خيّمت عبارة «أولا أولا» الترحيبية طيلة أيام ألعاب دورة برشلونة الأولمبية 1992، التي استقطبت اهتمام البشرية، وعُدّت تحوّلاً بارزاً في الحركة الرياضية العالمية.
شهدت الدورة عودة جنوب أفريقيا بعد غياب 32 عاماً، وكوبا بعد غياب 20 عاماً، وجاءت ألمانيا موحّدة بعد سقوط جدار برلين، وكذلك اليمن، وودّعت أسرة الدول المستقلة الألعاب، حيث شاركت بوصفها مجموعةً واحدةً للمرّة الأخيرة.
وجاءت جمهوريات البلطيق الثلاث (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا)، التي استقلت بعد زوال الاتحاد السوفياتي في ديسمبر (كانون الأول) 1991.
وفي حين عادت ألبانيا بعد عزلة في ظل القيادة الستالينية، حضرت جمهوريات الاتحاد اليوغوسلافي كل على حدة بعد تفكّكه، ووحده وفد صربيا ومونتينيغرو سار خلف الراية الأولمبية، فالكيان الجديد لم يكن بلور بعد مدى محيطه وحدوده في ظل النزاع الناشب مع البوسنة، والعقوبات الدولية التي تحاصره.
وحصدت المجموعة المستقلة (روسيا، وأوكرانيا، وبيلاروسيا، والجمهوريات الآسيوية) 45 ذهبية، وتقدّمت على الولايات المتحدة التي نالت 37، وألمانيا التي نالت 33.
ونال كل فائز من المجموعة المستقلة 3 آلاف دولار فقط، وهذا ما دفع نجم الألعاب بطل الجمباز فيتالي شيربو إلى القول: «نحن في حاجة للمال أكثر من الشهرة والمجد». وبعد الألعاب تفرّق عشاق كثر من نجوم ومدربين، وهاجروا إلى بلدان تقدّم لهم الجنسية والفرص الذهبية.
أما الميداليات العربية، فتميزت بتتويج خليجي للمرة الأولى من خلال فوز القطري محمد سليمان ببرونزية سباق 1500 متر. في المقابل، استمرّ لقب سباق 10 آلاف متر مغربياً، إذ تسلم خالد السكاح الراية من إبراهيم بوطيب، وتألقت الجزائرية حسيبة بولمرقة في سباق 1500 متر، محققة إنجازاً ذهبياً غير مسبوق لبلادها.
وكان أوفر الرياضيين ألقاباً في برشلونة البطل البيلاروسي في الجمباز فيتالي شيربو الذي انتزع 6 ذهبيات، وحصد كل من السبّاحَين الروسي يفغيني سادوفيي، والمجرية كريستينا إيغيرسيغي 3 ذهبيات في سباقات 100 و200 متر ظهراً و400 متر متنوّعة، وحصد مواطنها تاماش دارنيي ذهبيتَي 200 و400 متر حرة، كما برز الروسي ألكسندر بوبوف على حساب الأميركي مات بيوندي في 50 و100 متر حرة.
وعوّض الأميركي الفذ كارل لويس استبعاده في سباقه المفضل 100 متر، بفوزه بذهبيتين، الأولى خلال احتفاظه بلقب الوثب الطويل للمرة الثالثة على التوالي، والثانية من خلال مشاركته فريق التتابع 4 مرات 100 متر في تحطيمه الرقم القياسي العالمي (37.40 ثانية)، رافعاً عدد ميدالياته الأولمبية الذهبية إلى 8 ميداليات.
وقهر البريطاني لينفورد كريستي الأميركيين في سباق 100 متر، وهو في الثانية والثلاثين من عمره!.
وسقط الأوكراني سيرغي بوبكا في القفز بالزانة، وفشل الكندي بن جونسون العائد سعياً للتكفير عن ذنوبه، في بلوغ نهائي 100 متر.
وتميّزت مسابقة الهوكي على العشب بوجود أندرياس كيلر ضمن المنتخب الألماني الذي حصد الميدالية الذهبية، إذ مثّل الجيل الثالث من «العائلة الأولمبية»، فجدّه أوين فاز بالفضية في دورة برلين 1936، ووالده فاز بالذهبية في دورة ميونيخ 1972. وحصد البريطاني ستيف ريدغريف ذهبيته الثالثة في التجديف بعد عامَي 1984 و1988.
وعلى صعيد الألعاب الجماعية، كانت مسابقة كرة السلة هذه المرة هي الأبرز، وبفضل فريق الحلم الأميركي «دريم تيم» تحوّل قصر الرياضة الذي استضاف المباريات إلى قصر الأحلام، إذ إن الحلم أصبح حقيقة، وأثبت لاعبو الولايات المتحدة المحترفون أن كرة السلة الحقيقية هي ما وراء الأطلسي، وقد سُرّ المنظمون لقاء نفاد البطاقات، أما الحضور فكان معظمهم يحمل آلات التصوير لترسيخ ذكرى تلك المباريات العالمية.
ومشاركة أقوى فريق عرفه تاريخ كرة السلة، الذي كان معجزة. ومثل هذه المعجزة لم تكن ممكنة قبل إلغاء الحواجز الأولمبية أمام المحترفين. وعدّ كثر أن مشروع جمع كبار لاعبي كرة السلة في الولايات المتحدة في منتخب حقيقي ضرب من الجنون، لأن إقناع نجوم يتقاضون مبالغ خيالية كل سنة لإطالة موسمهم، في مقابل إنجاز غير مضمون مادياً كان صعباً، مع العلم أن تقديم مباريات مجانية كان وارداً.
لكن المتحمسين للمشروع راهنوا على الغرور الأميركي الذي سيرضيه أن يتابعه ملايين المشاهدين، عبر شاشات التلفزة، ومناسبة للثأر من هزيمة ميونيخ عام 1972 أمام السوفيات الذين انتزعوا الميدالية الذهبية، ومن الإهانة التي لحقت بهم في سيول، إذ لم يحتل الأميركيون سوى المرتبة الثالثة.
منذ مباراة الافتتاح أمام أنغولا بدت الهوة سحيقة بين لاعبي الولايات المتحدة الذين بدوا كأنهم من كوكب آخر، والآخرين، فالفارق الواضح في مصلحة «دريم تيم» كان يزداد مثل البرق، وبلغت النتيجة النهائية 116 - 48.
وفي المباريات التالية، بدا وكأن الخصوم يواجهون جبالاً من العضلات والحديد، وهكذا سجّل المنتخب الأميركي أمام المنتخبات كلها أكثر من 100 نقطة، وحتى المنافس العنيد، المنتخب الكرواتي، لم ينجُ من هذا الرقم في المباراة النهائية (117 - 85).
وسجل مايكل جوردان 22 نقطة للمنتخب الأميركي في المباراة النهائية، وسجل كل من تشارلز باركلي وباتريك إيوينغ 17 نقطة.
وضمّ «فريق الحلم» ماجيك جونسون المصاب بالإيدز، الذي صفق له المتفرجون بحرارة وهو يلوح بالعلم الأميركي، وقال إن «لا شيء يوازي الميدالية الذهبية».
وخلال الألعاب، احتل أفراد «دريم تيم» فندق «أمباسادور» الذي خُصّص لهم ولأقاربهم، وكانوا يتسلّون بالتنزه في برشلونة، وبرياضة الغولف التي تألق فيها جوردان.
دراماتيكياً، كانت العدّاءة الأميركية غايل ديفرز مرشّحة لإحراز المركز الأول في سباق 100 متر حواجز، وهي انطلقت بقوّة وتصدّرت في الحاجز الرابع، لكنها اصطدمت بالحاجز الأخير وفقدت توازنها حتى خط النهاية، الذي وصلته بسقوطها على الأرض محتلة المركز الخامس.
وأُصيب البريطاني ديريك ريدموند أبرز المرشحين للفوز بسباق 400 متر، في الدور نصف النهائي وسقط على المضمار، بيد أنه نجح في الوقوف وحاول إكمال السباق مترنحاً والدموع في عينيه من شدة الآلام، وتوجّه والده جيم صوبه واتكأ عليه حتى الأمتار الأخيرة من السباق فتركه يدخل وحده إلى خط الوصول.
ولعل أبرز الحاضرين للدورة كان رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، خوان أنتونيو سامارانش، فهو على رأس الحركة الأولمبية وهرمها منذ عام 1980، ولا بد أن يفتخر باحتضان برشلونة، مسقط رأسه، دورة «الوحدة الأولمبية» التي استطاعت استيعاب التغيرات التي طرأت على الساحة السياسية العالمية، من تفكك دول وانهيار معسكرات والانفراط الدموي للاتحاد اليوغوسلافي... وليس من قبيل المغالاة القول إن اللجنة الأولمبية الدولية استطاعت أن تحقّق في «الأولمبياد الخامس والعشرين»، الذي أنهى عهداً من المقاطعات، ما عجزت عنه منظّمة الأمم المتحدة.
ودورة سيول 1988، سُمّيت حينذاك «دورة السوفيات والمنشطات». فقد تألق الرياضيون السوفيات فيها، وأيضاً تألق الذين دعّموا قدراتهم بمواد منشّطة. أما دورة برشلونة فالتألق فيها كان لاثنين: سامارانش وبرشلونة، فهي دورة العاصمة الكاتالونية وابنها البار.