الصين تعيد رسم ملامح المستقبل التقني والتواصلي والإعلامي

عبر تقنية 6G والذكاء المتجسد وشركات «الغزال» و«اليونيكورن»

بايت دانس... الشركة الأم لـ"تيك توك" (أ ف ب / غيتي)
بايت دانس... الشركة الأم لـ"تيك توك" (أ ف ب / غيتي)
TT
20

الصين تعيد رسم ملامح المستقبل التقني والتواصلي والإعلامي

بايت دانس... الشركة الأم لـ"تيك توك" (أ ف ب / غيتي)
بايت دانس... الشركة الأم لـ"تيك توك" (أ ف ب / غيتي)

في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالتحولات الجيوسياسية والاقتصادية، تمضي الصين بخطوات ثابتة نحو إعادة تشكيل المستقبل التكنولوجي والتواصلي والمعلوماتي والاقتصادي.

خلال الدورتين السنويتين لمجلس الشعب الوطني والمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني المنعقدتين أخيراً في بكين، تم الكشف عن عدة مفاهيم جديدة تعكس الطموحات الصينية في ريادة التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي. من بين هذه المفاهيم، برزت تقنية الجيل السادس (6G)، والذكاء المتجسد، وشركات «الغزال» و«اليونيكورن»، التي تُظهر جميعها كيف تتأهب الصين للهيمنة على مستقبل الابتكار التكنولوجي والاقتصاد الرقمي.

قفزة نحو الإدراك الذكي

في حين أن تقنية الجيل الخامس (5G) لا تزال قيد التوسع عالميًا، بدأت الصين بالفعل في العمل على تطوير الجيل السادس (6G). ويُتوقع أن تكون سرعة 6G أعلى بعشر مرات من 5G، ما يعني إمكانية نقل البيانات بشكل أسرع مع زمن استجابة أقل، وهو ما سيتيح تحقيق مستويات جديدة من التواصل بين الأجهزة والذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء.

بيد أن الأهم من السرعة، هو مفهوم «الإدراك الذكي» الذي سيجلبه 6G. ففي حين أن شبكات الاتصال الحالية تعتمد على نقل البيانات فقط، فإن تقنية الـ6G ستُدخل تقنيات الإدراك والذكاء التكيّفي، ما يسمح للأجهزة ليس فقط بالتواصل، بل أيضاً بفهم البيئة المحيطة وتحليلها والتفاعل معها بذكاء غير مسبوق.

الصين بدأت بالفعل اختباراتها على 6G، حين أطلقت أول قمر اصطناعي بتقنية 6G في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، وهي تعمل راهناً على تطوير معايير هذه التقنية بحلول 2025، مع توقعات بتسويقها عالمياً بحلول عام 2030. وهذا يعني أن الصين لا تكتفي فقط بقيادة تطوير 6G، بل تسعى أيضاً إلى وضع المعايير العالمية لهذه التقنية، ما يمنحها نفوذاً تكنولوجياً واقتصادياً واسع النطاق.

شعار ديدي تشوزينغ على مبنى الشركة في بكين (رويترز)
شعار ديدي تشوزينغ على مبنى الشركة في بكين (رويترز)

الذكاء المتجسد: اكتساب الآلات وعياً بشرياً

من جهة ثانية، إذا كان الذكاء الاصطناعي قد بدأ في تغيير أسلوب حياتنا وأعمالنا... بل وحتى إعلامنا، فإن الصين تعمل على دفعه إلى المستوى التالي من خلال ما يُعرف بـ«الذكاء المتجسد».

الفكرة الأساسية وراء هذا المفهوم هي دمج الذكاء الاصطناعي في الكيانات المادية، مثل الروبوتات، بحيث لا تقتصر على تنفيذ الأوامر بل تتمتع بقدرة على الإدراك الحسي والتفاعل العاطفي والتكيف مع البيئات المختلفة... مثل البشر تماماً.

هذا التطوّر ستكون له تطبيقات ضخمة في مجالات مثل الطب، الصناعة، والخدمات اللوجيستية. تخيل أن تمتلك الروبوتات القدرة على «الشعور» كما البشر، مما يسمح لها بالتعامل مع المهام الدقيقة مثل الجراحة ورعاية المسنين، أو حتى التواصل والتفاعل الاجتماعي في خدمة العملاء.

الصين تُركز بشكل كبير على تطوير هذا المجال، وتستثمر مبالغ ضخمة في أبحاث الروبوتات الذكية والأنظمة المستقلة، مما يعكس إدراكها لأهمية هذا المجال في رسم ملامح الاقتصاد المستقبلي.

الطفرة السريعة في ريادة الأعمال التقنية

إلى جانب تطوير التقنيات المتقدّمة، تعمل الصين على بناء بيئة حاضنة للشركات الناشئة العالية النمو. واحد من المفاهيم الجديدة التي جرى طرحها أخيراً هي «شركات الغزال»، وهذه هي الشركات التقنية التي تظهر فجأة في السوق، وتحقّق نمواً هائلًا خلال فترة قصيرة جداً، متجاوزة في بعض الأحيان الشركات التقليدية العملاقة.

هذه الشركات تختلف عن شركات «اليونيكورن» من حيث سرعة النمو، فهي تركّز على الابتكار السريع والدخول القويّ إلى السوق وتحقيق أرباح هائلة في وقت قياسي. ومن الأمثلة على ذلك، شركات التكنولوجيا المالية والذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، التي تشهد طفرة هائلة في الصين، خصوصاً، في مجالات مثل التجارة الإلكترونية والخدمات المالية الرقمية.

الحكومة الصينية تدعم هذا التوجّه من خلال تقديم حوافز مالية، وتسهيلات قانونية، وبنية تحتية متطورة، ما يجعل الصين بيئة مثالية لهذه الشركات التي ستغيّر معالم السوق في السنوات المقبلة.

«اليونيكورن»: حاضنات الابتكار والتقنيات الفريدة

بالإضافة إلى شركات «الغزال»، تواصل الصين العمل على تعزيز نمو شركات «اليونيكورن»، وهي الشركات الناشئة التي تتجاوز قيمتها السوقية مليار دولار قبل أن تُدرج في البورصة. وتتميّز هذه الشركات عادةً بامتلاك تقنيات مبتكرة ومزايا تنافسية قوية، ما يجعلها لاعبًا رئيساً في الاقتصاد الرقمي. في عام 2023، كانت الصين ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد شركات «اليونيكورن»، بعد الولايات المتحدة. ويُتوقع أن تستمر هذه الشركات في النمو بفضل دعم الحكومة الصينية والطلب المتزايد على التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية والتكنولوجيا المالية.

أبرز شركات «اليونيكورن» في الصين

- بايت دانس ByteDance (الشركة الأم لـTikTok).

- ديدي تشوزينغ Didi Chuxing (أكبر منصّة للنقل الذكي في الصين).

- زياومي Xiaomi (إحدى أكبر شركات الهواتف الذكية في العالم).

هذه الشركات لا تقتصر على السوق المحلية، بل أصبحت تنافس على المستوى العالمي، ممّا يعزّز النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي للصين.

الصين وتشكيل المستقبل

وهكذا، من خلال التركيز على 6G، الذكاء المتجسد، وتعزيز نمو الشركات الناشئة مثل «الغزال» و«اليونيكورن»، تُثبت الصين أنها ليست فقط جزءاً من السباق التكنولوجي، بل إنها تسعى لتحديد قواعد اللعبة المستقبلية. وفي حين أن الدول الأخرى ما زالت تناقش تأثيرات الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس، فإن الصين تضع معايير الجيل التالي من الابتكار، الأمر الذي يضعها في موقع الريادة المستقبلية. بالنظر إلى هذه التطورات، من الواضح أن العالم مقبل على تغييرات جذرية ستقودها الصين في السنوات المقبلة، وهو ما يستدعي من باقي الدول متابعة هذه التحوّلات، والتكيف معها، والاستثمار في الابتكار لضمان البقاء في السباق.

ومن ثمّ، فإن السؤال المطروح الآن هو: هل سيدرك العالم حجم هذا التحوّل قبل فوات الأوان؟

*رئيس «معهد طريق الحرير للدراسات والأبحاث»

رئيس «الرابطة العربية ـ الصينية

للحوار والتواصل» بيروت: وارف قميحة*


مقالات ذات صلة

كفاءة «ملاحظات المجتمع» على منصات التواصل تُثير تساؤلات بشأن مواجهة «التضليل»

إعلام شعار "ميتا" (أ ف ب)

كفاءة «ملاحظات المجتمع» على منصات التواصل تُثير تساؤلات بشأن مواجهة «التضليل»

أثار إعلان شركة «ميتا»، مالكة منصات «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب»، عن بدء اختبار «ملاحظات المجتمع» في الولايات المتحدة، تساؤلات بشأن كفاءة هذه الخدمة في الحد…

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي يتحدث لبرنامج «الليوان» (روتانا خليجية)

وزير الإعلام السعودي: لدينا حرية منضبطة وإعلامنا الأقوى عربياً

عدَّ سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي، إعلام بلاده الأقوى والأكثر تأثيراً وانتشاراً عربياً، ومشاريع «رؤية 2030» أهم أذرعه لمخاطبة العالم.

جبير الأنصاري (الرياض)
إعلام فلسطينيون يتجمعون في موقع غارة إسرائيلية على منزل (رويترز)

كيف أظهرت حرب غزة مصطلحات «ملتبسة»؟

على امتداد أكثر من 16 شهراً منذ بدء حرب غزة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، برزت مصطلحات عدة على السطح مثل «الجحيم» و«التطهير» و«خط أحمر» استخدمها سياسيون،

فتحية الدخاخني (القاهرة)
إعلام روبوت يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي (أ. ف. ب.)

استخدام «ميتا» كُتباً لتدريب الذكاء الاصطناعي يُثير جدلاً بشأن الملكية الفكرية

أثار استخدام شركة «ميتا» كُتباً لتدريب تطبيقات الذكاء الاصطناعي جدلاً بشأن حقوق الملكية الفكرية،

فتحية الدخاخني (القاهرة)
أوروبا الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير (د.ب.أ)

الرئيس الألماني ينتقد «فقدان التأمل» على وسائل التواصل

أعرب الرئيس الألماني فرانك - فالتر شتاينماير عن قلقه بشأن عواقب تغير وسائل الإعلام.

«الشرق الأوسط» (برلين)

كفاءة «ملاحظات المجتمع» على منصات التواصل تُثير تساؤلات بشأن مواجهة «التضليل»

شعار "ميتا" (أ ف ب)
شعار "ميتا" (أ ف ب)
TT
20

كفاءة «ملاحظات المجتمع» على منصات التواصل تُثير تساؤلات بشأن مواجهة «التضليل»

شعار "ميتا" (أ ف ب)
شعار "ميتا" (أ ف ب)

أثار إعلان شركة «ميتا»، مالكة منصات «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب»، عن بدء اختبار «ملاحظات المجتمع» في الولايات المتحدة، تساؤلات بشأن كفاءة هذه الخدمة في الحد من «المعلومات المضللة»، لا سيما مع إشارة دراسة حديثة إلى أنها «لم تحقق المطلوب»، بعد سنوات من تفعيلها على منصة «إكس». وجاء هذا التطور عقب إلغاء الشركة برنامجها لتقصي الحقائق.

تتيح تقنية «ملاحظات المجتمع» التي طوّرتها منصة «إكس» - التي يملكها إيلون ماسك - للمستخدمين، إمكانية كتابة وتقييم دقة المحتوى المنشور، وكتابة ملاحظاتهم عليه، في إطار مكافحة انتشار «المعلومات المضلّلة» وجعل المُستخدم شريكاً في التقصّي والتحقق.

ووفق «ميتا»، فإن «نحو 200 ألف مستخدم أميركي سجّلوا ليصبحوا مساهمين محتملين في كتابة ملاحظات المجتمع». وتابعت أنه «يشترط في المساهمين أن يكونوا فوق سن 18 سنة، وأن يدعموا ملاحظاتهم بروابط معلوماتية». وعدّت هذه الطريقة «أقل تحيّزاً من برامج تقصي الحقائق الأخرى التابعة لجهات خارجية».

من جهة ثانية، تزامناً مع إطلاق «ميتا» خدمة «ملاحظات المجتمع» في الولايات المتحدة، بديلاً لمدقّقي الحقائق التابعين لجهات خارجية، ذكرت دراسة جديدة أجرتها «بلومبرغ» على أكثر من مليون «ملاحظة مجتمعية»، عبر منصة «إكس»، أن «غالبية تلك الملاحظات، رغم دقّتها، لا تعرض للمستخدمين على المنصة، وذلك لأن نشرها يتطلب توافقاً في الآراء من أشخاص ذوي توجّهات مختلفة». وأضافت الدراسة أن «نظام (إكس) لـ(ملاحظات المجتمع) الذي اعتمدته (ميتا) لم ينجح في الحد من المعلومات المضللة».

الدكتورة مي عبد الغني، أستاذة الإعلام بجامعة بنغازي والباحثة في الإعلام الرقمي، أوضحت لـ«الشرق الأوسط»، أن «ملاحظات المجتمع ميزة ليست جديدة، إذ ظهرت للمرة الأولى على منصة (إكس) عام 2021، عندما كانت المنصة تحمل اسم (تويتر)، وحققت انتشاراً أوسع في عام 2023».

وأشارت إلى أن «عمل هذه الخوارزمية يعتمد على مشاركة المستخدمين من خلال تعليقاتهم وتوضيحاتهم المدعومة بالظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يتعايشون معها، وهو ما يعرف بـ(السياق) حول المنشور، الذي يرون فيه اختلافاً، أو يحتوي على معلومات غير دقيقة أو زائفة».

وقالت إن إقدام شركة «ميتا» على تطبيق هذه الميزة، «يأتي في إطار الحد من الانتقادات الموجهة إليها في أعقاب الإجراءات الأخيرة، وسياسات تخفيف التحقق من المحتوى التي بدأتها (ميتا) في عام 2017، عندما أزالت التحذير الأحمر الذي كان يرافق الأخبار الزائفة، وصولاً إلى حزمة من الإجراءات المعلنة التي أقرّت في مطلع 2025، الهادفة إلى ألا تكون لمحاربة المعلومات الزائفة أولوية في السياسات التنفيذية الخاصة بالمنشورات على المنصات التابعة للشركة».

وبحسب الباحثة، فإنه «من المُبكر التنبؤ بمدى نجاح إطلاق وتفعيل ميزة ملاحظات المجتمع على منصات (ميتا) في محاربة المعلومات الزائفة أو الحد منها... ثم إنه يوجد خطر من استغلال المجموعات المنظمة لهذه الميزة للتأثير في المحتوى».

ومن ثم، رهنت نجاح «ملاحظات المجتمع» في الحد من «المعلومات المضللة»، بـ«وجود مجتمعات تتمتع بمستوى عالٍ من الثقافة والتربية الإعلامية، إضافة إلى وجود قدر من الشفافية والثقة بين كل من المستخدم والقائمين على سياسات الإشراف على المحتوى».

وبالتوازي، خلال يناير (كانون الثاني) الماضي، أعلنت «ميتا» إلغاء شراكاتها في برنامج تدقيق الحقائق، ما عُدّ «تحولاً جذرياً» في سياستها لإدارة المحتوى. وقال مارك زوكربيرغ إن «عملاء تدقيق الحقائق الخارجيين كانوا متحيّزين سياسياً للغاية، ودمّروا الثقة أكثر مما كسبوها، لا سيما في الولايات المتحدة». وأردف: «لقد وصلنا إلى مرحلة فيها كثير من الأخطاء وكثير من الرقابة... وحان الوقت للعودة إلى جذورنا بشأن حرية التعبير».

خالد البرماوي، الصحافي المصري المتخصص في شؤون الإعلام الرقمي، أكد أن «ميزة ملاحظات المجتمع واحدة من الأدوات التي يمكن استخدامها لمواجهة المعلومات المضللة، إلا أن الاعتماد عليها حلّاً وحيداً فعّالاً أمر غير منطقي وغير واقعي».

وشرح البرماوي أن «هناك نوعاً من الجمهور تكون لديه الرغبة في المساهمة لتوضيح سياق معلومات، أو وضع ملاحظات بشأنها لتحسين مستوى الوعي والإدراك... لكن هذه الرغبة من جانب المستخدمين تتطلب مزيداً من العمل من جانب المنصّات في الترويج لميزة ملاحظات المجتمع، ومنح المستخدمين مزايا تحفّزهم على زيادة المشاركة بفاعلية أكبر».