«اكتشاف إيران»... رحالة إسبانية لبلاد الحدائق والسجاد

القاهرة: «الشرق الأوسط»

«اكتشاف إيران»... رحالة إسبانية لبلاد الحدائق والسجاد
TT

«اكتشاف إيران»... رحالة إسبانية لبلاد الحدائق والسجاد

«اكتشاف إيران»... رحالة إسبانية لبلاد الحدائق والسجاد

تسعى الرحالة والكاتبة الأكاديمية الإسبانية باتريثيا ألمارثيجي في كتابها «اكتشاف إيران» الصادر أخيراً عن دار «العربي» بالقاهرة، ترجمة آية عبد الرحمن أحمد، إلى تقديم وجه آخر غير معروف لهذا البلد بعيداً عن السياسة وصخبها. وتركز ألمارثيجي على فكرة الحدائق التي تعشقها وتبحث عنها في كل بلد تزوره، وكيف أنه توجد وشائج وروابط بين الحديقة بصفتها إحدى مفردات الطبيعة وبين السجاد كونه إبداعاً بشرياً في الثقافة الإيرانية. ويعدّ الكتاب خلاصة زياراتها إلى الجمهورية الإيرانية خلال سنوات 2005 و2014 و2017.

تقول المؤلفة إنها لم تحتج أبداً إلى حديقة بالقدر نفسه الذي احتاجت لها في إيران بسبب مدنها المرهقة ومناطقها الجافة والقاحلة وسلاسل جبالها الخانقة، فالحدائق تنشر هدوءاً مريحاً للروح، ومن الغريب أنها وصلت إلى رمزية تلك الحدائق من خلال السجاد. كانت روعة تكوين السجاد الإيراني تذكّرها بالحدائق ومن خلال البحث فيه تعرفت على معناها الروحي، فيجب أن يبدو السجاد كحديقة والحديقة تبدو كسجادة، ويجب أن تتمتع كلتاهما بهذا الجمال المثالي الذي يذكرنا بالجنة.

تلاحظ باتريثيا أن الحدائق الحقيقية الفارسية تعرف باسم «شار باغ» وهو نظام تخطيط رباعي الأضلاع تم تصميمه في الهند المغولية وتتمتع الحديقة فيه بترتيب هندسي صارم، حيث تحتوي على قنوات وأحواض مليئة بالزهور والتي تعدّ نموذجاً لما يسمى «سجادات الحديقة» مع توظيف الكثير من العناصر المكملة، مثل أشجار الفاكهة والظلال، والماء الجاري والحماية بالجدران المحيطة، وتجميل المباني الغنية بالزخارف والخضرة المبعثرة.

وتشير إلى أنه في رحلتها إلى مدينة «كاشان» زارت واحدة من أشهر الحدائق في البلاد وهي حديقة «فين»، إنه مكان للترفيه والاستجمام يرمز جريان الماء فيه إلى الانتقالية والتجديد وتعبر الانعكاسات على سطح الماء عن الانتعاش. وحين جاء الزوار المحليون للاستمتاع بالمساء وتناول الوجبات والتجول في الحديقة، تراجعت الرؤية الرمزية والمشرقة وأصبحت البلاطات الزرقاء والقنوات وألعاب المياه وأشجار السرو أكثر كآبة بعض الشيء.

عندما بدأت الشمس تغرب، انحدرت المؤلفة بصحبة مرافقيها عبر الجبال البنية المتعرجة. كان يبدو أنهم يغوصون في الطريق ويحيطون أنفسهم بالجبال نفسها التي تظهر في الرسومات الصغيرة. هنا بدأت تتذكر كلمات المخرج السينمائي الإيراني عباس كياروستامي في مقابلة قرأتها له قبل سنوات حين قال إنه رغم أن إقامته كانت في طهران فإنه يقضي الكثير من الوقت في منزله الريفي في «كرمانشاه»، فهناك يقترب من الطبيعة ويحضر تعاقب الفصول الأربعة. عندما يشعر بالسرعة المعاصرة المفرطة وبسرعة تغير العالم يستطيع أن يركز على شيء واحد يظل ثابتاً وهو الطبيعة، على حد تعبيره.

وتصف المؤلفة قرية «أبيانه» الجميلة الواقعة بين الجبال المهجورة المعتادة في البلاد ويزورها الكثير من السياح الإيرانيين وبعض الأجانب أيضاً: كانت حمراء اللون تماما مثل الطين وظلال الطوب للمنازل، كما هو الحال في كثير من المناطق الريفية وبدا السكان أكثر استرخاءً وارتياحاً مقارنة بالمدينة، وكان لباسهم يعكس هذا الاسترخاء وهي ملابس تقليدية زاهية الألوان وأوشحة مطبوعة بأزهار على رؤوس النساء وبناطيل سوداء ولامعة واسعة على سيقان الرجال تكشف الكاحلين.

وباتريثيا ألمارثيجي، إلى جانب مؤلفاتها في مجال أدب الرحلات، هي كاتبة إسبانية بارزة وهي أستاذة للأدب المقارن. ولدت في سرقسطة عام 1969 ونشرت العديد من المقالات في صحف بارزة. نشرت كتابها الأول تحت عنوان «الرسام والمسافر» 2011 وفي 2016 صدر كتابها الثاني «مسافرة عبر آسيا الوسطى»، كما أصدرت الكثير من الروايات أشهرها «ذكريات الجسد»، 2017.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».