انحسار نفوذ فرنسا السياسي في أفريقيا مع إغلاق قواعدها العسكرية

بعد مالي وبوركينا فاسو والنيجر... القوات الفرنسية تبدأ بالرحيل عن تشاد وعن السنغال لاحقاً

الرئيسان الجيبوتي والفرنسي يتفقدان القوات لدى زيارة الأخير بمناسبة أعياد الميلاد، في 21 ديسمبر (أ.ف.ب)
الرئيسان الجيبوتي والفرنسي يتفقدان القوات لدى زيارة الأخير بمناسبة أعياد الميلاد، في 21 ديسمبر (أ.ف.ب)
TT

انحسار نفوذ فرنسا السياسي في أفريقيا مع إغلاق قواعدها العسكرية

الرئيسان الجيبوتي والفرنسي يتفقدان القوات لدى زيارة الأخير بمناسبة أعياد الميلاد، في 21 ديسمبر (أ.ف.ب)
الرئيسان الجيبوتي والفرنسي يتفقدان القوات لدى زيارة الأخير بمناسبة أعياد الميلاد، في 21 ديسمبر (أ.ف.ب)

يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، كان وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، في زيارة رسمية إلى تشاد. وما كاد يصعد لطائرته في طريق العودة إلى باريس حتى أعلنت السلطات التشادية، رسمياً، وضع حد لاتفاقيات الدفاع التي تربطها بفرنسا منذ عقود. جاء القرار التشادي مفاجئاً لباريس التي تربطها علاقات وثيقة بنجامينا، لا، بل إن الرئيس إيمانويل ماكرون كان الوحيد من الزعماء الغربيين الذي حضر مأتم الرئيس التشادي إدريس ديبي، ربيع عام 2021. وكان الأخير قد لقي حتفه أثناء المعارك مع متمردين شمال البلاد.

كذلك، فإن فرنسا قد غضَّت الطرف عن الطريقة التي ورث فيها محمد أدريس ديبي أنتو، ابن الرئيس المتوفَّى، السلطة عن أبيه، التي كانت بعيدة كل البعد عن الأصول الديمقراطية التي تُروّج لها باريس في أفريقيا. وخلال السنوات الثلاث المنقضية، واصلت فرنسا توفير دعمها لديبي؛ حيث استقبله ماكرون في قصر الإليزيه، في شهر يوليو (تموز) من العام نفسه، بوصفه رئيس «المجلس العسكري الانتقالي».

صور نشرها الجيش الفرنسي خلال مناورات في تشاد مطلع 2024

وفي العام الماضي وحده، قام الرئيس ديبي الابن بثلاث زيارات لفرنسا، وكانت آخر زيارة له لباريس في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وبالنظر لهذه العلاقات الوثيقة، فإن قرار نجامينا المفاجئ بوضع حد لتعاونها العسكري مع باريس جاء بمثابة الصدمة لفرنسا. ولاكتمالها، فإن السلطات التشادية أبلغت باريس رسمياً، في العشرين من الشهر الحالي، أنها تريد أن يتم رحيل القوات الفرنسية المرابطة على أراضيها قبل 31 يناير (كانون الثاني)، بحيث أمهلتها أقل من ستة أسابيع يتعين خلالها على باريس أن تسحب كامل قواتها مع أسلحتها وعتادها. ويبلغ عدد القوة الفرنسية المرابطة في تشاد 1500 رجل، يُضاف إليهم القاعدة العسكرية الجوية التي تضم طائرات «ميراج 2000» القائمة بجانب المطار الدولي المدني في نجامينا.

خسارة تشاد

الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي لدى وصوله إلى مطار بكين الدولي بداية سبتمبر قبيل «منتدى التعاون الصيني الأفريقي» (أ.ف.ب)

المزعج بالنسبة لفرنسا أن خسارة التشاد تعني أن باريس فقدت آخر موطئ قدم عسكري لها في منطقة الساحل الأفريقي. فمن عام 2021 وحتى 2023، تتابعت الانقلابات العسكرية في بلدان الساحل؛ في مالي أولاً، ثم تبعتها بوركينا فاسو، وأخيراً النيجر. وكانت النتيجة أن باريس اضطرّت إلى سحب قواتها تباعاً من البلدان الثلاثة، وإلى وضع حد لعملية «برخان» التي انطلقت في عام 2014 لمحاربة المجموعات الإرهابية في منطقة الساحل، بحيث تحولت تشاد إلى «ملجأ» أخير للقوات الفرنسية.

ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد؛ إذ انهارت العلاقات السياسية والدبلوماسية الفرنسية مع باماكو وواغادوغو ونيامي، وهي عواصم بلدان كانت مستعمرات فرنسية سابقة، وكان نفوذ باريس فيها عاملاً حاسماً.

جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية (الجيش الفرنسي)

من هذا المنظور، يمكن تقدير أهمية الخسارة التي تلحق بفرنسا بسبب قرار نجامينا خروج قواتها من البلاد. لكنّ ثمة فارقاً تنبغي الإشارة إليه، وهو أن السلطات التشادية لا تريد قطع العلاقات مع الدولة المستعمرة السابقة، بل تعديلها وترغب في تنويعها والانفتاح على شركاء جدد، مثل روسيا وتركيا والإمارات العربية المتحدة. وفي أي حال، فإن ذلك يُعدّ خسارة للنفوذ الفرنسي المتراجع منذ سنوات في القارة السوداء، خصوصاً في الدول الفرنكفونية وسط وغرب أفريقيا.

السنغال تخرج من العباءة الفرنسية

في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، استقبل الرئيس السنغالي بشيرو ديوماي فاي مجموعة من الصحافيين الفرنسيين في دكار، عاصمة البلاد. وكم كانت دهشة هؤلاء عندما أعلن أن بلاده «لن يكون فيها قريباً جداً أي جندي فرنسي»، مؤكداً أن السنغال «بلد مستقل، ودولة ذات سيادة، والسيادة لا تسمح بوجود قواعد عسكرية أجنبية».

رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو ينتظر لإلقاء خطابه أمام الجمعية الوطنية الجمعة (أ.ف.ب)

بيد أن ما قاله لم يكن، حقيقة، مفاجئاً؛ إذ إن الحزب اليساري الذي ينتمي إليه (حزب «الوطنيين من أجل العمل والأخوة»)، الذي حمله إلى السلطة في الانتخابات الأخيرة، دعا دوماً إلى خروج القوات الأجنبية من السنغال واستعادة السلطات لسيادتها على كامل الأراضي السنغالية. ومساء الجمعة، أفاد رئيس الوزراء عثمان سونكو بأن رئيس الجمهورية «قرَّر إغلاق جميع القواعد العسكرية الأجنبية في المستقبل القريب». جاء ذلك في إطار بيان حكومته حول السياسة العامة أمام الجمعية الوطنية، ولكن من غير إعطاء أي تفاصيل.

صورة أرشيفية لجنود في قاعدة جوية فرنسية بدكار في 2009 (أ.ب)

في أي حال، فإن وصول الثنائي بشيرو ديوماي فاي وعثمان سونكو إلى السلطة، بعد أن كانا سجينين في عهد الرئيس السابق ماكي سال، المقرب كثيراً من فرنسا، شكّل بحد ذاته قطيعة مع السياسة التقليدية السنغالية إزاء باريس التي تواصلت منذ استقلال البلاد.

واعتبر النائب الفرنسي أورليان سانتول، عن حزب «فرنسا المتمردة» اليساري المتشدد، أن ما حصل مع السنغال يُعدّ بمثابة «عقاب لفرنسا بسبب سياستها المتلوّنة، التي لا تحترم المبادئ التي تدافع عنها». أما عضوة مجلس الشيوخ هيلين كونواي - موريه، فقد رأت أن رسالة السنغال للسلطات في باريس تقول: «نريد الاستمرار في التعامل معكم، ولكن ليس وفق الطرق القديمة الإملائية، حيث كان يقال لنا كيف يتعين أن نتصرف».

تقلص نفوذ باريس

مع خسارة تشاد والسنغال، ينحسر الوجود العسكري الفرنسي بشكل حاد في أفريقيا الغربية؛ إذ لن يبقى لباريس سوى حضور ضعيف في بلدين أفريقيين، هما ساحل العاج (600 عنصر) والغابون (350 عسكرياً). بالمقابل، فإن فرنسا ستحافظ على قاعدتها الرئيسية القائمة في جيبوتي، وهي جوية وبحرية في آن واحد، وتضمّ ما لا يقلّ عن 1500 رجل.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجيبوتي إسماعيل عمر جيلة 21 ديسمبر (أ.ف.ب)

وبالنظر لموقع جيبوتي الاستراتيجي على مدخل البحر الأحمر، المطلّة على المحيط الهندي، الواقعة في قلب شرق أفريقيا، فإن القاعدة التي تستأجرها فرنسا منذ سنوات تُعدّ المنطلق لأي عمل عسكري فرنسي في هذه المنطقة وأبعد منها. وتم تجديد الاتفاقية في شهر يوليو (تموز) الماضي، بمناسبة الزيارة التي قام بها رئيس جيبوتي، إسماعيل عمر جيلة، إلى باريس. وينظر إلى القاعدة الفرنسية على أنها «بوليصة تأمين على الحياة» لنظام الأخير، ولبقائه على رأس البلاد المتواصل، دون انقطاع، منذ 24 عاماً. إلا أن جيبوتي تحتضن أيضاً قواعد عسكرية أخرى: أميركية، وصينية، ويابانية، وإيطالية.

بدأ رحيل القوات الفرنسية عن تشاد فعلياً، فغادرتها طائرات «ميراج 2000» المقاتلة، كما عمدت القيادة الفرنسية إلى إغلاق قاعدة «فايا لارجو» القائمة شمال البلاد، وسلّمتها للسلطات التشادية.

طائرة «ميراج» فرنسية وهي تغادر قاعدة «غوسي» التشادية (الجيش الفرنسي)

وتسعى فرنسا لإنجاز الانسحاب دون تأخير، ويبدو أنها حصلت على وقت إضافي من نجامينا. وبرحيلها تكون باريس قد فقدت محوراً أساسياً للانتشار الفرنسي في أفريقيا. وليس سرّاً أن الحضور العسكري كان يعكس نفوذ فرنسا في الدول المعنية، وأبعد منها، إلى درجة أنه كان ينظر إليها على أنها «شرطي أفريقيا» الفرنكفونية.

وبعكس بريطانيا التي خرجت من أفريقيا ولم تُبقِ لها حضوراً عسكرياً، فإن السلطات الفرنسية كانت حريصة على ديمومة حضورها العسكري والمادي. ومنذ وصوله إلى الرئاسة، حاول ماكرون تغيير فلسفة الانتشار العسكري في القارة السمراء. ورغم الوقت الطويل الذي حظي به (سبع سنوات حتى اليوم)، فإنه أخفق. ومصير القواعد التي تُغلَق الواحدة تلو الأخرى أبرز دليل على هذا الفشل. واليوم، استعرت المنافسة على أفريقيا مع الصين وروسيا وتركيا وإسرائيل، فضلاً عن الولايات المتحدة ودول أوروبية، بحيث تحولت أفريقيا إلى ميدان للتصارع على الأسواق والمواد الأولية والاقتصاد، ناهيك من النفوذ السياسي والعسكري.



تونس: إيقاف متهمين بالانتماء إلى «تنظيم إرهابي»

وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي بجلسة عمل مع ممثل البنتاغون في سياق التنسيق الأمني والعسكري بين سلطات البلدين (من موقع وزارة الدفاع التونسية)
وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي بجلسة عمل مع ممثل البنتاغون في سياق التنسيق الأمني والعسكري بين سلطات البلدين (من موقع وزارة الدفاع التونسية)
TT

تونس: إيقاف متهمين بالانتماء إلى «تنظيم إرهابي»

وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي بجلسة عمل مع ممثل البنتاغون في سياق التنسيق الأمني والعسكري بين سلطات البلدين (من موقع وزارة الدفاع التونسية)
وزير الدفاع التونسي خالد السهيلي بجلسة عمل مع ممثل البنتاغون في سياق التنسيق الأمني والعسكري بين سلطات البلدين (من موقع وزارة الدفاع التونسية)

كشفت مصادر أمنية رسمية تونسية عن أن قوات مكافحة الإرهاب والحرس الوطني أوقفت مؤخراً مجموعة من المتهمين بالانتماء إلى «تنظيم إرهابي» في محافظات تونسية عدة، دون توضيح هوية هذا التنظيم، وإن كان على علاقة بالموقوفين سابقاً في قضايا إرهابية نُسبت إلى فروع جماعتي «داعش» و«القاعدة» في شمال أفريقيا، مثل تنظيم «جند الخلافة» و«خلية عقبة بن نافع».

وحدات مكافحة الإرهاب التونسية ترفع حالة التأهب (صورة من مواقع وزارة الداخلية التونسية)

ووصف بلاغ الإدارة العامة للحرس الوطني في صفحته الرسمية الموقوفين الجدد بـ«التكفيريين»، وهي الصيغة التي تُعتمد منذ سنوات في وصف من يوصفون بـ«السلفيين المتشددين» و«أنصار» الجهاديين المسلحين.

من محافظات عدة

وأوضح المصادر أن قوات تابعة للحرس الوطني أوقفت مؤخراً في مدينة طبربة، 20 كلم غرب العاصمة تونس، عنصراً «تكفيرياً» صدرت ضده مناشير تفتيش صادرة عن محكمة الاستئناف بتونس بتهمة الانتماء إلى تنظيم إرهابي، ومحكوم غيابياً بالسجن لمدة 6 أعوام.

كما أعلن بلاغ ثانٍ صادر عن الإدارة العامة عن الحرس الوطني أن قواتها أوقفت مؤخراً في منطقة مدينة «مساكن»، التابعة لمحافظة سوسة الساحلية، 140 كلم جنوب شرقي العاصمة، متهماً بالانتماء إلى تنظيم إرهابي صدرت ضده أحكام غيابية بالسجن.

وحدات مكافحة الإرهاب التونسية ترفع حالة التأهب (صورة من مواقع وزارة الداخلية التونسية)

بالتوازي مع ذلك، أعلنت المصادر نفسها أن الحملات الأمنية التي قامت بها قوات النخبة ومصالح وزارة الداخلية مؤخراً براً وبحراً في محافظات عدة أسفرت عن إيقاف مئات المتهمين بالضلوع في جرائم ترويج المخدرات بأنواعها من «الحشيش» إلى «الحبوب» و«الكوكايين».

في السياق نفسه، أعلنت مصادر أمنية عن إيقاف ثلاثة متهمين آخرين بـ«الانتماء إلى تنظيم إرهابي» من محافظة تونس العاصمة وسوسة وبنزرت سبق أن صدرت ضدهم أحكام غيابية بالسجن في سياق «الجهود المتواصلة للتصدي للعناصر المتطرفة» وتحركات قوات مصالح مكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية ووحدات من الحرس الوطني.

المخدرات والتهريب

وفي سياق تحركات خفر السواحل والوحدات الأمنية والعسكرية المختصة في مكافحة تهريب البشر والسلع ورؤوس الأموال، أعلنت المصادر نفسها عن إيقاف عدد كبير من المهربين والمشاركين في تهريب المهاجرين غير النظاميين، وغالبيتهم من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وحجز عشرات مراكب التهريب ومحركاتها.

كما أسفرت هذه التدخلات عن إنقاذ نحو 83 مهاجراً غير نظامي من الموت بعد غرق مركبهم في السواحل القريبة في تونس؛ ما تسبب في موت 27 ممن كانوا على متنهما.

في الأثناء، استأنفت محاكم تونسية النظر في قضايا عشرات المتهمين في قضايا «فساد إداري ومالي» وفي قضايا أخرى عدّة، بينها «التآمر على أمن الدولة». وشملت هذه القضايا مجموعات من الموقوفين والمحالين في حالة فرار أو في حالة سراح، بينهم من تحمل مسؤوليات مركزية في الدولة خلال الأشهر والأعوام الماضية.

وفي سياق «الإجراءات الأمنية الوقائية» بعد سقوط حكم بشار الأسد في سوريا والمتغيرات المتوقعة في المنطقة، بما في ذلك ترحيل آلاف المساجين المغاربيين المتهمين بالانتماء إلى تنظيمات مسلحة بينها «داعش» و«القاعدة»، تحدثت وسائل الإعلام عن إجراءات «تنظيمية وأمنية جديدة» في المعابر.

في هذا السياق، أعلن عن قرار مبدئي بهبوط كل الرحلات القادمة من تركيا في مطار تونس قرطاج 2، الذي يستقبل غالباً رحلات «الشارتير» و«الحجيج والمعتمرين».

وكانت المصادر نفسها تحدثت قبل أيام عن أن وزارة الدفاع الأميركية أرجعت إلى تونس الاثنين الماضي سجيناً تونسياً كان معتقلاً في غوانتانامو «بعد التشاور مع الحكومة التونسية».

وأوردت وزارة الدفاع الأميركية أن 26 معتقلاً آخرين لا يزالون في غوانتانامو بينهم 14 قد يقع نقلهم، في سياق «تصفية» ملفات المعتقلين خلال العقدين الماضيين في علاقة بحروب أفغانستان والباكستان والصراعات مع التنظيمات التي لديها علاقة بحركات «القاعدة» و«داعش».

حلول أمنية وسياسية

بالتوازي مع ذلك، طالب عدد من الحقوقيين والنشطاء، بينهم المحامي أحمد نجيب الشابي، زعيم جبهة الخلاص الوطني التي تضم مستقلين ونحو 10 أحزاب معارضة، بأن تقوم السلطات بمعالجة الملفات الأمنية في البلاد معالجة سياسية، وأن تستفيد من المتغيرات في المنطقة للقيام بخطوات تكرّس الوحدة الوطنية بين كل الأطراف السياسية والاجتماعية تمهيداً لإصلاحات تساعد الدولة والمجتمع على معالجة الأسباب العميقة للازمات الحالية.