محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

دور نشر كبرى رفضت روايته الفائزة بجائزة «البوكر»

محمد سمير ندا
محمد سمير ندا
TT

محمد سمير ندا: أفضّل أن أعيش كالخفاش بعيداً عن الأضواء

محمد سمير ندا
محمد سمير ندا

رافق فوز الكاتب المصري محمد سمير ندا بـ«الجائزة العالمية للرواية العربية»، المعروفة إعلامياً باسم «البوكر»، عن روايته «صلاة القلق» كثير من الجدل واللغط على نحو لم يتوقف حتى الآن، إثر الكشف عن أن دور نشر كبرى رفضت قبول العمل، الذي صدر لاحقاً عن دار «مسكلياني» التونسية.

امتد الجدل ليشمل مضمون الرواية باعتبارها تحمل «سردية هجائية» لعصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. واحتفى البعض بالعمل باعتباره أول نصّ مصري يفوز بالجائزة الشهيرة منذ عام 2009 حين فاز بها يوسف زيدان عن روايته «عزازيل»، ورأى البعض الآخر أن العمل الفائز يشوبه بعض نقاط الضعف أسلوبياً وجمالياً.

في هذا الحوار مع «الشرق الأوسط»، يؤكد ندا احترامه لكل الآراء وتقديره لمختلف الانطباعات، لكنه لا يخفي استغرابه وأسفه ممن هاجموا العمل بشراسة دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءته مكتفين بالأقاويل المرسلة.

> ربط البعض بين تأثرك ودموعك لحظة الإعلان عن فوزك بالجائزة، وبين رفض العديد من دور النشر المصرية المرموقة نشر العمل، برأيك لماذا تم رفض الرواية مصرياً؟ ولماذا تحمس لها الناشر التونسي؟ وهل كان هذا سبب تأثرك؟

- كان تأثري اشتياقاً لأبي الراحل، فقد كان هو أكثر من تمنيت وجوده في هذه اللحظة، والعبارة التي غرقتْ آنذاك في دموعي ولم تُسمع جيّداً كانت «هذه الجائزة لسمير ندا».

أما ما يخص اللغط حول دور النشر فلا بد من توضيحه، رُفضت الرواية من دور مصرية وعربية، والرفض هنا بلغني بالاعتذار الصريح عن النشر، وهو أمر أحترمه وأقدره، إذ لست مختلّاً حتى ألوم دور النشر إذا ما قررت عدم نشر روايتي.

ما أزعجني وآلمني كان تجاهل بعض دور النشر وعدم اهتمامها بالرد علىّ ، وقد واجهت هذا الأمر من دور مصرية وعربية كذلك، ولكنه أبداً لم يكن سبباً في تأثري، فلا يمكن أن أبكي لو رفضت بعض دور النشر نصي، حيث سبق أن واجهت الحالة ذاتها في روايتي السابقة «بوح الجدران».

أما ما يخص إيمان «مسكلياني» بالنص فهذا أمر يُسأل عنه الناشر بالأساس، ولكن، منطقيّاً، كنت محظوظاً إذ آمن الناشر بالنص وبكاتبه، حتى بات بيننا اليوم عقد مفتوح الأمد لكل ما سأكتبه لاحقاً، لو كان في العمر بقيّة.

> «صلاة القلق» هي النص الثالث في مسيرتك الإبداعية... هل تتعمد أن تكون قليل الإنتاج، ألا يمكن الجمع بين الغزارة والجودة في الإبداع معاً؟

- الفكرة أنني أمارس الكتابة كلعبة أستمتع بها، والبعض يتعجّب عندما أقول إنني لست ممن يتعجّلون النشر، يبدو الأمر كادعاء للزهد والمثالية، وهو ما لا أستطيع أن أثبته إلا من خلال النصوص المنتهية لديّ، والتي لم تُنشر بعد.

بالفعل أنا قليل الإنتاج، نظراً لما شرحته الآن، وكذلك لأنني أؤمن أن المنجز الأدبي للكاتب لا يُقاس «بالمتر»، أي عدد النصوص، إنما بجودة هذه النصوص وعمرها. على سبيل المثال، أنا أرى أن أستاذنا محمد المنسي قنديل من أهم وأعظم الكتاب العرب المعاصرين، ولكن من حيث الإنتاج ربما يكون عدد أعماله أقل من بعض الكتاب الشباب. الجمع بين الجودة والغزارة يستلزم تفرّغاً للكتابة، وبالنسبة لي هذا أمر شبه مستحيل.

> يأخذ البعض على لغة الرواية أنها جاءت محملة بـ«بلاغة قديمة» أعاقت حيوية الحدث والشخصيات عبر تعبيرات من نوعية «أطلقت سراح الجواد الهرِم في صدري» و«محرر ألسنة الصامتين»... كيف تعلق على تلك الملاحظة؟

- أحترم كل الآراء، وأرى أن لغة الرواية بمثابة العمود الفقري لكل نص، ولكل كاتب هويّته اللغوية وأسلوبه وذائقته المختلفة عن الآخر. وفي النهاية، تتنوع ذائقة المتلقي كما تتنوع ذائقة الكاتب، ولكل متلقٍّ كل الاحترام. الأمثلة التي ذكرتها تحديداً لا أرى بها أي بلاغة قديمة، عبارات واضحة ومفهومة، هذا بالنسبة لي ووفق وجهة نظري، ولكن قد يرى بها آخرون لغة قديمة وميتة، في كل الحالات أحترم وجهات النظر، ومن حسن الحظ أن أغلبية القراء لم تستوقفهم اللغة، وأن لجنة التحكيم عدّت اللغة في «صلاة القلق» من عناصر قوة النص.

> تعدّ أجواء نكسة 1967 المحرك الأساسي للعمل، على غرار روايات سابقة اشتغلت على نفس الموضوع، مثل: «بيوت وراء الأشجار» لمحمد البساطي، و«الصيف السابع والستون» لإبراهيم عبد المجيد، و«67» لصنع الله إبراهيم، و«الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي، ما ملامح الاختلاف التي يحملها نصّك من وجهة نظرك؟

- أنتِ ذكرتِ أمثلة لأعمال كُتّابٍ عظماء، لا يمكن أن أضع نفسي في مقارنة معهم، ولكن أعتقد أن أي كاتب، أيّاً كان عمره أو مهما كان منجزه الأدبي، يكتب بخطٍّ مختلف عمّن سبقه وعمن سيأتي بعده. بالتالي، قد نقرأ 100 رواية عن ذات الحرب، ولكن سيظل لكل منها ما يميّزه، ثم يأتي الزمن ليحكم على هذه الروايات، فيمنح بعضها الخلود، ويضع بعضها فوق أرفف النسيان. عن نفسي أتمنى أن تعيش «صلاة القلق» طويلاً، كما عاشت أعمال الأساتذة الكبار الذي أشرتِ لهم.

> تلعب الرواية على فكرة عزل الشخصيات في المكان من خلال «نجع المناسي» المنفصل عن العالم، الذي يعيش فيه سكان يتعرضون لأشكال مختلفة من القهر في أجواء فانتازية... ألا تعتقد أن تلك «الثيمة» تكررت أصداؤها عربياً وعالمياً في روايات وأفلام سينمائية مختلفة؟

- صحيح، ولكن الأفكار لا تموت، ولا تُستهلك كما يُشاع أحياناً، طالما ظل التناول مختلفاً، والتقنيات في تباين وتطور مضطردين. على سبيل المثال، لن يتوقف الأدب العربي عن الكتابة عن الحب المستحيل أو عن القضايا النسوية أو عن سلطة الدين، رغم أن هناك مئات الروايات التي تناولت هذه الثيمات، فالمهم هنا هو أن يكون الطرح مختلفاً، والخط مغاير.

> كثيرون يرون أن الرواية تعدّ «هجائية سردية» تنال من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر... ألم تتخوف من إثارة حفيظة «الناصريين» في العالم العربي ضدك؟

- هل قرأ المعترضون، الذين أحترم المهذبين منهم، رواية «الكرنك» على سبيل المثال لصعوبة الحصر؟ هل شاهدوا الفيلم المأخوذ عن الرواية؟ هل شاهدوا فيلم «البريء» أو فيلم «إحنا بتوع الأتوبيس»؟ المؤسف هنا أن هناك من ينتقد قبل أن يقرأ، ويرتكز في هجومه على نظرية «قالوا له» التي أطلقها بسخرية الفنان عادل إمام.

الرواية تتناول الهمّ العربي، والقلق الذي فرض علينا منذ 1948، وتتخذ من الفترة بين عامي 67 و77 فضاءً زمنياً للحكاية، ومن قرأ الرواية سيعرف أن الديكتاتور الحقيقي الوحيد في الرواية كان شخصية «خليل الخوجة» الذي لا يمت للنظام الحاكم بأي صفة، وكل ما نسب إلى الرئيس جمال عبد الناصر في النصّ كان وهماً فرضه «الخوجة» على الناس بسطوة الإيهام.

ولكن مرة أخرى، مهاجمة ناقد لنصّ قبل أن يقرأه هي سقطة كبيرة في حق النقد الأدبي في مصر، إذ لا يستقيم أن يُصاب ناقد أو نفر من النقاد بهذه الحالة من التعجّل وسرعة إطلاق الاتهامات قبل قراءة أي نص.

> هل أنت مستريح لهذه الضجة التي أحدثتها الرواية ما بين «مع أو ضد»؟

- بسبب ما ذكرتُه للتو، لم أخشَ أي ردّة فعل من أي تيار ينتمي لآيدولوجيّة بعينها، لأنني لم أتوقع هذا القدر من سوء الظن والفهم. وبصراحة؛ لو توقعته لما غيّرت حرفاً في ما كتبت، لأن هذا ما أراه وما أردت قوله.

الجدل بين «مع أو ضد» لا يريحني، فأنا شخص يحبّ أن يعيش كخفاش عندما يتعلق الأمر بالكتابة، لا أحب الضوء وإن كان قد فُرض عليّ الآن لفترة، أؤكد أنها مؤقتة، يقول أصدقاء إن كل جدل هو في صالح الرواية وانتشارها في نهاية المطاف، وأنا أقول إنني لا أحب هذا الجدل ولا أستحسنه على الإطلاق، وأودّ لو تنتهي آثار الفوز بالجائزة في أقرب فرصة.

> لكن الجدل حول الرواية وضعك فجأة في بؤرة الحدث وجعلك، وفق التعبير الشهير، «رجل الساعة» في الأوساط الثقافية؟

- عندما أتابع هذا الجدل لا أشعر بالارتياح، أحرص أن تكون متابعتي من مسافة أمان، كأنه لا يخصني، الجدل يدور في الوسط الثقافي المصري وأنا خارج الوسط لأسباب شخصية تتعلق بمشاغل الحياة وظروف العمل، علاوة على سماتي الشخصية التي تنهض على القلق والخجل والرغبة في الانعزال والابتعاد عن بؤر الصراع. الآن أرى اسمي في بؤرة صراع مُختلق، فأتابع، أحزن أحياناً حين يسبّ أحدهم أبي مثلاً، بسبب تأويلات للنصّ سمع بها فلم يكلف نفسه عناء القراءة، وأضحك أحياناً حين تصادفني أمور تجافي أسس المنطق واللياقة في ذات الوقت.

> أنت إذن لم تتابع كل ما كُتب أو أثير؟

- اللطيف أنني لا أتابع الجدل بصفة يوميّة، ولا أسعى وراء الإساءات، لكنها تردني من أصدقاء يرسلونها لي كل يوم، فأحرص على الاحتفاظ بها، كي لا أنسى كيف يُقرأ ويُفسر أو «يؤدلج الأدب» في مصر من جانب البعض، كما أنني حريص على الاحتفاظ بحقّ الردّ وقتما أقرر ذلك.

وحتى لا أضخّم الأمر أو أمنحه أكثر مما يستحق، المسيؤون لا يتجاوزون نسبة 1 في المائة ممن قرأوا النص، بينما الغالبية سعيدة بالنصّ، وبفوز رواية لكاتب مصري بأكبر جائزة عربية.

> سبق أن وصفت روايتك «بوح الجدران» بأنها نوع من «قتل الأب» بالنسبة إليك، بمعنى التحرر من تأثير والدك عليك كمثقف معروف تريد الخروج من جلبابه. كيف ذلك؟ وهل تنوى قتل «آباء آخرين» من رواد الأدب العربي، من الأجيال السابقة؟

- ما أقصده أن تلك العبارة التي تذكرينها هنا قيلت في سياق مجازي محدد، وليس بالمعنى الواقعي طبعاً، كما أنها لا تمتد إلى تجاربي في الرواية كلها، وإنما تقتصر على عمل محدد بعينه. وللأسف، فإن البعض ظنّ أنها قيلت بمناسبة صدور رواية «صلاة القلق»، وهذا ليس صحيحاً، كما أن البعض الآخر عدّها مقياساً يحدد علاقتي بالأجيال السابقة، بما فيهم من أساتذة ورواد، وهذا أيضاً ليس صحيحاً.

لقد قصدت في حينها أنني تخلّصت من طيف أبي - رحمه الله - عندما كتبت حكايته، إثر ذلك شعرت بأنني أخفّ وزناً، وأكثر حريّة في التعبير عن نفسي. المقصد إذن هو التحرر من طيف والدي الذي يسكنني، وليس الخروج من عباءته، لأن انتمائي له سيظل وساماً ما حييت. المؤكد هنا هو أنني لا أسعى إلى قتل أيّ أدباء، ولا أفكر في قتل أيّ من رواد الفكر العربي.

> أخيراً، تنقلت منذ مولدك بين مدن مختلفة وأسفار عديدة... إلى أي حدّ انعكس ذلك على تجربتك إنسانياً وإبداعياً؟

- الكتابة ابنة التجربة، ومن الحتمي أن تكون تلك المحطّات قد تركت في نفسي أثراً ما، ربما لا يمكنني أن أحيط بهذا الأثر مستنداً إلى عقلي الواعي، فالأثر الحقيقي مطويّ في حقائب الذاكرة المصفوفة في العقل الباطن، لذلك فأنا أقدر على تلخيصه واستيعابه عندما أقرأ ما كتبت.

على سبيل المثال، القلق جزء من تكويني الخاص، وهو أحد مضارّ الغربة المستمرة، حالة عدم استقرار ولا يقين مستمرة، ويبدو أنني حتى بعد عودتنا واستقرارنا في مصر، لم أتخلّص تماماً من الغربة.

من ناحية أخرى، أدعي أن تنقلي بين أكثر من بلد عربي ساهم في اهتمامي بالأدب العربي في العموم، هكذا نشأت متحرّراً من حالة الانغلاق على الأدب المصري، تلك الحالة التي سيطرت على كثيرين، فأثّرت على منجزهم الأدبي بطريقة ما، وبدرجات متفاوتة. وعن نفسي؛ أعتقد أن هذا الانفتاح على الآخر قد ساهم في تكوين هويّتي كشخص يهوى الكتابة، كما أثرى المعجم اللغوي الخاص بي، نتيجة القراءات لمختلف الأدباء العرب المنتمين إلى مراحل زمنية مختلفة.


مقالات ذات صلة

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

عالم الاعمال جانب من أحد المعارض السابقة (الشرق الأوسط)

الطائف تحتضن النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء 2026

تطلق هيئة الأدب والنشر والترجمة النسخة الثالثة من مهرجان الكُتّاب والقُرّاء في الطائف خلال الفترة من 9 إلى 15 يناير (كانون الثاني) المقبل، تحت شعار «حضورك مكسب»

«الشرق الأوسط» (الرياض)
كتب تيري ايغلتون

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة،

علي حسن الفواز
كتب كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته،

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها

د. رشيد العناني
ثقافة وفنون أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

مجامر أثرية من البحرين

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية،

محمود الزيباوي

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.