شاشة الناقد: أسرار الأمس

إيفيغور وروبرتس في لقطة من {أسرار في أعينهم}
إيفيغور وروبرتس في لقطة من {أسرار في أعينهم}
TT

شاشة الناقد: أسرار الأمس

إيفيغور وروبرتس في لقطة من {أسرار في أعينهم}
إيفيغور وروبرتس في لقطة من {أسرار في أعينهم}

‫«أسرار في أعينهم»
- إخراج: بيلي راي
العنوان ليس غريبًا، فهو يعود إلى الفيلم الأرجنتيني الحائز على أوسكار أفضل فيلم أجنبي سنة 2010 الذي أخرجه جوان جوزيه كامبانيللا. الفيلم الجديد، من إنتاج أميركي - إسباني، يستعير العنوان والقصّـة ويخفق في توفير الأجواء الأصلية أو يتجاوزها.
الفيلم الأصلي تمحور حول كيف يمكن للماضي (وما حدث فيه) أن يبقى في ذات المرء عقودًا من بعد يؤنبه ويثيره ويمنعه من السعادة في بعض الأحيان. النسخة الجديدة من الفيلم تفشل في أمرين: رصد هذا الموضوع كاملاً والتعبير عنه جيدًا، من ناحية، وجعل الحكاية التي انتقلت أحداثها الآن إلى مكان وزمن آخرين، مثيرة للاهتمام كما كانت الحكاية ذاتها في الفيلم السابق.
نجد في الفيلم الجديد الممثل شيوتيل إيجيوفور (قاد بطولة «12 سنة من العبودية» ويظهر حاليًا أيضًا في فيلم ريدلي سكوت «المريخي») في دور مشرف أمني ينتقل من نيويورك إلى لوس أنجليس ليقابل المدعي العام كلير (نيكول كيدمان) وفي جعبته ما يفاجئها: لقد توصّـل بعد سنوات من التحقيق لمعرفة المكان الذي لجأ إليه قاتل (جو كول) هربًا من العدالة بعدما أقدم على جريمته. الفتاة التي قتلها ليست سوى ابنة المتحرية في بوليس لوس أنجليس (جوليا روبرتس).
على الشاشة، ما يتبع هذا التحريك لحادثة مرّ عليها أكثر من عشر سنوات، هو مزيج من ردود فعل الشخصيات الثلاث على سيل من الذكريات يستخدمها المخرج لمشاهد «فلاشباك» متعددة. كما الفيلم السابق، فإن مشاهد استرجاع الماضي هي سبيل لمواجهة المشاهد أمس الحكاية تمامًا كما يواجهها الممثلون، لكن في هذا الفيلم تأتي حلا اعتياديًا في الغالب. قليل الحيلة حيال تفسير ما حدث إذ ما عليها سوى تصويره من جديد قبل الانتقال مجددًا إلى عالم اليوم فيما يشبه كرة بينغ بونغ تنتقل من مقبض اللاعب إلى الجدار ثم ترتد إليه.
كذلك فإن من بين ما جعل الفيلم السابق عملاً رائعًا، حقيقة أننا لا نعرف شيئا عن ممثليه ما جعلنا نسبح في بحر من التوقعات ونتابع الأحداث من دون حسابات أخرى. كل شيء في ذلك الفيلم كان جديدًا وملهمًا. كل شيء في هذا الفيلم هو مطروق بدءًا بالطريقة التي تؤدي فيها كل من نيكول كيدمان وجوليا روبرتس (معًا لأول مرّة) دورهما وحفظ المشاهد، غيبًا، لما تستطيع كل منهن توفيره من أداء.
في بعض الأحيان يواجه المخرج راي (كاتب سيناريو سابقًا) مشاهديه ببعض ما يُـثيره من مضامين. الانتقال من العام 2002 حيث تمّـت الجريمة إلى العام 2015 حيث يسعى بطل الفيلم لإعادة فتح ملفها، ليس عبثيًا هنا. بعد عام واحد على الحادثة الإرهابية في نيويورك، كانت مدن أميركا الكبرى، وبينها لوس أنجليس، قلقة. مرتابة. قليلة الثقة. سريعة الانفعال. راي أراد نقل هذه الأجواء وتفعيلها حتى يضمن بعدًا ثريًا للفيلم. ما أخفق فيه هو البحث عن شكل مناسب أكثر للتماثل مع أفلام تشويقية - سياسية أخرى (لنقل «كلوت» أو «ذا بارالاكس فيو») التي تعاطت نظرية المؤامرة وقدر من البارانويا. الناتج في المقابل هو فيلم قليل التشويق منزوع الأسنان والدوافع.



بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
TT

بشير الديك كتب للسينما البديلة والسائدة معاً

أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»
أحمد زكي وآثار الحكيم في «طائر على الطريق»

بشير الديك، كاتب القصّة والسيناريو لعدد كبير من الأفلام المصرية طوال العقود الأربعين الماضية، الذي توفي في اليوم الأخير من العام الراحل، 2024، كان أحد السينمائيين الخارجين عن قوانين السينما التقليدية في النصف الأول من سنوات مهنته. لكن على الرغم من أنه في النصف الثاني وقّع على أعمال كثيرة من التي يمكن وصفها بالتقليدية، ومن بينها 6 أفلام من بطولة نادية الجندي، فإنه واظب على معالجة نصوصه باحتراف يجمع بين حكايات تحمل مضامين تنتمي إلى نزعة جادة وتنشد ميزانيات كبيرة.

لعل حقيقة أن نادية الجندي كانت تصبو دوماً إلى أدوار تخلّدها وأفلام تحافظ عبرها على مكانتها لعب بشير الديك دوراً في تلبية هذه الرغبات عبر حكايات تشويقية في المقام الأول، وشخصية رئيسية مضخّمة وذلك في أفضل نصوص ممكنة ضمن التوليفة التجارية.

بدأ هذا التعاون على نحوٍ ثلاثي: بشير الديك يكتب، ونادر جلال يُخرِج ونادية الجندي تلعب دور البطولة. هذه الأفلام هي «الإرهاب» (1989)، و«شبكة الموت» (1990)، و«عصر القوّة» (1991)، ومن ثَمّ «مهمّة في تل أبيب» (1992)، و«الشطّار» (1993)، ولاحقاً «امرأة هزّت عرش مصر» (1995).

كمال الشناوي ونادية الجندي في «مهمّة في تل أبيب»

‫اتجاهان‬

بعد بدايات متفاوتة الأهمية من بينها «مع سبق الإصرار» لأشرف فهمي (1979)، و«دعوني أنتقم» لتيسير عبّود (1979)، و«الأبالسة» لعلي عبد الخالق (1980) التحق الديك ببدايات المخرج الراحل محمد خان عبر 6 أفلام هي «الرغبة» (1980)، و«موعد على العشاء» (1981)، و«طائر على الطريق» (1981)، و«نص أرنب» (1983)، و«يوسف وزينب» (1984) و«الحرّيف» (1984) وكلها من أفضل ما حققه خان.

تعامُل الديك مع الموضوعات الجادة التي عرفتها تلك الأفلام سمح له بكتابة واحد من أفضل أعماله وهو «سواق الأتوبيس»، الذي حققه الراحل عاطف الطيب سنة 1982، وكلاهما لاحقاً تعاونا على تحقيق فيلم مهم (أكثر مما كان جيداً) آخر هو «ناجي العلي» (1992). لجانبهما فيلم ثالث هو «ضد الحكومة» (1992) من بطولة أحمد زكي ولبلبة.

في تقييم كتابات بشير الديك تتداخل بعض العناصر التي يمكن إيجاز هذا التقييم عبرها.

من ناحية، حاول دوماً التطرّق صوب قضايا مهمّة تطرح قصصاً ذات جانبٍ وطني مثل «مهمّة في تل أبيب»، الذي دار حول جاسوسة مصرية تعمل لصالح إسرائيل، ومن ثَمّ تندم فتطلب منها الاستخبارات المصرية (ممثلة بكمال الشناوي)، العمل لحساب مصر وتنجح. «ناجي العلي» ينضم إلى هذا النحو من الأعمال.

السيناريست المصري بشير الديك (وزارة الثقافة)

في ناحية أخرى، لم يتأخر عن كتابة ما كان سائداً في الثمانينات والتسعينات من اتجاه صوب الحديث عن مراكز قوى في الشارع المصري والصراع بين الأخيار والأشرار. هذه الموجة لم تعرف بداية ونهاية محدودتين فتاريخها عريق يعود لعقود سابقة، لكنها عرفت في تلك الفترة تدافعاً بين المخرجين للحديث عن تلك المراكز في حارات القاهرة (في مقابل الكثير من صراع الخير والشر على ساحلَي بور سعيد والإسكندرية في أفلام الخمسينات والستينات) في أجواء ليست بعيدة عن الخط الذي وضعه نجيب محفوظ وشخصياته.

مخرجون عديدون حقّقوا هذه الأفلام التي شُكّلت حكاياتها من صراع القوى في الشارع المصري مثل أشرف فهمي («الأقوياء»، 1982)، وأحمد السبعاوي («السلخانة» 1982 و«برج المدابغ» 1983) وكمال صلاح الدين («جدعان باب الشعرية» 1983). لكن من مزايا ما كتبه بشير الديك في هذه الأعمال التي لاقت رواجاً جماهيرياً إنه كتب ما هو أعمق في دلالاته من قصص المعلّم الشرير ضد سكان منطقته وأزلامه الذين يتصدّون للأبرياء إلى أن يخرج من رحم تلك الحارة من يواجههم جميعاً.

بداية من «نصف أرنب» توّجه الديك إلى حكاية تشويقية ذات طابع بوليسي، وفي «سوّاق الأتوبيس» وقف مع ابن المدينة في موضوع حول تفتت المجتمع مادياً. أما في «الحرّيف» فنقل اهتمامه إلى الوسط المهمّش من سكان القاهرة وأحلامهم ومتاعبهم الشخصية.

‫هموم المجتمع‬

ما يجمع بين هذه الأعمال هموم تسلّلت إلى عدد كبير من كتابات بشير الديك السينمائية.

في مقابلة تمّت بين المخرج عاطف الطيب وبيني بعد مشاهدة فيلمه النيّر «سواق الأوتوبيس»، سألت المخرج عن كيف بدأ التفكير في تحقيق «سوّاق الأتوبيس». أجاب: «بدأت الفكرة في جلسة صداقة مع بشير الديك ومحمد خان. وكنا نتحدث بشأن همومنا وطموحنا الخاص لصنع سينما أخرى مختلفة، وكانت الظروف الحياتية نفسها تجمعنا كلنا تقريباً. فقد كنت أشعر في ذلك الوقت بالذنب إزاء فيلمي الأول (يقصد «الغيرة القاتلة»، 1982)، الذي اضطُرِرت فيه إلى الاعتماد على سيناريو مأخوذ عن أصل أدبي (أجنبي) رغم إيماني الدائم بضرورة الكتابة المباشرة للسينما. اقترح محمد خان وبشير الديك فكرة وُضع لها عنوان: (حطمت قيودي)، تدور حول عائلة مهدّدة بالضياع نتيجة فقدان الأب للورشة التي أسسها وبحْثُ الابن، سائق الأتوبيس، عن مخرج من الأزمة بلا جدوى وأعجبتني الفكرة، خصوصاً أنني أميل كثيراً إلى الدراما التي تدور في نطاق عائلة. وبدأنا بالفعل في تطوير الفكرة خلال الكتابة وتبادل الآراء. وكنا كلما نتعمق في الموضوع تتضح لنا أهمية الفكرة التي نريد التعبير عنها. في الكتابة الثانية للسيناريو، وصل الفيلم إلى ما أصبح عليه».

كتب بشير الديك نحو 60 فيلماً ومسلسلاً تلفزيونياً، معظمها جمع هذه الصفات المجتمعية على نحو سائد أو مخفف. هذا ما جعله أحد أبرز كتاب السيناريو في مصر في حقبة كان للسينما البديلة والمستقلة عن السائد دور فاعل في نهضة الفيلم المصري عموماً.

مع الطيّب وخان ورضوان الكاشف ورؤوف توفيق وخيري بشارة ورأفت الميهي وسواهم، ساهم بشير الديك في منح تلك الفترة مكانتها الساطعة التي لا تغيب.