قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة

أكبر مجمع أثري يعود إلى حقبة أمّ النار

قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة
TT

قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة

قبر هيلي الكبير ونقوشه التصويرية الفريدة

تحوي منطقة العين في إمارة أبو ظبي سلسلة من المواقع الأثرية، أشهرها تلك التي تقع في واحة هيلي. في هذه الواحة، تمّ إنشاء حديقة آثار خاصة بهذه المنطقة منذ نهاية ستينات القرن الماضي، وتمّ تصميم هذه الحديقة لتسليط الضوء على معالم هيلي القديمة. أبرز هذه المعالم قبر دائري كبير يُعرف بـ«مدفن هيلي الكبير»، يعود إلى نحو 2030 عاماً قبل الميلاد، ويتميز بنقوشه التصويرية الاستثنائية التي تزين بابه الجنوبي وبابه الشمالي.

تقع منطقة العين على سهل رسوبي خصب، تَحُدُّه من جهة الغرب صحراء الربع الخالي الشاسعة، ومن جهة الشرق سلسلة جبال الحجر التي تغطي جزءاً كبيراً من شمال سلطنة عُمان. تقع واحة هيلي شمال هذه المنطقة السهلية، وتضم عدداً كبيراً من المستوطنات والأبراج والمدافن وأنظمة الري، كشفت عنها حملات المسح والتنقيب المتعاقبة منذ عام 1959.

قادت بعثة دنماركية أولى هذه الحملات، وعمدت إلى تسجيل اكتشافاتها وترقيمها وفقاً للأساليب المنهجية المتبعة، وتمثّل أحد أبرز هذه الاكتشافات بقبر دائري كبير ظهرت معالمه في منتصف الستينات، حمل رقم 1059، وعُرف طويلاً بهذا الرقم.

تمّ إنشاء حديقة آثار هيلي لإبراز هذه المعالم وإتاحة الفرصة أمام الزوار للاطلاع عليها، كما تمّ إنشاء متحف حمل اسم «متحف العين»، ضمّ مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المكتشفة في نواحٍ عديدة من هذه المنطقة. تجاور حديقة آثار هيلي غرباً قرية تحمل هذا الاسم، وتشكّل آثار هذه القرية امتداداً لهذه الحديقة. في المقابل، وعلى بعد كيلومتر واحد شمالاً، نقع على مدفنين يُعرفان بمدفني هيلي الشماليين، تفصل بينهما مسافة تقارب 200 متر. يرتفع المدفن الأول على شكل برج دائري، ويتألف من طابقين يضمّان 4 أقسام تفصل بينها جدران متوازية. يبدو المدفن الثاني مشابهاً من حيث التصميم الهندسي، وتتميّز واجهته بأحجارها المشذّبة.

تعود هذه المنشآت إلى عدة مراحل متعاقبة. تُنسب أقدم هذه المنشآت إلى حقبة تمتد من منتصف الألف الرابع إلى الربع الأول من الألف الثالث قبل الميلاد، وتشهد لاستقرار الإنسان في القرى، واعتماده على الزراعة القائمة على الآبار الجوفية، واستخدامه الحجر والطين في تشييد المساكن. تلي تلك الحقبة حقبة أُطلق عليها اسم أم النار، وذلك نسبة إلى جزيرة أم النار التي تقع قبالة ساحل إمارة أبو ظبي، وتمثّل موقعاً أثرياً خرجت منه اكتشافات كبيرة، سلّطت الضوء على حياة سكان شبه جزيرة عُمان خلال العصر البرونزي، بين عام 2500 وعام 2100 قبل الميلاد. في تلك الحقبة، ظهرت المستوطنات الكبيرة، وتميّزت بعض مبانيها بطابع دائري يحاكي الأبراج. وضمّت هذه المستوطنات قبوراً دائرية جماعية متعددة الحجرات، شُيّدت بأحجار مشذبة.

تشكّل منطقة هيلي أكبر مجمع أثري للعصر البرونزي في دولة الإمارات العربية. تعود أغلب منشآت هذه المنطقة إلى حقبة أم النار، وتشهد لتاريخ غني يمتد من بداية الألف الثالثة قبل الميلاد إلى بداية الألف الثانية دون انقطاع. تنتمي منشآت حديقة آثار هيلي إلى تلك الحقبة، وأبرزها القبر 1059 الذي بات يُعرف اليوم بمدفن هيلي الكبير. كذلك ينتمي المدفنان الشماليان إلى الحقبة نفسها، ومن هذين المدفنين خرجت مجموعة كبيرة من اللقى والكسور، شملت أواني خزفية وأوعيةً وأدواتٍ مصنوعة من الحجر الصابوني الأملس. تنتمي القرية الواقعة غرب حديقة آثار هيلي إلى تلك الفترة، وتضمّ أسس 10 منازل، خرجت منها مجموعة كبيرة من اللقى، إضافة إلى عدد من أوعية التخزين الكبيرة.

تشمل اللقى الأثرية التي خرجت من مواقع هيلي المختلفة أواني فخارية مزينة بأشرطة متموجة، وبتقاسيم هندسية متعدّدة صيغت باللون الأسود على خلفية حمراء، كما تشمل أواني متعددة مصنوعة من الحجر الصابوني الأملس، زيّنت بشبكات هندسية تتبع طرازاً خاصاً في الصياغة والتأليف. في هذا الميدان، يسود الطابع التجريدي بشكل شبه كامل، وتحضر العناصر التصويرية بشكل خجول للغاية. يخرج القبر 1059 عن هذا السياق، وينفرد بنقوشه التصويرية التي تجمع بين العناصر الآدمية والحيوانية.

يُعد مدفن هيلي الكبير من أكبر المدافن الجماعية الدائرية التي كشفت عنها حملات التنقيب. يبلغ قطر هذا المدفن المبني من الحجر 12 متراً، وارتفاعه 4 أمتار، ويبدو كأنه في حلّته الأصلية بعد أن تمّ ترميمه بشكل كامل، حيث شمل هذا الترميم إعادة بناء ما سقط من مكوّنات بنائه الخارجي. يضمّ هذا القبر الكبير 4 غرف داخلية، خصّصت كل منها لدفن عدد محدد من الموتى مع حاجياتهم الشخصية، وفقاً للتقاليد المتبعة، ويمتاز بمدخلين زُيّنت واجهة كل منهما بحلّة نحتيّة ناتئة.

على حجر الباب الجنوبي، وفوق مدخل هذا الباب، يظهر شخصان متجاوران، يقفان جنباً إلى جنب في وضعية المواجهة، بين حيوانين كبيرين يتواجهان في وضعية جانبية. يبدو الشخصان من دون أي ملامح، وهما أشبه بخيالين حدّدت حدود قامتيهما فحسب، وتبدو البهيمتان أشبه بظبيتين من فصائل الظباء الصحراوية الوحشية، ويكلل رأس كل منهما قرنان طويلان يماثلان قرون المهاة. على حجر الباب الشمالي، وفوق مدخل هذا الباب، يظهر في أعلى اليمين شخصان متعانقان، ويظهر في أعلى اليسار شخص يجلس على ظهر حمار، وشخص يقف من وراء هذا الحمار، حاملاً رمحاً ودرعاً. في أسفل مدخل الباب، يظهر فهدان متواجهان جانبياً ينقضان في حركة جامعة على غزال يحضر في وضعية مماثلة.

تحاكي هذه الصور الناتئة أشكالاً تصويرية تظهر على أختام تعود إلى تلك الحقبة، وتمثّل هذه الأشكال المشتركة كما يبدو العلاقة الشائكة التي قامت بين الإنسان الحيوان في البلاد التي عُرفت قديماً باسم ماجان. تعكس هذه الصور الاستثنائية طابع الأسلوب الذي ظهر في وادي السند، وتشهد للرابط الذي جمع بين بلاد ماجان وبلاد ملوخا التابعة لهذا الوادي.



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».