«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

حسن كريم يعيد اكتشاف بغداد بين المتن الرسمي وسرد الهامش

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية
TT

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة، مع أن مؤلفه الروائي حسن كريم عاتي أصرَّ على تجنيسه على غلاف الكتاب بالرواية.

فالكتاب يفتقد المقومات المعروفة للبنية الروائية ومنها الراوي والمروي له، والمتن الروائي بما فيها من حدث وشخصيات وأزمنة وحوارات ومخلوقات من لحم ودم، وقد يدفع هذا القارئ إلى القول بأن هذا الكتاب عبارة عن مدونة تاريخية عن مدينة بغداد، منذ تأسيسها على يد الخليفة أبي جعفر المنصور عام 144 هجرية وحتى اليوم، بلغة تدمج بين التاريخ ولغة السرد الروائي الحديث.

ولكني، مع كل ذلك، وبرغم كل هذه التحفظات أرى أن هذا النص هو حقاً رواية، لكنها رواية من نوع خاص واستثنائي، وربما يُستحضر مفهوم الرواية هنا من الموروث العربي والإسلامي، حيث كان هذا المفهوم ينصرف إلى نقل وتدوين الوقائع والأحداث التاريخية، أو تناقل الأحاديث النبوية مع الاحتفاظ بسندها ورواتها بما يتفق و«علم الجرح» أو «علم الرجال» في الموروث العربي.

هذه الرواية تتخذ من المكان بطلاً، والمكان هنا مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد، وسيرورتها نحو الشيخوخة وصولاً إلى الحاضر. لذا يمكن النظر إلى الرواية هذه بوصفها سيرة أو ترجمة يدونها روائي معاصر لمدينة بغداد، بعد أن أشبعها المؤرخون المتقدمون منهم والمتأخرون دراسةً وتدويناً ووصفاً.

ولا يعمد المؤلف، في البنية الزمنية للرواية إلى التسلسل التاريخي الرسمي أو الكرونولوجي للأحداث، بل إلى منطق حجر النرد وأوجهه الستة، مستهلاً روايته بـ6 تساؤلات، بعدد أوجه حجر النرد، ويتساءل في الفقرة السادسة عما إذا كان ما سيرويه يمثل الحقيقة:

«تساؤلات ستة، تمثل وجوه حجر النرد الصقيل الأبيض، عادة الموشومة فوقه علامات ترقيم التساؤلات بأسود فاحم»، (ص7). لذا يعمد المؤلف بين آونة وأخرى إلى تقليب أوجه النرد باستمرار: «فلنحاول مرةً أخرى تقليب وجه آخر من وجوه حجر النرد» (ص10).

كما تتحول وجوه حجر النرد هذه إلى تمفضلات للبنية السردية للرواية على الوجه التالي: كوكب الهوى (يك)، أساور العروس (دو)، هل أتاك حديث المغل (سي)، هناك من يستذكر الملك (جهار)، أم يأكل الأبناء ثديها (بنج)، الدكتاقراطية (شيش). لكن الباب الثالث الموسوم بـ«باب المراد» يتحرر نسبياً من سلطة النرد.

والرواية لا تعتمد على التاريخ الرسمي، في سرد تشكل مدينة بغداد ونموها عبر التاريخ، بل إلى ما هو مهمش وعرضي ومسكوت عنه من تاريخها، كما نجد تناصات كثيرة مستقاة من كتب تاريخية عن بغداد؛ منها «تاريخ بغداد» لابن الخطيب، و«الروض المعطار في خير الأمصار» للصنهاجي، ومن رسائل سلطانية مختلفة، تضع الخطوط العريضة لكيفية قيادة السلطان أو الخليفة أو الوالي لشؤون الرعية، بما يصح أن نسميه بكتاب «الأمير العربي» الذي سبق كتاب «الأمير» للمفكر الإيطالي ميكافيلي.

ويلعب المؤلف لعبة نرد أخرى يكشف فيها عن التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة: «وبتقليب وجهٍ آخر من وجوه النرد، تبدو الصورة أقرب إلى الكمال، ولن تكتمل، فإن التوجيه يظهر لنا التمايز الطبقي الحاد بين النخبة والعامة»، (ص11). ويشير إلى أن «هذا النسق من هيمنة السلطة على (الرعية) أو (العامة) هو القانون المتوارث في سياسة السلاطين لتحقيق اجتماع الرعية وسلامة بقائهم يزفه سلطان في فم سلطان»، (ص12).

ويبحث الروائي في الأسباب التي جعلت الخليفة أبا جعفر المنصور يختار مدينة بغداد عاصمةً بديلة له عن الهاشمية التي اتخذ منها أسلافه عاصمة عند تأسيس الدولة العباسية. فقد كان الخوف يتسرب إلى نفسه من ولاءات الأنصار والمدن البعيدة والقريبة. فالشام محكومة الانتماء للدولة المنهارة، والكوفة منتمية إلى دولة سبقتها، انهارت أيضاً؛ ولذا - وبعد استقصاءات طويلة - قرر ترك مدينة الهاشمية التي اتخذها أسلافه عاصمة لهم، والبحث عن مكان بعيد عن الولاءات المعروفة، فكان أن وقع اختياره على مدينة بغداد لتكون عاصمة المملكة. «ذلك ما كان يفكر به الخليفة، ولو قال له اليعقوبي، ما كان له بعد بنائها... لما خطر ببال الخليفة أن تكون كما قال جزيرة بين دجلة والفرات، دجلة شرقيها، والفرات غربيها، مشرعة الدنيا... فهي واسطة العقد، في مدن الزمان، على ما أجمع عليه قول (الحساب) وتضمنته كتب الأوائل من الحكماء»، (ص23). «وبذا كان اختيار الخليفة لعاصمته الجديدة، فترك الهاشمية وبدأ ببناء مدينة بغداد سنة 145»، (ص28).

وعند تقليب حجر النرد على الوجه «دو» يبتدئ فصل «أساور العروس» بدخول الخليفة المؤسس أبي جعفر المنصور، على بغلة بيضاء مرتدياً قلنسوة الحرب السوداء، وهو يشاهد العرض العسكري، يحف به، وخلفه رجال دولته (ص29)، وتدور رحى الحياة بحلوها ومرها، ويتوالى خلفاء بني العباس إلى أن يدخل عليهم الأعاجم ويجتزون رأس آخر خلفائهم ويرفعونه على باب المدينة المقابل للجسر. (ص39).

ويكشف النرد في حركته الجديدة على الوجه «سي» حكاية دخول المغول، أو المغل، بغداد، واحتلالهم مدن الخلافة من الموصل إلى أسوار بغداد، ونشرهم الرعب بين الناس: «فقد وصلتنا قوافل الهاربين من الموصل إلى أبواب دار السلام»، (ص41).

وفي محاولة لمواجهة هذا الغزو المغولي، جمع الخليفة أمام أبواب المدينة جيشاً بـ800 فارس، هي كل القوة التي استطاع جمعها، لكن جيش المغول كان كبيراً ووحشياً؛ لذا فسرعان ما سقطت بغداد عندما حاصرت جيوش المغول أسوار بغداد وأمطرتها بقذائف النفط والحجارة، ووضع المغول الخليفة داخل كيس جلدي وقُتل رفساً، وهكذا انتهت الدولة العباسية واستبيحت بغداد من قبل المغول أيما استباحة. وفي نقلة جديدة لحركة حجر النرد «جهار» ينتقل المؤلف زمنياً، وهو يؤرخ لبغداد، إلى العصر الحديث عندما عين الإنجليز الملك فيصل الأول ملكاً على سوريا، ثم نقل إلى العراق. وكان العراق قد تخلص للتو من ربقة 4 قرون من الاحتلال العثماني الذي حكم زوراً وبهتاناً تحت اسم الخلافة الإسلامية، ليسقط تحت حكم كولونيالي جديد باسم الانتداب البريطاني على العراق، والذي قوبل بثورة شعبية عارمة، هي ثورة العشرين في الثلاثين من يونيو (حزيران) 1920، التي أجبرت الإنجليز على مراجعة خططهم والتخفيف من وطأة الاحتلال بسلسلة من الإجراءات الشكلية، منها تأسيس مجلس النواب، ومجلس الوزراء، وبناء جيش وطني تحت مظلة الدولة العراقية الجديدة.

وفي نقلة جديدة لحجر النرد «بنج» ينتقل المؤلف إلى الثلاثينات من القرن العشرين، وقد فزعت بغداد لمقتل ملكها الشاب غازي بحادث سيارة، يتهم فيه الناس الإنجليز بتدبيره؛ لذا امتلأت الشوارع بالمحتجين والمتظاهرين المنددين بالسيطرة البريطانية، وبالثأر لدم الملك الشاب. ويستمر نضال الشعب العراقي ضد المعاهدات الاستعمارية في وثبة كانون 1948، وانتفاضة 1952، واختتمت بثورة 14 تموز عام 1958 التي قادها الزعيم عبد الكريم قاسم، بإعلان النظام الجمهوري ونهاية الحكم الملكي في العراق. لكن السرد سرعان ما يقودنا إلى صورة الزعيم على شاشة التلفاز مسجى على الأرض بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 الذي قاده عبد السلام عارف بدعم من البعثيين الذين مارسوا أبشع أنواع التقتيل والاضطهاد بحق العراقيين. ونجد نقلة أخرى سريعة لحكم أحمد حسن البكر، وإرغامه من قبل صدام حسين على التنازل، في مجزرة «قاعة الخلد» المشهورة.

وفي حركة جديدة لحجر النرد «شيش» يدون الروائي سلسلة جرائم البعث وقائده الديكتاتور صدام حسين، ومنها اجتياحه الإجرامي للشقيقة الكويت، وقبل ذلك حربه الدموية مع الجارة إيران، مما جرّ البلاد إلى المزيد من الويلات منها حرب الخليج لطرد جيش صدام من الكويت التي كان ضحيتها الجيش العراقي. ويستمر مسلسل العنف والانهيار حتى دخول قوات المارينز الأميركية لاحتلال العراق وإسقاط نظام صدام حسين عام 2003. وكان إسقاط تمثال الديكتاتور في ساحة الفردوس كناية عن هذا السقوط وانتهاء حكم دولة البعث وهيمنته الكولونيالية الأمريكية.

وفي الفصل الثالث والأخير من الرواية الموسوم بـ«باب المراد» يدون الروائي، بوصفه مؤرخاً، تفاصيل جديدة لم تستخدم في وجوه حجر النرد المعروفة، جانباً من معاناة الأسرة العراقية التي ثكلت بأبنائها، ومظاهر الفجيعة التي طالت الزوجة والأبناء حيث يصرخ طفلٌ اكتشف حقيقة موت أبيه: «هل يعني ذلك أني أصبحت من دون أب؟!» (ص105). ويعمد الروائي إلى توظيف المفارقة الساخرة أمام جثة القتيل، عندما تعلن الزوجة الثكلى، في لون من الكوميديا السوداء، أن هذه الجثة ليست لزوجها: «الجثة التي أتوا بها لم تكن حليقة العانة، وزوجي قبل ذهابه بـ3 أيام قد حلقها»، (ص106).

وينتقل الروائي من سرد المتن الرسمي إلى سرد الهامش وعالم المهمشين في لقطات متتابعة منها لقطة الفتيات وهن يحملن جرار الماء، ويتوقف أمام منظر مدينة من مدن الطين هي مدينة الشاكرية في جانب الكرخ، التي وجدت مثيلاً لها في الكثير من مناطق بغداد آنذاك: «فالشاكرية في كرخها بين العباسية من شمالها الشرقي، وحتى الكاورية في جنوبها الشرقي، ومن أم العظام في جنوبها حتى محطة غربي بغداد لسكك الحديد، مدينة طين»، (ص115). لكن الشاكرية لم تكن مدينة الطين الوحيدة، فقد تكاثرت مدن الطين في شرق العاصمة وغربها، مثل خلف السدة المسماة بـ«العاصمة» في الرصافة، والوشاش في الكرخ. ويكشف الروائي عن ثمرة هذه المعاناة التي تمثلت في الجذور الأولى لحركة الاحتجاج السياسي متمثلة في شخصية «دوسر» ابن الشاكرية الذي فقد عينه بسبب النضال من أجل الصرائف. (ص122).

تتخذ الرواية من لعبة النرد فضاء سردياً تتمثل من خلاله سيرة مدينة بغداد منذ ولادتها وصباها وبلوغها سن الرشد والمخاطر التي واجهتها حتى الحاضر.

وفي مظهر آخر للكوميديا السوداء يقدم لنا الروائي مشهداً لصاحب بغل (مجاري) فَقَدَ بغلَه وقيل له أن يبحث عنه في هذا الباب، إذ شوهد وهو يدخل هذه البناية، التي كانت مبنى لمجلس النواب (ص125). وعندما روى «دوسر» ابن الشاكرية هذه الحكاية نصحه أحدهم بأن يتجنب سرد هذه الحكاية لكيلا يقولوا عنه إنه من المعادين.

وفي الفصل الأخير «هامش سفر النرد» نكتشف أن المؤلف كان قد وضع عنواناً ثانوياً لمؤلفه هو «سفر بغداد»، وكان ينبغي أن يدرج ولا يحذف كما هو الحال. وبعد أن يستشهد بمقولة دالة للتوحيدي، يختتم الرواية بالقول، ملخصاً تاريخها، الذي يتوج الإنسان على قمة التاريخ والمكان: «فما حدث في بغداد حدث في غيرها من بلاد العرب والعجم، وفي دار السلام وفي دار الحرب، فهو يتصل بالإنسان أكثر من اتصاله بالمكان»، (ص127).

ومن هنا نكتشف أننا إزاء رواية من نوع خاص، قد تتجاوز التجنيس الرسمي لفن الرواية، كما أسلفت، لكنها تظل رواية فيها من الطرافة والجدة الشيء الكثير؛ لأنها تعتمد على التخييل والتاريخ معاً، وتتطلع إلى إجازتها مصنفاً معتمداً: «لإشاعتها بين الخاصة والعامة، ونسبتها إلينا، ونستغفر الله لك ولنا وللعامة». (ص128).

إنها حقاً تجربة كتابية جديدة وفريدة لم نشهد لها مثيلاً في التأليف الروائي، نجح فيها الروائي في بناء رواية تاريخية من مداد افتراضي تخييلي، وبطريقة ذكية ونادرة تستحق الإعجاب والثناء.


مقالات ذات صلة

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم.

شوقي بزيع
ثقافة وفنون فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة.

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

الفكر الفلسفي المسيحي في متناول القارئ العربي

في سياق الاهتمام المتنامي في العالم العربي عموماً، وفي البلدان الخليجيّة خصوصاً، تبرز «موسوعة الفلسفة الفرنسيّة المعاصرة».

مالك القعقور

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.