يوم 24 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1984، دخل رجلٌ يحمل الجنسية الجزائرية إلى مقر الشرطة في مدينة ليون، طالباً الحماية من عناصر المخابرات الإسرائيلية (الموساد) الذين يقتفون أثره، إلا أن جهاز المخابرات الداخلية الفرنسي نجح في كشف هويته الحقيقية، وعلم بسرعة أن الشخص الساعي للحماية، الذي يتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، ليس سوى «عبد الكريم سعدي»، وهو الاسم الحركي لجورج إبراهيم عبد الله. وتبين لاحقاً، كما ذكّرت بذلك صحيفة «لو فيغارو»، أن جورج إبراهيم عبد الله كان يمتلك جوازات سفر مالطية ومغربية ويمنية، إضافة لجواز السفر الجزائري، وأيضاً اللبناني.
لم تتأخر محاكمة اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، البالغ من العمر اليوم 73 عاماً، الذي قبل القضاء الفرنسي الجمعة إطلاق سراحه بعد 40 عاماً أمضاها في السجن. والغريب أنه حُوكم مرتين: الأولى في عام 1986، بتهمة التآمر الجنائي وحيازة أسلحة ومتفجرات، وقضت المحكمة بسجنه لمدة أربع سنوات. لكنه، في العام التالي، حُوكم مرة ثانية من قبل محكمة الجنايات الخاصة في باريس بتهمة التواطؤ في اغتيال دبلوماسيين اثنين في عام 1982، هما الأميركي تشارلز راي والإسرائيلي ياكوف بارسيمنتوف، ومحاولة اغتيال القنصل العام الأميركي روبرت هوم في مدينة ستراسبورغ، وآخر في عام 1984. وثابر جورج إبراهيم عبد الله على إنكار التهم الموجهة إليه، مشدداً على أنه «ليس سوى مناضل عربي». وفي المحاكمة الثانية، التي جرت في عام 1987، وبالنظر للضغوط التي انصبت على فرنسا من جانب الولايات المتحدة الأميركية ومن إسرائيل، صدر بحقه حكم بالسجن المؤبد. اللافت أن الادعاء العام طلب سجنه لعشر سنوات، إلا أن قضاة محكمة الجنايات الخاصة لم يأخذوا بما طلبه الادعاء وقضوا بالسجن المؤبد.
وليس من المؤكد تماماً أن القرار الصادر عن محكمة تطبيق الأحكام التي وافقت على طلب الإفراج عن جورج إبراهيم عبد الله والسماح له بمغادرة الأراضي الفرنسية في السادس من ديسمبر (كانون الأول) المقبل، سيتحقق. والسبب في ذلك أن الادعاء سارع إلى تأكيد أنه سيتقدم باستئناف على قرار المحكمة المذكورة الإفراج عن عبد الله شرط أن يغادر الأراضي الفرنسية وألا يعود إليها مطلقاً. وجاءت موافقة المحكمة هذه المرة بعد رفض لعشر محاولات سابقة. والمرة الوحيدة التي كاد يخرج فيها عبد الله من سجن «لانميزان» الواقع في منطقة جبال البيرينيه الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا، وعلى بعد 120 كلم من مدينة تولوز، إلى الحرية كانت في عام 2013، حيث وافق القضاء المختص وقتها على الإفراج عنه شرط أن يصدر عن وزارة الداخلية وقتها التي كان يشغلها الاشتراكي مانويل فالس قرار بطرده من الأراضي الفرنسية. والحال أن هذا القرار لم يصدر ولم تعرف وقتها حيثياته، ولكن المرجح أن الضغوط المشتركة الأمريكية والإسرائيلية حالت دون ذلك. والمعروف عن فالس قربه من إسرائيل.
ويعد جورج إبراهيم عبد الله أحد أقدم السجناء السياسيين في العالم. والمعروف أنه ساهم في تأسيس وقيادة الفصائل الثورية اللبنانية المسلحة، وكان مناضلاً نشطاً لصالح القضية الفلسطينية ومتبنياً للأفكار الماركسية.
وبعد مرور عدة سنوات على سجنه، خصوصاً منذ أن أصبح له الحق في الخروج من السجن منذ 25 عاماً، ورفض القضاء الثابت الإفراج عنه، حظي بدعم محلي وخارجي. وكانت كلمة الكاتبة الفرنسية الحائزة على جائزة «نوبل» آني أرنو مدوية حين أعلنت أن جورج إبراهيم عبد الله «ضحية قضاء الدولة الفرنسية الذي هو عار فرنسا». الجديد في قرار المحكمة، الجمعة أنها لم تطلب، كما في عام 2013، صدور قرار طرد من وزارة الداخلية. لكن بالمقابل، يشاع أن فرنسا حصلت من لبنان على تعهدات مكتوبة من الحكومة اللبنانية تفيد بأن عودته إلى لبنان «لا يفترض أن تفضي إلى اهتزازات للنظام العام». وترجمة ذلك، وفق صحيفة «لو فيغارو»، أنه لا يفترض أن يستقبل جورج إبراهيم عبد الله، في حال إتمام عودته استقبال الأبطال.
وفي السنوات الأخيرة، سعت الحكومات اللبنانية المتعاقبة، خصوصاً في عهد الرئيس السابق ميشال عون، للإفراج عن عبد الله، لا بل إن وزيرة العدل ماري كلود نجم زارته في سجنه في عام 2022.
من جانبه، رحب محامي عبد الله، جان لوي شالانسيه، بقرار المحكمة، معتبراً أنه «انتصار قضائي وسياسي». بدوره قال توم مارتن، المتحدث باسم تجمع «فلسطين سوف تنتصر» لوكالة الصحافة الفرنسية، إن قرار محكمة تنفيذ الأحكام «خبر جيد بالطبع، لكنه مجرد خطوة أولى، لأن المدعي العام استأنف للتو»، مضيفاً: «يجب أن تشجعنا هذه الأخبار السارة على تطوير وتوسيع وتكثيف حملة الدعم التي لن تنتهي حتى يصبح جورج إبراهيم عبد الله حراً طليقاً في بلده لبنان».