من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها

من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها
TT

من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها

من التاريخ: تأملات في ديمقراطية أثينا وغيرها

إذا كانت ديمقراطية أثينا هي القبلة التاريخية والفكرية للنظم الديمقراطية لأنها أول مكوّن ديمقراطي منذ فترة زمنية طويلة، فإن التاريخ على مدار أكثر من ألفيتين من الزمان طورها بشكل مختلف شهد مراحل نموها بوصفها نظاما راسخا للحكم في كثير من الدول. ومع ذلك، فقد وضع التاريخ الديمقراطية على المحك في كثير من المناسبات، بل إنها شهدت في مناسبات كثيرة حالة إجهاض سياسي ليستعاض عنها بنظم أسوأ من الديكتاتوريات المتداولة، وهو ما جعل تاريخ مسيرة الديمقراطية من الفكر إلى التطبيق حافلاً بكثير من التأملات التي قد يكون من المناسب طرحها للمناقشة أو التفكر حولها على أساس الخطأ والصواب؛ منها ما يلي:
أولاً: الثابت أن الديمقراطية بوصفها نظاما سياسيا ليست بأي حال من الأحوال نتاجًا لسمو الإنسانية وفكرها بقدر ما هي نتاج لظروف المتغيرات السياسية والاجتماعية في الدول عبر التاريخ. فأثينا ذاتها لم تطبق هذا النظام رغبة منها في السمو السياسي، بل نتيجة طبيعية لظهور حالة نفوذ طبقي لا أعتقد أنها متطابقة مع الجدلية المادية الماركسية بقدر ما تمثل طموحًا طبيعيًا للمشاركة في عملية الحكم وصناعة السياسة من قبل الطبقات الاجتماعية في هذه الدويلة. والثابت تاريخيًا أيضًا أن هذا ما حدث نفسه في التاريخ الغربي الحديث، فلم نسمع عن الديمقراطية أو حتى الحكم الليبرالي بشكل مؤثر إلا مع ظهور المتغيرات الاجتماعية وظهور طبقة رجال الأعمال والصناعة وبداية ضمور طبقة الأرستقراطية مع تغير النظم الاجتماعية/ الاقتصادية القائمة، وهو مما يجعل الديمقراطية في التاريخ مسيرة أكثر منها قرارًا.
ثانيًا: إن الديمقراطية بوصفها نظاما للحكم متعدّدة النماذج، وأكثر المجتمعات التي طبقت الديمقراطية المباشرة كانت دويلة أثينا، وهو ما استعرضناه جليًا في مقال الأسبوع الماضي، ولكن الحقيقة الأساسية الثابتة أيضًا في هذا المجال هي أن سلوك الديمقراطيات أمر محفوف بالمخاطر يؤثر عليها بطبيعة الحال، فسلوك النظم الديمقراطية ليس معناه صيانة الديمقراطية ذاتها أو مبادئها. إن الديمقراطية وحدها غير كافية لضمان استمراريتها، بدليل أن الدويلة الأثينية كانت على الطريق القويم إلى أن بدأت تنحرف في سياساتها التوسعية، مما أدى إلى نهاية الدويلة ووأد فكرة الديمقراطية ذاتها. وفي أغلب الأحوال، فهي دائمًا ما تستلزم صيانة فكرية وسلوكية لشعوبها وسياسييها على حد سواء، فتطرف الشعب وتشنج الساسة في المجتمعات الديمقراطية بداية للعودة إلى الوراء.
ثالثًا: هناك فكر سائد في المجتمعات الغربية بأن الإنسانية وصلت إلى غايتها بالمنظومة الديمقراطية التي لا خلاف على سموها مقارنة بأي نظام سياسي آخر في ظل ظروف أغلبية الدول. ولقد شاب ذلك وجود نوع من الحتمية الفكرية بأن معركة نظم الحكم حسمها التاريخ لصالح الديمقراطية التي يعدها البعض أفضل النظم الإنسانية في «الحرب المقدسة» على النظم التي تخالفها. ولكن خطورة هذا الفكر في حقيقة الأمر أنه يحمل بين طياته ولدى معتنقيه، بداية ما قد يبدو أنه «نقيض الأطروحة» للمضمون ذاته، وهو ما يدفع المجتمعات الديمقراطية إلى حالات محددة لاتباع سياسات متناقضة مع مفهوم الديمقراطية ذاته. فلو اتبعنا فرضية الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط بأن الدول الديمقراطية أكثر ميلاً للسلم في سياستها، أو الفرضية المغلوطة بأن الديمقراطيات لا تحارب بعضها بعضا، فإننا نجد أنفسنا أمام بداية الطريق إلى الخطر. وهذا ما حدث عندما تجملت دويلة أثينا سياسيًا واعتبرت نفسها سامية على غيرها من الدويلات المجاورة، فاتبعت سياسة خارجية عنيفة، فصارت دويلة معتدية، فانتهت بالقضاء على واقعها الديمقراطي. وهو ما حدث نفسه في مناسبات أخرى على رأسها الديمقراطية الألمانية عندما سقطت «جمهورية فايمار» لصالح الطغيان النازي، والأكثر استغرابًا هو أن سقوطها أتى من خلال الديمقراطية ذاتها التي أفرزت الحزب القومي الاشتراكي (النازي) بزعامة أدولف هتلر، إلى مقاليد الحكم.
رابعًا: يدخل المفكّرون في فرضية نوع من الصراع بين الخير والشر على أساس الديمقراطية مقابل النظم غير الديمقراطية، بما يعيد للذاكرة الفكر الأثيني السائد خلال تجربتها الديمقراطية عندما وضعت لنفسها معيار السمو على باقي الدويلات اليونانية ولجأت لسياسات توسعية. كذلك يعيد إلى الذاكرة أيضًا مفهوم الحروب الدينية على أساس السمو الديني، كما حدث في الحملات الصليبية، التي اتخذت لنفسها ساترًا لسياساتها التوسعية على أساس سمو المجتمع المسيحي على غيره. ويبدو أن مثل هذا الفكر ليس بعيدًا عن التطبيق الآن على خلفية فرضية أن الديمقراطيات لها مهمة مقدسة نحو المجتمعات غير الديمقراطية بما لا تأخذ معه في الاعتبار تطورات هذه المجتمعات وأنها إما غير قادرة على الديمقراطية أو أنها بحاجة للمتغيرات الاجتماعية والسياسية والفكرية لاعتناق النظام الديمقراطي السليم، والأهم أن يكون هذا النظام متناسبًا بل ومتسقًا مع تركيبتها السياسية والاجتماعية.
خامسًا: يبدو وجود خلط كبير بين فكرة السمو الديمقراطي للنظم السياسية والمنتج السياسي المستخرج منه. فصحة النظام ومناسبته ليستا بالضرورة ترجمةً لصحة السياسة ذاتها، ذلك أن كثيرا من النظم الديمقراطية لا تنتج عنها سياسات سليمة أو حتى حكيمة أو منطقية، خصوصا أن صحة النظام لا تعني بالضرورة صحة سياساته. والمثال الذي يرد إلى الذاكرة حاليًا – وسبقت لي إثارته في أحد المقالات السابقة - هو أن أول تجربة ليبرالية في الشرق الأوسط برمّته كانت مصرية، ولكنها وئدت على أيدي نظام بريطاني شبه ديمقراطي في عام 1882. إن سلامة هيكل النظام أو عقيدته تختلف عن سلامة سياساته، وهذه قاعدة لا بد أن تؤخذ في الحساب عند خلط السياسة والفكرة بالحاضر والماضي.
لقد طرح المفكر الأميركي فرنسيس فوكوياما في كتابه الشهير «نهاية التاريخ وآخر رجل» فرضية أساسية، هي أن العالم وصل إلى غايته الفكرية والحضارية المنشودة في التركيبة الغربية الحالية المبنية على أساس الديمقراطية والحقوق الأساسية والرأسمالية. ولا غضاضة في أن نعترف بأن الديمقراطية تظل في معظم الأحيان من أفضل النظم السياسية المتاحة للشعوب، غير أن المعضلة الفكرية الحقيقية تكمن في بعض الأطروحات السابقة حول «الحتمية التاريخية» التي أقرّها فوكوياما وأمثاله حول مسار المستقبل المرتبط بالتاريخ، وهو الخطأ الحتمي نفسه الذي وقع فيه مؤسس الفكر الشيوعي كارل ماركس قبله بقرن ونصف من الزمان عندما فرض على المستقبل مسيرة لا مناص عنها على أساس مؤشرات التاريخ وتفسيره لها.
وهنا يشير النموذج الأثيني إلى عكس ذلك أيضًا؛ فالديمقراطية والتوجه الليبرالي، رغم أنهما من أفضل ما توصلت إليه البشرية لأغلبية المجتمعات، فهما ليسا بالضرورة مستمرين أو غير قابلين للتطور أو حتى غير قابلين للانتكاسة.. ذلك أنه مع الإيمان باستمرارية تاريخ الفكرة، فإن نهاية تطورها هي لحظة إعلاننا لنهاية إنسانيتنا، فتقديري أن أخطر ما يمكن أن يواجهنا اليوم هو وجود ديمقراطية بلا ديمقراطيين تمامًا كما نخشى من وجود ديمقراطيين بلا ديمقراطية.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».