حنين الصايغ: لم أكتب دفاعاً عن طائفة إنما عن بشر لهم حيواتهم

صاحبة «ميثاق النساء» تقول لـ«الشرق الأوسط» إن النسوية أصبحت كلمة مشوّهة

 الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ
الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ
TT

حنين الصايغ: لم أكتب دفاعاً عن طائفة إنما عن بشر لهم حيواتهم

 الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ
الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ

استطاعت الكاتبة والشاعرة اللبنانية حنين الصايغ أن تحقق حضوراً لافتاً في المشهد الأدبي من خلال روايتها الأولى «ميثاق النساء» (دار الآداب)، التي أثارت تفاعلاً واسعاً بين القرّاء والنقّاد، وبلغت مراحل متقدّمة بوصولها إلى القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» العالمية للرواية العربية. في «ميثاق النساء»، تمنح الصايغ أولوية لصوت النساء، وترى أنه يتجاوز الإطار الضيق للعالم الدرزي الذي تدور فيه أحداث الرواية، ليعبّر عن هواجس إنسانية أبعد وأكثر تشعباً. هنا حوار معها... حول الرواية وهموم الكتابة.

> كتابة رواية عن جماعة مغلقة كالطائفة الدرزية يفرض تحديات خاصة، ماذا تعني لكِ الكتابة عنها؟ وهل شعرتِ أنك تكتبين «ميثاق النساء» من منطقة «أدب الأقلية»؟

- حين بدأت كتابة «ميثاق النساء»، لم أكن أفكر من أي منطقة أكتب، ولا لأي فئة سأوجّه الرواية. لم أضع جمهوراً بعينه في ذهني، ولم تكن هناك نية واعية للحديث عن جماعة أو طائفة. كل ما كان يحركني في البداية هو مجموعة من الأسئلة تؤرقني، عن المرأة، عن الذاكرة، عن التديّن والسلطة والخوف. ومع تقدّم السرد وجدتني أكتب عن المجتمع الذي أعرفه، لا كموضوع جاهز بل كنسيج حيّ من التفاصيل: عاداته، توجسه من الآخر، صراعاته الخفية، وأساطيره التي تشكل وعي أفراده من حيث لا يدرون.

لم يكن في نيتي أن أكتب «أدب أقلية»، لكن بعد صدور الرواية، بدأ بعض القراء والنقّاد يضعون العمل ضمن هذا التصنيف، أو يرونه في خانة «الأدب النسوي». لا أعترض على هذه الأسماء، ولكنني أرى أن مثل هذه التصنيفات باتت قاصرة عن الإحاطة بتجارب الكتابة الصادقة. ما كتبته لم يكن دفاعاً عن طائفة ولا هجوماً عليها، بل غوص في التجربة الإنسانية بكل هشاشتها وتعقيدها، بعيداً عن الحدود التي تضعها الهويات الصلبة.

وعندما تُرجمت الرواية إلى الألمانية، لفتني أن أغلب القراء الألمان لم يلتفتوا إلى الاختلاف الثقافي، بل تعاطوا مع الشخصيات من مدخلها النفسي والإنساني. شعروا بالقرب منها، رغم المسافات الجغرافية والدينية. وهذا، بالنسبة لي هو المعنى الأعمق للكتابة: أن نعبر من ضيق الخصوصية إلى اتساع الإنسانية.

> في عالمنا العربي، كثيراً ما تُقابل الكتابة النسوية بشيء من الحذر وربما الرفض. من واقع تجربتك في «ميثاق النساء» هل كان هناك تخوّف من التلقي؟

- ما ساعدني على كتابة «ميثاق النساء» بهذه الصراحة والشفافية هو أنني كتبت دون أن أفكر في أحد. لم يكن القارئ حاضراً في ذهني، ولا الناشر، ولا الرقيب. كنت أكتب فقط لأنني أشعر بأن لديّ شيئاً لا يحتمل التأجيل. ربما لهذا السبب لمس كثير من القراء صدق السرد، لأن النص لم يكن مقيّداً بالخوف من الأحكام، ولا مزيناً لإرضاء ذائقة بعينها. لم أكتب الرواية بدافع تبنّي خطاب نسوي محدد، وفي الوقت نفسه لا أحتاج أن أنفي عن نفسي «تهمة» النسوية. لكن المشكلة اليوم أن كلمة «نسوية» أصبحت مشوّهة ومثقلة بالإسقاطات.

هناك من يتحدث عن النسوية المتطرفة التي تشهر العداء للرجل، وهناك من يطالب بأن تكون لطيفة، وهناك من لا يعارضها ما دامت لا تطالب بتغيير فعلي. وبين هذه التصنيفات، تضيع الفكرة الأساسية: إن النسوية، ببساطة تعني أن يكون للمرأة الحق في أن تختار، أن تقرر، أن تُعامل ككائن كامل، ليس تابعاً ولا ناقصاً.

وعودة لسؤالك، لم أخف من التلقي، لأنني كنت صادقة مع نفسي، ولم أكتب شيئاً لا أومن به. والانتشار الواسع للرواية، خاصة بين النساء من خلفيات وثقافات مختلفة، أكّد لي أن ما كُتب كان ينتظر أن يُقال، بلا مواربة، وبلا تجميل للوجع الذي تعيشه كثير من النساء في عالمنا العربي.

> كيف يتقاطع مفهوم «الميثاق» مع الحكاية النسائية في الرواية بمنظورها الأوسع عن كتاب طائفة الموحدين؟

- «ميثاق النساء» ليس مجرد عنوان، بل مفتاحٌ لعالمٍ هشٍّ ومُحاطٍ بالمحرّمات، وعنواني، إذ يستعير عبارته من عنوان إحدى رسائل كتاب الحكمة المقدّس في الطائفة الدرزية، بدا لبعضهم وكأنه إعلان صريح للدخول في منطقة محرمة على الغرباء، بل حتى على أبناء الطائفة أحياناً. لكن هذا القلق لم يكن باعثاً على التراجع، بل كان جزءاً من الشجاعة التي استدعتها الكتابة نفسها.

فالميثاق الديني، كما ورد في المتن المقدّس، كُتب بقلم رجل، يُقدّم فيه تعاليم وإرشادات مُوجهة للنساء، ويضبط من خلاله علاقاتهن بالرجال، بل حتى بأنفسهن. أما «الميثاق» الذي تنسجه الرواية فليس قانوناً ولا وصيّة. إنه أقرب إلى وشوشة بين النساء، شهادة حية تُكتب بين السطور، وتُسرّ من امرأة إلى أخرى، لا لتُطاع، بل لتُفهم. هو ميثاق غير مكتوب، غير مُعلن، لكنه أقوى من النصوص الجاهزة، لأنه ينبع من الحياة، من الهزائم المتكررة، من لحظات الخذلان والانتصارات الصغيرة التي لا تُروى في المجالس العامة. ذلك هو الميثاق الحقيقي، لا تعاليم تُلقى من علٍ، بل عناق خفيّ بين المجروحات، ورغبة خافتة في النجاة دون ضجيج.

> تبدو هناك صورتان واضحتان للمجتمع الدرزي: صورة يرسمها أفراده عن أنفسهم من الداخل، وأخرى يراهم بها الآخرون من الخارج. هل الكتابة من داخله كانت محاولة لكسر الصور النمطية المحيطة به؟

- لكل أقلية صورتان: واحدة تصنعها لنفسها في الداخل، مليئة بالفخر والقلق والحذر، وأخرى تُسقِطها عليها عيون الخارج، غالباً بعين الريبة أو الشيطنة. وقد لاحظت، كما لاحظ غيري، أن المجتمع الدرزي كثيراً ما يُختزل من الخارج، في صورة «مجتمع باطني مغلق»، وكأن الغموض قدر لا فكاك منه. في حين تميل بعض الخطابات الأخرى إلى تصويره نموذجاً نقياً ومثالياً، أشبه بكائن مهدّد بالانقراض، يُغدق عليه المراقبون كلمات الإعجاب الفولكلوري. أما أنا، فلم أرد أن أُساهم في تغذية أيٍّ من هاتين الصورتين. لم أكتب لأقدّم دروزاً استثنائيين، ولا لأُفكك طائفة مغلقة. كتبت عن بشرٍ لهم حيواتهم المعقدة، لم أرد فتح النوافذ عليهم، بل فتحت النوافذ معهم، من الداخل. ولذلك كانت سعادتي كبيرة حين بدأت تصل إليّ رسائل من قراء لا ينتمون للمجتمع الدرزي، رجالًا ونساءً، قالوا لي إنهم وجدوا أنفسهم في شخصيات الرواية. وهذا، برأيي، جوهر الأدب الحقيقي: أن يُذيب المسافات، أن يحرّر الإنسان من علب التصنيف والانتماء.

> تشغل فلسفة تناسخ الأرواح موقعاً جوهرياً في العقيدة الدرزية، كيف فكرتِ في توظيفها داخل النص، وربما علاقتها بتحوّلات النساء عبر الأجيال؟

- فلسفة تناسخ الأرواح، كما تحضر في العقيدة الدرزية، تُغري الكثيرين بجرّها نحو عجائب السرد أو كوميديا العبث. لكنني، حين اقتربت منها، لم أقترب بروحٍ ساخرة ولا بعين واقعية سحرية، بل بقلبٍ مثقل بالتعاطف. كنت أفكّر في الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن فجأة، في عمر الورد، ووجدن في هذه الفلسفة عزاءً يقيهن الجنون. من جهة أخرى، شغلتني في هذه العقيدة تلك الومضة الفلسفية المتعلقة بالعدالة الكونية: أن يعود الإنسان بعد الموت ليُجرب الحياة مجدداً، من موقعٍ مختلف، في جسدٍ آخر، وبين مصائر جديدة. أحببت أن أرى في التناسخ تعويضاً عن الخسارة والخذلان، استدراكاً لما لم يكتمل؟ لكن الرواية لا تتبنى موقفاً واضحاً من هذه الفكرة. فهي لا تروّج لها ولا تدحضها، بل تفتح لها المجال كي تُختبر داخل النفس البشرية المتقلبة. إحدى الشخصيات تُدافع عن التناسخ بحرقة، كمن ضاقت به سُبل الحياة ويبحث عن معنى آخر، عن فرصة أخرى. في حين ترى شخصية أخرى أن التناسخ مجرد وهم، يولد من عجز الإنسان عن تقبّل الفقد، ومن حاجته المستميتة لتسكين ألمه بقصةٍ مريحة للقلب حتى لو رفضها العقل.

> يحضر الشعور بالذنب كظل ثقيل في الرواية، وقد بدأتِها بإهداء لابنتك يتراوح بين «اعذريني وسامحيني» بما يحمل صدى واضحاً من هذا الشعور، هل الكتابة كانت وسيلة لتحريرك من هذا العبء؟

- الشعور بالذنب ليس شعوراً فردياً أو عابراً، بل يكاد يكون ميراثاً تتناقله النساء، جيلاً بعد جيل، بين الخوف من التقصير، والرغبة في نيل رضا الآخرين. من هنا كان الإهداء لابنتي، بين «اعذريني» و«سامحيني»، لا بوصفه تبريراً، بل هو سؤال مفتوح، تركته لها وربما لكل امرأة أخرى، تبحث عن معنى التوازن في معادلة لا عدل فيها. ثنائية الأمومة والشعور بالذنب تأخذ حيزاً كبيراً في الرواية، لا لأنها حاضرة فقط في بيئتنا الشرقية، بل لأنها ظاهرة عالمية كما اكتشفت من خلال حواراتي مع نساء من ثقافات وخلفيات متعددة تُصوَّر الأم في المخيال الجمعي ككائن لا يُخطئ، لا يتعب، لا يشكو، لا يتراجع. وهذا التصوير، وبسبب مثاليته المنافية للواقع، يجعل من كل لحظة ضعف أو تقصير جرحاً في ضمير المرأة. في «ميثاق النساء»، حاولت أن أقدّم الأمومة كما هي: تجربة إنسانية تحتمل الصواب والخطأ، العطاء والتقصير، الحضور والغياب. والكتابة لم تكن وسيلة للهروب من الشعور بالذنب، بل كانت طريقاً لمواجهته.

> كون «ميثاق النساء» الرواية الأولى لك، وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر)، هل يشكّل هذا الأمر نوعاً من الضغط عليكِ؟ أم ترينه دفعة نحو مزيد من الثقة في مشروعك الأدبي؟

- لحسن الحظ، أنهيت روايتي الثانية قبل أن تُعلَن القوائم الطويلة والقصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية. وكأنني أغلقت الباب على نفسي بهدوء، لأكتب دون أن يتسلل إليّ صدى التوقعات أو ثقل المنافسة. لكن لا أنكر أن وصول «ميثاق النساء» إلى القائمة القصيرة منحني دفعة مضاعفة: من جهةٍ فتح أمام الرواية أبواباً كانت مغلقة، وقرّبها إلى قرّاء لم أكن أحلم أن أصل إليهم بهذه السرعة، ومن جهة أخرى، جعلني أعي أن خطواتي التالية ستكون أكثر مراقبة، وأكثر انتظاراً للحُكم. لكنني أُذكّر نفسي دائماً بأن الجوائز ليست الغاية، بل إحدى الثمار التي قد تتدلى من شجرة إذا كانت جذورها عميقة بما يكفي. الكتابة، كما أفهمها، ليست سباقاً نحو التتويج، بل رحلة لاكتشاف صوتي الداخلي، ذلك الصوت الذي لا يشبه أحداً، والذي لن يصدقني الناس فيه ما لم أصدّقه أنا أولاً. أتمنى أن أحتفظ بالبراءة الأولى، بتلك التلقائية التي كتبت بها روايتي الأولى والثانية، أن أظل أكتب لنفسي أولاً، ثم لهؤلاء الذين يجدون في كلماتي مرآةً لما لم يستطيعوا التعبير عنه. المشروع الأدبي، كما أراه، لا يُبنى على خوارزميات الجوائز ولا على استرضاء الذائقة السائدة، بل يبدأ حين يجد الكاتب صوته، وحين يؤمن بأن هذا الصوت، مهما كان خافتاً يستحق أن يُنصت إليه. وحين تأتي الجائزة، إن أتت، فلتكن صدىً طبيعياً لهذا الصدق، لا غايةً تُشوّه المسار.


مقالات ذات صلة

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

ثقافة وفنون من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

لا يبدو 2025 في روزنامة المملكة المتحدة الثقافية مجرد محطة اعتيادية لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ التواريخ لتجمع في سلة واحدة حصاد قرون متباعدة

ندى حطيط (لندن)
ثقافة وفنون نزار قباني

عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

لم يكف البشر عبر تاريخهم الطويل عن الاحتفال بمحطات زمنية دورية، يستولدونها من حاجتهم الملحة إلى التحلق حول رموز ومعتقدات جامعة،

شوقي بزيع
ثقافة وفنون معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»

الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

إذا كان من عنوان لهذه السنة فهو «النضال» من أجل استبدال البشاعة بالجمال. فقد أغلق عام 2024 على حرب إسرائيلية ضروس، انحسرت،

سوسن الأبطح (بيروت)
ثقافة وفنون معرض "أرتميسيا، بطلة الفن"

فرنسا الثقافية 2025... صدمة التراث المنهوب وتحديات «السيادة الرقمية»

شهد عام 2025 تحولات كبرى، أعادت رسم ملامح المشهد الثقافي والفكري في فرنسا، فبين أسوار المتاحف العريقة وطاولات لجان التحكيم الأدبية،

أنيسة مخالدي (باريس)
ثقافة وفنون جانب من مؤتمر الخط العربي

المشهد الثقافي المصري... نفض أحزان الفقد ومواصلة الأنشطة المعتادة

عام مثقل بالفقد والأحزان عاشته الثقافة المصرية خلال 2025، فقد غيَّب الموت كوكبة من المبدعين والشعراء والنقاد، جميعهم لعبوا أدواراً متنوعة

جمال القصاص (القاهرة)

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
TT

بريطانيا عام 2025... حارسة الذاكرة الثقافية

من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن
من الاحتفالات بمرور ربع ألفية على ميلاد جين أوستن

لا يبدو 2025 في روزنامة المملكة المتحدة الثقافية مجرد محطة اعتيادية لطي صفحة عام وفتح أخرى. ففيه، تتواطأ التواريخ لتجمع في سلة واحدة حصاد قرون متباعدة: حكمة القرن السابع عشر التأسيسية، ورومانسية القرن الثامن عشر الاجتماعية، وانفجار الحداثة في الربع الأول من القرن العشرين، وصولاً إلى أسئلة الذكاء الاصطناعي في راهننا المعاصر.

الجزيرة البريطانية كانت أقرب ما يكون إلى مختبر مفتوح، يعيد قراءة هوية الغرب الثقافية عبر رموزها الأكثر رسوخاً. هنا، نحاول رسم خريطة بانورامية لهذا المشهد، حيث يتجاور «فرانسيس بيكون» مع «جين أوستن»، وتتصالح ضبابية لندن «فيرجينيا وولف» مع صخب برادفورد عاصمة الثقافة الجديدة في الشمال.

ربع ألفية جين أوستن... أيقونة متجددة

الحدث الذي يُلقي بظلاله الرقيقة والساخرة على المشهد الأدبي مع نهاية العام، هو الاحتفال بمرور ربع ألفية على ميلاد الروائية الإنجليزية الأشهر، جين أوستن (1775-1817) التي تحولت عبر العقود إلى «ظاهرة ثقافية» عابرة للأزمنة، أو ما يصطلح عليه مؤرخو الفكر بـ«هوس أوستن».

مقاطعة هامبشاير، حيث يقع منزلها في قرية «تشوتون»، صارت قبلة للحجيج الأدبي، وتجاوزت الاحتفالات حيز الجغرافيا لتستعيد «اللحظة الأوستينية» في التاريخ. فقد دفعت دور النشر البريطانية العريقة مثل «بنغوين» و«فينتج» بطبعات خاصة من الروايات الستة الخالدة، ونشرت عدة دراسات نقدية جديدة تفكك سر بقاء هذه النصوص طازجة في زمان «التيك توك». وأصدرت دار «فيرسو» سيرة غرافيكية مميزة رسمتها كيت إيفانز.

مدينة «باث» التاريخية، التي خلدتها أوستن في «دير نورثانجر» و«إقناع»، تحولت شوارعها الحجرية إلى متحف حي، وغداً المهرجان السنوي للاحتفاء بها أكبر من مجرد كرنفال للأزياء التاريخية من فترة ما قبل العصر الفيكتوري، ليكون منصة لإعادة الاعتبار للروائية بوصفها «النسوية الصامتة» و«الناقدة الاقتصادية» التي وظفت أدوات الأدب لرصد حركة المال والزواج في مجتمع متغير. إنه وقت لاستعادة الحبكة المحكمة والسخرية المهذبة التي تضمر تحتها نقداً حاداً للطبقية.

4 قرون على «مقالات» فرانسيس بيكون

إذا كانت أوستن تمثل تيار الشعور ودقة الملاحظة الاجتماعية، فإن 2025 يحمل ذكرى تمتاز بالرصانة والصرامة الفكرية. إنه العام الذي وافق مرور أربعة قرون كاملة على نشر الطبعة الثالثة والمكتملة من «المقالات-1625» للفيلسوف ورجل الدولة فرانسيس بيكون.

نشر بيكون تلك الطبعة قبل عام واحد من وفاته، مودعاً فيها خلاصة تجربته في السياسة والحياة. المؤسسات الأكاديمية، من كامبريدج إلى أروقة المكتبة البريطانية في «سانت بانكراس»، نظمت ندوات أعادت قراءة مقالاته الشهيرة مثل «في الحقيقة»، «في الموت»، و«في الفتن والقلاقل».

تكمن أهمية هذه المئوية الرابعة في استعادة اللغة البيكونية؛ تلك اللغة المكثفة، المتماسكة، التي أسست للنثر الإنجليزي الحديث. ويتمّ تسليط الضوء على أعماله بصفته أباً للمنهج التجريبي العلمي، ومهندساً للسياسة الواقعية، ومفكراً استشرف مبكراً علاقة «المعرفة» بـ«القوة». الاحتفاء ببيكون اليوم احتفاء بالعقل المجرد في مواجهة فوضى العواطف السياسية وحروب الشعبويات.

جانب من معرض لندن

مئوية الحداثة: «السيدة دالواي» تشتري الزهور

بالانتقال من القرن السابع عشر إلى العشرين، يواجهنا تاريخ مفصلي: 1925، الذي يُعرف في النقد الأدبي بعام «المعجزة الحداثية»، وفيه، نشرت فيرجينيا وولف روايتها التي غيرت مسار السرد الروائي: «السيدة دالواي».

«قالت السيدة دالواي إنها ستشتري الزهور بنفسها». هذه الجملة الافتتاحية الشهيرة ترددت أصداؤها في أرجاء لندن طوال 2025، ونظمت المؤسسات الثقافية، بالتعاون مع «الصندوق الوطني»، مسارات أدبية تقتفي أثر «كلاريسا دالواي» في شوارع وستمنستر وبوند ستريت.

تخطى الاحتفال بوولف فضاء السياحة الأدبية ليكون تكريساً لمرور قرن كامل على تقنية «تيار الوعي». وشهدت الجامعات والملاحق الثقافية مراجعات نقدية لإرث «مجموعة بلومزبري» - حلقة غير رسمية من الأصدقاء والأقارب (كتاب، فنانين، فلاسفة) عاشوا وعملوا وتجادلوا بالقرب من منطقة «بلومزبري» بوسط لندن جوار المتحف البريطاني خلال النصف الأول من القرن العشرين - وتأثيرها في تحطيم القالب التقليدي للرواية الفيكتورية الكلاسيكية. كما فتح هذا اليوبيل الباب واسعاً لمناقشة قضايا الصحة النفسية، والعزلة داخل المدينة الكبيرة، وهي ثيمات سبقت وولف إلى تشريحها وتظل شديدة الراهنية للإنسان المعاصر.

وفي سياق متصل بـ«المعجزة الحداثية»، يجدر ذكر مئوية قصيدة «الرجال الجوف» لـ ت. إس. إليوت، ورواية «غاتسبي العظيم»، لفرنسيس سكوت فيتزغيرالد - التي تعد عند كثير من النقاد الرواية الأميركية الأهم -، ما جعل من العام الحالي فترة لاستعادة «القلق الجميل» الذي ميز فترة ما بين الحربين في مجمل العالم الأنجلوسكسوني.

برادفورد 2025: الشمال يكتب سرديته

بعيداً عن مركزية لندن العاصمة، اتجهت البوصلة الثقافية شمالاً نحو «يوركشاير»، وتحديداً إلى مدينة برادفورد، التي توجت بلقب «مدينة الثقافة في المملكة المتحدة 2025». هذا اللقب، الذي تتنافس عليه المدن البريطانية بشراسة، وضع برادفورد تحت المجهر طوال اثني عشر شهراً.

برادفورد، تلك المدينة الصناعية العريقة، تمثل، بريطانياً، بوتقة انصهار اجتماعي وتاريخي. وبكونها أول مدينة لليونسكو في مجال السينما، وبقربها من «هاوورث» (موطن الأخوات الروائيات برونتي)، تمتلك إرثاً ثقافياً ثقيلاً.

وتضمنت الأنشطة المرافقة للتتويج أكثر من ألف فعالية فنية، تراوحت بين المعارض البصرية المعاصرة في «كارترايت هول»، وعروض المسرح التجريبي في المصانع القديمة المعاد تأهيلها وغيرها، كرهان على قدرة الثقافة على قيادة التغيير الاقتصادي والاجتماعي، وتقديم برادفورد أنموذجاً للمدينة البريطانية الحديثة المتعددة الأعراق والهويات، التي تصنع الفن من قلب التنوع.

معرض لندن للكتاب: سؤال الورق والرقائق الإلكترونية

في ربيع 2025، وكعادتها منذ 1971، كانت قاعة «أوليمبيا» بغرب لندن مسرحاً للحدث الأهم في صناعة النشر العالمية: معرض لندن للكتاب. واكتسبت دورة 2025 أهمية خاصة في ظل التحولات التكنولوجية العاصفة.

تجاوز الحديث في الأروقة صفقات حقوق الترجمة والبيع، ليشتبك مع هواجس الناشرين ومنتجي المحتوى تجاه تغّول الذكاء الاصطناعي، ونظمت ندوات ساخنة حول مستقبل الكتابة الإبداعية: إمكانية كتابة الآلة للرواية، وسبل حماية القوانين لحقوق المؤلفين من «تغذية» النماذج اللغوية بأعمالهم.

الجوائز الأدبية والفنون التشكيلية

في الخلفية، تظل الجوائز الأدبية البريطانية الكبرى هي الضابط لإيقاع نبض الحياة الثقافية في المملكة. وذهبت جائزة بوكر الأدبية المرموقة لديفيد زالاي عن «لحم» (Flesh) التي وصفت بأنها عمل محفوف بالمخاطر حول الضعف البشري، بينما توجت الهولندية يائيل فان دير بودن بجائزة أدب المرأة للرواية عن عملها الأول المذهل «مستودع آمن» (The Safekeeper) الذي استعاد أجواء ما بعد الحرب العالمية الثانية، وحصد ستيفن ويت لقب كتاب العام من جريدة «فاينانشال تايمز» عن «الآلة المفكرة» (The Thinking Machine) الذي أرخ لرحلة صعود شركة «إنفيديا» والذكاء الاصطناعي، ونال الآيرلندي دونال رايان جائزة أورويل للرواية السياسية عن «فليسكن قلبك في سلام» (Heart, Be at Peace)، وأخيراً، توجت المؤرخة هانا دوركين بجائزة ولفسون للتاريخ عن كتابها التوثيقي «الناجون» (Survivors) الذي تتبع بدقة قصص آخر أسرى سفن تجارة الرقيق عبر الأطلسي.

وفي الفنون التشكيلية فتح «تيت مودرن» والمتحف البريطاني أبوابهما لمعارض استعادية ضخمة، تسعى للخروج من عباءة المركزية الأوروبية، وتسليط الضوء على فنون الجنوب العالمي، لتصفية الحسابات مع الماضي الاستعماري عبر الفن والجمال. لقد قدمت بريطانيا نفسها في 2025، عبر هذه الفعاليات، حارسةً للذاكرة الأدبية، ومختبراً للمستقبل الثقافي الغربي في آن واحد. إنه عام ثري، ذكرنا، وسط ضجيج التكنولوجيا، بأن الكلمة المكتوبة تظل هي الأداة الأقوى لصياغة وعي البشر، وأن دواء الحروب الثقافية في البحث عن الهم الإنساني المشترك.


عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني
TT

عيد رأس السنة بين التأمل الخلاق والصخب الهستيري

نزار قباني
نزار قباني

لم يكف البشر عبر تاريخهم الطويل عن الاحتفال بمحطات زمنية دورية، يستولدونها من حاجتهم الملحة إلى التحلق حول رموز ومعتقدات جامعة، تتوزع بين الديني والوطني والاجتماعي. وهم إذ يسمون هذه المحطات أعياداً، يقيمون لها احتفالات وطقوساً متباينة المظاهر والدلالات، ويحولونها إلى مساحات للفرح أو الحزن، للصخب أو التأمل. اللافت أن التطور المتعاظم الذي أصابته المجتمعات على الصعد العلمية والتقنية لم يفض إلى تقليص الظاهرة أو إلغائها، بل تضاعف منسوبها مرات عدة، بعد أن اتخذت طابعاً تكريمياً لبعض الفئات والشرائح المهملة. وهو ما وجد شواهده المثلى، في ابتكار أعياد وأيام للاحتفال بالمعلم والعامل والأم والطفل والأب، وصولاً إلى قيام المنظمات الدولية بإعلان معظم أيام السنة، مناسبات للاهتمام بالفئات المهمشة، أو بالتحديات المستجدة التي تواجه سكان الأرض.

ومع أن التقاليد والعادات المرافقة للأعياد ظلت تتأرجح على الدوام بين الفرح الاحتفالي والحزن الحدادي والخشوع الإيماني الصامت، تبعاً لطبيعة العيد ودلالاته، فإن «البراءة» التي تميزت بها الأعياد في العصور السابقة، سرعان ما أخلت مكانها للمظاهر المتكلفة والصخب السطحي. ففي ظل التغيرات الدراماتيكية التي أصابت الحياة المعاصرة في ظل النظام الرأسمالي، تم تحويل الأعياد إلى مناسبات «باخوسية» للتسوق الباذخ والترف المفرط والتهالك على الملذات.

ووسط تكاثر الأعياد وازدحامها، يبدو عيد رأس السنة المحطة الزمنية الأكثر اتصالاً بواقع البشر وهواجسهم ووجدانهم الجمعي. وقد يكون هذا العيد أحد أكثر الأعياد قِدماً، رغم أن تعيينه الزمني قد اختلف من عصر إلى آخر. فقد احتفل به البابليون قبل أربعين قرناً، في شهر مارس (آذار)، تزامناً مع الاعتدال الربيعي وتجدد الزراعة وطقوس الخصب. واحتاج الأمر إلى قرون عديدة لاحقة، قبل أن يقرر الحاكم الروماني يوليوس قيصر نقل الاحتفال به إلى مطلع يناير (كانون الثاني) من كل عام، تكريماً ليانوس، إله البدايات عند الرومان. ثم أخذت رقعة العيد الاحتفالية في الاتساع بشكل تدريجي، ليطول في وقت لاحق سائر شعوب الأرض وقومياتها وأعراقها.

وإذا كان مفهوماً أن يتخذ عيدا الحب والميلاد طابعهما الاحتفالي المفعم بالفرح والنشوة، باعتبار أن الأول مرتبط بالمشاعر الإنسانية وغريزة البقاء، والثاني بميلاد السيد المسيح، وما يعنيه من بهاء الرمز وقوة الدلالة، فإن من المفارقات المثيرة للدهشة أن يتم الاحتفاء برأس السنة بكل هذ القدر من الضجيج والانتشاء والصخب الكرنفالي الكوني، في حين أن انقضاء سنة من أعمارنا المحدودة يستوجب «التشييع الحدادي » للعام الذي خسرناه، أكثر من الابتهاج بعام قادم لسنا متأكدين من ربحنا له. والأرجح أن إحداث البشر لهذا الضجيج الصاخب ما هو إلا محاولة يائسة لتمويه هواجسهم الفعلية، وتبديد قلقهم الوجودي، وتشتيت خوفهم من فكرة الموت.

لكن اتجاه الكثرة الكاثرة من الناس لمواجهة هذه المناسبة الملتبسة بالارتماء في حمأة المتع الحسية الجمعية، لا يصرفنا عن ملاحظة الجانب الآخر من الصورة، حيث يؤثر البعض الانفراد بأنفسهم بهدف المكاشفة الذاتية، وإجراء جردة حساب مفصلة مع النفس، وتؤثر العائلات أن تتحلق حول نفسها لكي يواجه أفرادها بالتضامن والتكافل مخاوفهم المشتركة من غدر الزمن، فيما يغرق المتوحدون والانطوائيون في وهدة الإحباط والأسى، وصولاً إلى الانتحار في حالات الكآبة القصوى.

وحيث لا يبدو مستغرباً أن يجد كتاب العالم وفنانوه في هذا الاستحقاق الزمني فرصتهم الملائمة لمراجعة علاقتهم بأنفسهم، أو لطرح الأسئلة المتعلقة بشؤون الحياة واستحقاقاتها الداهمة، كقضايا الحب والحرب والصراع على البقاء والتبدل السريع للمصائر، فإننا نعثر في نتاج هؤلاء الكثير من الشواهد والأمثلة الدالة على ذلك. فالشاعر الأميركي روبرت لويل، المولود في أوائل القرن المنصرم، الذي عايش حربين عالميتين، لا يرى في بدايات الأعوام سوى مناسبات متكررة لتجديد عهد البشر مع صقيع الضغائن ولهب الحروب الدامية، فيكتب في قصيدته «يوم رأس السنة»:

مرة بعد مرة يولد العام في الجليد والموت

ولا يجدينا التواري خلف نوافذ العاصفة

قرب الموقد

بينما الجليد المدّي الرقيق يتآكل

فما دمنا أحياء نحن نعيش لنشمّ دخان الضحايا

أما الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ارتبطت بعلاقة زوجية صعبة مع الشاعر البريطاني تيد هيوز، فقد رأت في نهايات الأعوام المناسبات النموذجية لتجديد العقد مع مشقات العيش وآلامه. وهي إذ تشبّه ثقل السنين بالمكابس، كما بحوافر الخيول وزئير النمور، تبدو وكأنها ترهص بانتحارها اللاحق الذي لم يتأخر كثيراً حدوثه، فتعلن في قصيدتها «السنون»:

الأبدية التي تملُّني لم أُردها يوماً

ما أحبه هو المكبس في حركته

روحي تموت قبله

وحوافر الخيول شبيهة بالخضِّ القاسي الذي لا يرحم

أهو نمِرٌ هذا العام، هذا الزئير على الباب؟

وإذ يمهد الشاعر الروسي فاليري بريوسف لقصيدته «على أبواب العام 1905 الجديد»، بالقول: «في المهد الحديدي والرعب يولد العام الجديد»، يتضح أن الرعب المشار إليه هو ذلك الناجم عن غرق الأرض في الكراهية والعنف الدموي. كما يبدو واضحاً أن القصيدة مكتوبة بتأثير من الحرب الضروس التي قامت بين روسيا واليابان عشية ذلك العام بالذات. وفي ذلك يقول الشاعر: «مضى عام بتمامه كمنام دموي، أو كابوس خانق أصم، وعلى الغيم بريق كأنه حمم بركان. اشرأب العام الجديد مارداً عنيفاً، يمسك في كفه الصارمة ميزان خفايا الأقدار».

روبرت لويل

بالانتقال إلى الشعر العربي، لا يرى نزار قباني أن في نهايات الأعوام ما يوجب الغرق في التشاؤم والرؤى القاتمة، أو طرح الأسئلة المؤرقة المتعلقة بأحوال النفس والعالم. فهو لم يكن يجد الوقت لمثل تلك المكابدات، بخاصة في ذروة شبابه، حين كان عشقه للنساء يعفيه من أي مهمة مينافيزيقية بعيدة الغور. وإذا كان له أن يجري، كغيره من المشتغلين بالشعر والفن، جردة حساب سريعة مع العام الذي انصرم، فهي جردة تتعلق بمستحقات الحب وأكلافه. لذلك فهو في مجموعته «هكذا أكتب تاريخ النساء» يخاطب المرأة التي يعشقها بالقول: «اثنا عشر شهراً وأنا أشتغل كدودة الحرير، مرة بخيط ورديّ، ومرة بخيط برتقالي. حيناً بأسلاك الذهب، وحيناً بأسلاك الفضة، لأفاجئك بأغنية، تضعينها على كتفيك كشال الكشمير، ليلة رأس السنة».

أما الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، فلا ترى في انقضاء العام، ما يوجب الحداد عليه أو استرجاع محطاته وأطيافه، بل هي تشيح بوجهها عنه لتلتفت إلى ما يمكن أن يحمله العام الذي يليه من هدايا الحب ووعود الخصب والتجدد، فتقول في قصيدتها «صلاة إلى العام الجديد»:

ما الذي تحمله من أجلنا، ماذا لديكْ؟

أعطِنا حباً فبالحب كنوز الخير فينا تتفجرْ

أعطِنا حباً فنبني العالم المنهار فينا من جديدْ

ونعيدْ

فرحة الخصب لدنيانا الجديبة

وإذا كانت طوقان تستخدم في قصيدتها ذات النبرة التموزية ضمير المتكلم الجمعي، فإن الأمر مرتبط بأمرين اثنين، يتصل أولهما بانتمائها إلى فلسطين، التي يواجه أهلها أشكالاً عاتية من العسف والاضطهاد ومصادرة الأرض، ما يدفعها إلى ربط أمنياتها بقضايا الوطن وشجونه، أما الثاني فيتمثل في كون الشاعرة التي عانت كثيراً من وطأة التقاليد المحافظة، وصولاً إلى فشلها المتكرر في الحب، قد اتخذت من أمنيات شعبها الرازح تحت وطأة الاضطهاد والتشرد، ذريعتها الملائمة لإعلان تعطشها الشخصي إلى الحب والحرية والتجدد.

وقد تكون قصيدة الشاعر السوداني محمد عبد الباري «ليلة رأس السنة»، هي أفضل ما أختتم به هذه المقالة، ليس فقط لأنها تكشف عن الجانب الأصيل والمشرق من تجارب الشعراء العرب الشبان، بل لأن صاحبها يجانب الاستسلام لأفخاخ العزلة الكابوسية من جهة، ولصخب الجموع الهذياني من جهة أخرى، ليجعل من المناسبة فرصةً ثمينةً لاستنطاق الصمت، واللقاء الخلاق مع الذات، فيكتب قائلاً:

سقطتْ أوراق التقويمِ فعلّقْ تقويم العام الآتي

المسرح دائرةٌ

والوقت هو الفاصل بين البدء وبين البدءِ

فأوقفْ ساعتك العمياء وفكّر في الأمر قليلاً..

واتركني أكملُ هذي الليلة وحدي

لأفتش عن ذاتي


الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
TT

الثقافة اللبنانية تتوهج بين الانتعاش والفوضى من دون أن تعبأ بالحرب

معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»
معرض ضياع العزاوي في «غاليري صالح بركات»

إذا كان من عنوان لهذه السنة فهو «النضال» من أجل استبدال البشاعة بالجمال. فقد أغلق عام 2024 على حرب إسرائيلية ضروس، انحسرت، لكنها لم تنتهِ بعد. كان على اللبنانيين أن يعودوا إلى المسرح وغاليريات الفن، ومهرجانات السينما، والعروض الفنية، والأنشطة الأدبية، كأنما الوطن لا يقصف، والأرض لا تسلب.

الحرب وإن انحسرت فقد بقيت مستمرة، والتهديد بتمددها من جديد يومي، ولا يزال. لكن من يرى بيروت، قد لا يصدق أن هؤلاء الذين لا يكفّون عن الاحتفاء بالمسرح والأدب والمعارض والأفلام والكتب هم على شفير هاوية. فعدا الانهيار الاقتصادي، والاضطرابات السياسية، جاءت الحرب كأنما كي لا تترك مجالاً لهدنة.

قد لا تكون مبالغة القول إن كثافة الأنشطة الثقافية في بلد صغير مثل لبنان، وفي الظرف الصعب الذي يعيشه، ومن دون أي تمويل من الدولة، تكاد تكون ظاهرة يصعب تفسيرها، حتى فهمهما.

كم الأنشطة والدعوات كثيرٌ حدّ الإرباك، وهذا يأتي في أحيان كثيرة على حساب النوعية. خشبات المسارح محجوزة مقدماً، ومواعيد الجمهور تتضارب. لشدة الطلب، ثمة مسرحيات تغيب ثم تعود، مثل «مجدرة حمرا» إخراج يحيى جابر، وتمثيل البديعة أنجو ريحان. وهي من المسرحيات التي راقت كثيراً للجمهور، كذلك أعيد تقديم «مونوبوز» للكاتبة والمخرجة والممثلة بيتي توتل. وفي نهاية العام، أعاد الأخوان صبّاغ مسرحية غنائية كانا قدّماها قبل سنوات طويلة، هي «أنا وغيفارا». وكذلك أخرج الفنان عبد الحليم كركلا من أرشيفه عمله الرائع «ألف ليلة وليلة» وأعاد تقديمه في بيروت، قبل أن يغادر إلى موسكو ليقدم العمل على «مسرح البولشوي»، بنجاح كبير.

وفي نهاية العام، قدّمت المخرجة لينا خوري مسرحيتها الجميلة «أبو الزوس» التي تعكس تعقيدات التركيبة اللبنانية، وهي تجمع بين الفكاهة والعمق، وتغوص في النفس البشرية على طريقتها.

ثمة كثافة يختلط فيها العثّ بالسمين، إن في الفن التشكيلي أو في الأعمال السينمائية، حتى في إصدارات الكتب. قد تكون الظاهرة أكبر من لبنان، بسبب انتشار وسائل التواصل، وهشاشة المعايير. لكن السؤال الذي لن تجد إجابة عليه، هو من يمول كل هذا الكمّ من الأعمال، حتى الهابطة منها؟ وما الذي أدخلنا في هذا الازدحام الثقافي؟ وهل هي ظاهرة صحية، لأنها تجلب الفرح والاجتماع حول التجاريب الإبداعية، أم ثرثرة لا طائل تحت غالبية ما يصدر عنها؟

الإجابات ليست يسيرة، لكن المؤكد أن ثمة الكثير مما يسعد ويبهج. من ذلك، عشرات الحفلات التي أحياها الكونسرفتوار الوطني للموسيقى هذا العام، في مختلف المناطق اللبنانية، بفضل رئيسته النشطة المؤلفة الموسيقية والمغنية هبة القواس، لتصبح الموسيقى الكلاسيكية، بفضل جهد أساتذة المعهد وطلابه، في متناول كل مواطن.

«ألف ليلة وليلة» من لبنان إلى موسكو

المعارض كانت كثيفة بدورها، نذكر منها معرض «ديفا: من أم كلثوم إلى داليدا» في «متحف سرسق»، في بيروت، نظَّمه «معهد العالم العربي» في باريس، حيث انطلق من هناك إلى أمستردام وعمّان، قبل أن يصل العاصمة اللبنانية.

في المعرض فساتين، صور، تسجيلات، أفلام، وثائقيات، قطع أثاث، شنط، دفاتر، أشياء أخرى كثيرة، تخص نجماتنا الأثيرات، مثل هند رستم، فيروز، وردة، أم كلثوم، صباح، وغيرهن كثيرات.

ومن المعارض التشكيلية المهمة، الذي أقامه «غاليري صالح بركات» للتشكيلي العراقي ضياء العزاوي، بعنوان «شهود الزور»، لنكتشف من جديد جداريات العزاوي، التي ترسم خرائط التراجيديات العربية، حيث يتحول الزائر إلى متفرج على المجزرة الكبرى. فالمقتلة عند هذا العراقي الحزين ممتدة من بغداد إلى الموصل فحلب، وبيروت وغزة.

وفي «متحف سرسق»، أقام الفنانان الموهوبان جوانا حاجي توما وخليل جريج، معرض «ذكرى النور» في استعادة لأجمل أعمالهما في السنوات العشر الأخيرة، بعد أن جابت مدناً عدّة، وعادت إلى بيروت لتجد مستقرها، وتحكي لأهل البلاد قصصهم وتاريخهم ومعاناتهم، وما دُفن تحت ترابهم.

من المواعيد التي أثارت إعجاباً كبيراً معارض «وي ديزين بيروت» أو «نحن نصمم بيروت» في نسخته الثانية، حيث أعيد رسم ملامح مواقع في العاصمة بأنامل مبدعين تفننوا في تقديم رؤى، أضافت إلى روح الأمكنة معاني أخرى، في بحث عن الهوية، والانتماء، والذاكرة. توزعت المشاريع الفنية في عدد من المواقع، من بينها عمارة «برج المر» و«فيلا عودة» و«الحمامات الرومانية» و«بناية الاتحاد» ومصنع «أبرويان».

وفي الصيف، وبسبب استمرار التهديدات، ترددت لجان المهرجانات طويلاً، قبل أن تعلن برامجها، لكنها في النهاية قررت ألا تغيب، وفضّلت أن تعتمد بشكل كبير على الفنانين اللبنانيين، دون توسيع الطموح والتورط مع فرق كبيرة. ومن أبرز ما قدّم في مهرجانات بيت الدين: ميوزيكال «كلو مسموح» الذي لعبت الدور الرئيسي فيه الفنانة كارول سماحة، وأخرجه وشارك في تمثيله روي الخوري، كما كان الافتتاح بـ«ديوانية حبّ» المستوحاة من مجالس الطرب القديمة. جمع الحدث ثلاثاً من أبرز المطربات العربيات: جاهدة وهبة (لبنان) التي أدارت بمهارة الجلسة الغنائية، وريهام عبد الحكيم (مصر)، ولبانة القنطار (سوريا)، مع نخبة من العازفين بقيادة المايسترو أحمد طه.

وتوالت المهرجانات السينمائية على مدار العام، واختير فيلم «أرزة» لتمثيل لبنان في الأوسكار، من إخراج ميرا شايب، بطولة دياموند أبو عبود، تدور أحداثه حول أم تكافح في بيروت وتواجه تحديات لاسترداد دراجتها النارية. وفاز فيلم «ثريا حبي» بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، للمخرج نيكولا خوري، يستكشف حياة الفنانة الراقصة ثريا بغدادي، وعلاقتها بزوجها الراحل المخرج السينمائي مارون بغدادي. كما صدر فيلم «مشقلب» عن 4 حكايات لبنانية في مرآة الكوميديا السوداء، أخرجها كل من لوسيان بورجيلي، وبان فقيه، ووسام شرف، وأريج محمود. وكذلك فيلم «صوت آب» لمارسيل غصن، يستحضر ألم مدينة تقطّعت أوصالها، وفيلم «نجوم الأمل والألم» لسيريل عريس، الذي شارك في «مهرجان البندقية»، وفيلم «إلى عالم مجهول» للمخرج مهدي فليفل.

هبة طوجي في حفلها ضمن مهرجانات بعلبك الدولية

وخلال هذه السنة، تم إحياء الذكرى الـ135 لميلاد ميخائيل النعيمة، التي تعذر الاحتفاء بها العام الماضي، وأقيم مؤتمر تميز بدراسات وشهادات في ناسك الشخروب. كما اجتمع محبّو الروائي إلياس خوري وعائلته في المكتبة الوطنية لإحياء الذكرى الأولى لرحيله، بمشاركة وزير الثقافة غسان سلامة، الذي قلده وساماً بهذه المناسبة. كما تم تكريم الممثل القدير الراحل أنطوان كرباج في «مسرح المدينة». ومن ضمن التكريمات للراحلين، العودة إلى إرث منصور الرحباني بمناسبة مئويته، حيث أحيت نشاطات عدة، لعل أبرزها الحفل الموسيقي الخلاب، الذي قدمته هبة طوجي بمعية الموسيقي أسامة الرحباني على أدراج قلعة بعلبك ضمن «مهرجانات بعلبك الدولية» خلال الصيف.

وقد رحل عنا هذا العام الشاعر والمترجم والصحافي إسكندر حبش بعد معركة مع السرطان، وكذلك الإعلامي العاشق للغة العربية، الذي عرفه بعنايته الاستثنائية بلغة الضاد، بسّام برّاك. كما رحلت مها بيرقدار الخال زوجة الشاعر الراحل يوسف الخال، وبقيت لوحاتها وجرأتها. أما الفقيد الذي اهتزّ لوداعه لبنان فكان زياد الرحباني، بما له من مكانة في نفوس الناس.

كانت المفاجأة في «اليوم الوطني للتراث» الذي سمح طوال 3 أيام من 14 مايو (أيار) إلى 16 منه، بإعفاء الزوار من رسم دخول المتاحف والمواقع الأثرية التابعة لوزارة الثقافة، وخصصت لهم وسائل نقل، فكان المقبلون بالآلاف، ما وضع الوزارة أمام مأزق غير متوقع، ومفاجأة سعيدة غير محسوبة.

واحتفلت مؤسسة «المورد الثقافي» بعيدها العشرين في سينما «متروبوليس» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، التي هي أشبه بـ«وزارة ثقافة عربية». هكذا وصفتها إحدى المشاركات في الملتقى الذي جمع شبكة واسعة من المبدعين في المنطقة العربية، وهم في غالبيتهم من الذين تعاونوا مع «المورد»، ومنهم من أصبحوا نجوماً بفضل تمويلاتها، ومشاريعها المختلفة.

وبعض ما جاء في المداخلات عن التمويلات الأجنبية للثقافة في لبنان والمنطقة، ربما يجيب على جانب من أسئلتنا، حول سرّ انتعاش الأنشطة الثقافية، رغم الأزمة الاقتصادية.