء مصائر شخصياته المتخيلة. وهي قصة «من قتل حكمة الشامي: 1967»، ثم قصة «ساعات من زمن الآتي حكمة الشامي: 1968»، والقصة الأخيرة هي «تاريخ القتلة: 1966». والقصص الثلاث كُتبت، شأن أغلب قصص المجموعة، في «سجن الحلة المركزي»، وبتواريخ متقاربة. تشترك القصتان، الأولى والثانية، بسرد وقائع «مقتل» أو «انتحار» أو «مصرع» الشامي. وهما يجعلان من حادثة القتل منطلقاً لسرد وقائع حياة الشامي؛ فلا صوت سردي لـ«حكمة»، إنما هو «غائب» أو «راحل»، وتتولى شخصيات القصتين الأخرى الكلام عن «وقائع» مصرعه أو انتحاره. نحن، هنا، إزاء منطق قصصي مختلف يتبنى صياغات التحقيق السردي في وقائع القتل، سوى أن القصتين تؤديان وظائف التحقيق بطرائق مختلفة ومتباينة، ذلك الاختلاف ربما يعطي بعض الحق لمن أطلق مصطلح الرواية على القصص بمجموعها، وعلى أي حال فقد سمَّى الكاتب نفسه قصص المجموعة بـ«الكتاب» عندما أعاد نشرها لاحقاً بطبعات مختلفة. نبقى عند حدود ذلك الاختلاف المثير.

في القصة الأولى ثمة إخفاء لإشكالية «القتل»، وهي الدلالة المركزية للعنوان ذاته؛ إذ يجري بناء قصة رمزية يزج فيها باسم امرأة تدعى «ونسة»، وهي عشيقة «الشامي» لكنها «العاهرة» التي تتلبس شخصية ووظيفة «الأفعى»، إذ «تعاشر» الشامي مثلما تعاشر غيره. أحد تجليات الترميز القصصي يظهر بالإعلان المسبق لكيفية القتل، ويتحقق هنا بفعل الانتحار كما نقرأ في الخطبة الواردة في «حفلة التأبين»؛ إذ يقول لنا الحزبي «أيها الرفاق... نجتمع اليوم من أجل حادث جلل. ففي هذا اليوم قبل سنة انتحر حكمة الشامي». يتحول فعل الانتحار لسؤال كبير في سياق فعل التحري السردي المراوغ لمنطق العنوان وسؤاله الأساسي؛ في الأقل تزعم القصة أن «الانتحار» فعل يعادل «القتل». ثمة، إذاً، انتحار و«عاهرة» تبتلع حياة «الشامي» وهي تقبله. يستقر التحرير السردي عند نقطة أساسية في القصة الثانية، فيجري الإعلان المسبق أن هناك «واقعة» انتحار بـ«حبل» مربوط بسقف الغرفة «أليست سردية الحبل هنا ذات امتداد وصلة مؤكدة برواية الحبل لإسماعيل فهد إسماعيل!». في النهاية تحاول القصتان أن «تسردا» وقائع قتل/انتحار واحدة، سوى أن الثانية تسرب لنا شخصية «محقق» الشرطة المقابلة، حتماً، لـ«فرج» و«هرمز». وفي الحالتين لا صوت لـ«حكمة»، لا صوت سوى صوت الشهود وهم يرون لنا «وقائع» القتل، وهي ذاتها وقائع «تاريخ القتلة».

والآن «من قتل جمعة اللامي»؟ ولا «خطأ» أو «مغالطة» في السؤال؛ فلا مسافة كبيرة تبعد «حكمة» عن «جمعة»، سوى أن الأخير هو من تولى «كتابة» وقائع قتل «الشامي». مرة أخرى من «قتل» جمعة اللامي؟


مقالات ذات صلة

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

ثقافة وفنون هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً.

ميرزا الخويلدي (الدمام)
ثقافة وفنون «ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».