أوروبا... الثقافة في قبضة اليمين المتطرف

بعد موجة صعوده في أكثر من بلد

مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف
مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف
TT

أوروبا... الثقافة في قبضة اليمين المتطرف

مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف
مظاهرة المانية ضد صعود اليمين المتطرف

بكثير من القلق والتوجّس تستقبل النخبة الفكرية في أوروبا أخبار تقدّم الآيديولوجيات الشعبوية سياسياً، ليس بسبب قيمها المبنية على التمييز العنصري والكراهية، وضيق الأفق، وخطر الانغلاق على الذات فقط، بل بسبب تغييب القضايا الثقافية في برامجها أيضاً. والواقع أن التجارب السابقة للدول التي وصلت فيها هذه التيارات إلى مراكز السلطة والنفوذ فيها من العِبَر ما يبعث القلق فعلاً، ففي إيطاليا مثلاً، حيث وصل تكتّل «فراتيلي دي إيطاليا»، أو «إخوة إيطاليا»، إلى الحكم منذ نحو سنتين، بدأت معالم مشروع «إنهاء هيمنة اليسار على القطاع الثقافي» تتضح جلياً.

عدة تقارير صحافية أكّدت هذا التوجه، من بينها «لوموند» الفرنسية، التي نقلت في مقال بعنوان «في إيطاليا اليمين يقتحم الثقافة» تصريحاً لرئيسة الوزراء ميلوني، جاء فيه ما يلي: «أريد أن أحرّر الثقافة الإيطالية من النظام الذي لا يسمح لأي أحد بالعمل فيه إلا إذا كان من معسكر سياسي معين»، في تلميح صريح منها إلى اليسار.

وعلى أرض الواقع هذا يعني تعزيز وجود شخصيات قريبة من اليمين المتطرف على رأس المؤسسات الثقافية الواسعة النفوذ، على غرار «بينالي البندقية» مثلاً، وهي واحدة من أكبر الفعاليات الثقافية والفنية في البلاد، التي أصبح يديرها بيتراجيلو بوتافوكو، وهو إعلامي سابق من اليمين المحافظ، أو رناتا مازانتيني، التي تسلّمت إدارة متحف روما الكبير للفن المعاصر.

مجلة «لوكوتديان دو لا» الفرنسية كشفت في طبعة يونيو (حزيران)، في مقال بعنوان: «عندما يصل اليمين المتطرف إلى الحكم»، أن الحكومة الإيطالية شرعت في تطبيق «الأفضلية الوطنية» في القطاع الثقافي، ففي الفترة ما بين ديسمبر (كانون الأول) 2023، وفبراير (شباط) 2024، تم إنهاء مهام 10 من مديري المؤسّسات الثقافية من الأجانب، معظمهم ذوو خبرة كبيرة، مثل الفرنسيين: سيلفان برجي (متحف نابولي)، وستيفان ليسنر (مسرح سان كارلو)، ودومينيك ميير (دار أوبرا سكالا)، إضافة للأنجلو كندي جيمس برادبورن (متحف ميلانو)، أو الألمانية سيسيلي هولبرغ (غاليري دال أكاديميا لفلورنسا).

المشكلة، حسب كاتب مقال بمجلة «تيلي راما» الثقافية، بعنوان «جورجيا ميلوني تستعيد السيطرة على متاحف إيطاليا»، ليست في تكليف كوادر إيطالية بهذه المهام، فمن حق كل حكومة تطبيق البرنامج الذي انتُخبت من أجله، المشكلة هي أن نصف هذه الشخصيات اختيرت بسبب ميولها المعروفة لليمين المتطرف، والنصف الآخر يفتقد للخبرة الكافية لإدارة مؤسسات متحفية بهذا المستوى، وكل ما نجحت فيه وزارة الثقافة في حكومة ميلوني بتركيزها على مسألة «الجنسية»، هو التهرب من المشكلة الأساسية لقطاع المتاحف في إيطاليا، وهو نقص الموظفين، وخصوصاً في جنوب البلاد.

مجلة «لوكوتديان دو لا» تحدثت أيضاً عن «جو خانق» بالنسبة للمبدعين، الذين أصبحوا عرضة للمضايقات والرقابة، على غرار الكاتب أنطونيو سكوراتي، الذي مُنع من إلقاء خطاب بمناسبة عيد الاستقلال، كان من المنتظر أن يهاجم فيه النظام الفاشي، إضافةً للدعاوى القضائية التي رفعتها جهات رسمية ضد بعض المثقفين، أمثال كاتب رواية «غومورا» روبيرتو سافيانو، والمؤرخ لوشيانو كونفورا.

أما تمويل المشاريع الثقافية والفنية فإن نفس المصدر يكشف أنها انخفضت بنسبة 40 في المائة عن الأعوام السابقة، وفي المقابل أعلن وزير الثقافة عن إنشاء صندوق بقيمة 52 مليون يورو، يموّل بصفة حصرية الأعمالَ التي تمجّد «تاريخ الهوية الوطنية الإيطالية».

وفي المجر التي وصل فيها فيكتور أوربان إلى الحكم منذ 14 سنة، تنتهج الحكومة اليمينية المحافِظة سياسة متناقضة للغاية، فهي من جهة تسعى جاهدةً إلى تطوير البنية التحتية الثقافية للبلاد، حيث تم تشييد متاحف جديدة، كمتحف التصوير الفوتوغرافي، والهندسة المعمارية، وترميم متحف بودابست للفنون الجميلة.

ومن جهة أخرى تفرض رقابة شديدة على التظاهرات والأعمال الفنية، تحت شعار الدفاع عن «الثقافة الأم»، حيث حاولت جهات رسمية منع افتتاح معرض مخصّص للفنانة فريدا كاهلو، بحجّة الدعاية للشيوعية، كما كانت دار الأوبرا التابعة للقطاع العمومي وراء إلغاء 15 عرضاً من المسرحية الراقصة «بيلي إليوت»، بدعوى تحريضها على المثلية.

الرقابة السائدة في القطاع الثقافي المجري أصبحت - كما تصفها المؤرخة المجرية غابرييلا أوهل على صفحات مجلة «لوكوتديان دو لا» - «هيكيلية»، بعد أن أحكمت الحكومة قبضتها على المؤسسات الثقافية، عن طريق توزيع الدعم المادي أو حجبه، «على الورق يبدو المبدعون ومؤسساتهم وكأنهم أحرار، بينما هم في الواقع معرّضون لرقابة ذاتية غير مسبوقة، وشحّ كبير في الموارد، فهم إن لم يجدوا التمويل اللازم لتنظيم نشاطاتهم بأنفسهم فهي لن تتحقق، هذا كان هدف الحكومة منذ أن وصلت عام 2010، وقد وصلت إليه اليوم».

ورغم أن المجر من أكثر الدول دعمًا للقطاع الثقافي في أوروبا، حيث خصّصت له في 2023 نسبة 4 في المائة من ناتجها الداخلي الخام، (مقابل 1 في المائة لفرنسا)، فإن هذا الدعم يذهب أساساً للمؤسسات التي يروّج أصحابها للخطاب الشعبوي، وما حدث مؤخراً مع مؤسسة «أم سيسي»، التي يرأسها أحد مستشاري فيكتور أوربان، التي استولت على أكبر شركة نشر وتوزيع للكتب في المجر، يوحي بأن القطاع الثقافي يتوجه تدريجياً نحو مركزية كاملة.

أما البرنامج السياسي للتجمع الوطني الفرنسي فهو لا يخصّص للثقافة إلا مساحة ضئيلة، حتى إن مصطلح «الثقافة» نفسه مختفٍ تماماً، وبدلاً من ذلك يُطرح مفهوم «التراث» الذي يركّز على معالم الماضي، ويهدف إلى تقديس «الهوية الوطنية»، حارماً الثقافة من طابعها الحي المتحرك.

برنامج الحزب يَعِد بتخصيص مليار يورو (بدلاً من 330 مليوناً حالياً) لإعادة ترميم المعالم التاريخية للبلاد، مع التركيز على المعالم الدينية، كالكنائس والأديرة، وهي المهمة التي وُصفت، حسب التعبير الذي ورد في برنامج الحزب، بـ«الأساسية»؛ للوصول إلى ما يسميه تيار اليمين المتطرف بـ«التقويم الأخلاقي للبلاد».

حزب التجمع الوطني يُروج أيضاً لمنع ذوي الجنسية المزدوجة من تولّي مسؤوليات كبيرة في القطاع الثقافي، حيث يريدها حكراً على الفرنسيين المتأصّلين؛ للتعبير عن رفض المغايرة والاختلاف، وقد كان نوّابهم قد شنّوا هجوماً كبيرًا على وزيرة الثقافة السابقة ريما عبد الملك، وأيضاً على خليفتها رشيدة داتي، ووعدوا بتفعيل «الأفضلية الوطنية» في القطاع الثقافي، كما فعلت الحكومة اليمينية في إيطاليا.

وفي مقال بعنوان «أي مكان للثقافة في برنامج التجمع الوطني؟»، يشرح الباحث إيمانويل نيغري، من المعهد الوطني للأبحاث (سي إن آر إس) ما يلي: «لليمين المتطرف توجّه ليبرالي، يظهر جلياً من خلال سياسته الثقافية، فهو لا يحبّذ دعم المؤسسات بالمساعدات الحكومية، وبالأخص تلك التي تسعى لتثمين العناصر الثقافية الأجنبية، وفي المقابل فهو يدعوها إلى تنمية تمويلها الذاتي بالرعاية الإشهارية والخصخصة ورفع الأسعار».

الأهم، كما يشرح الباحث، هو ما لُوحِظ من تدخّل الشخصيات السياسية لفرض وجهة نظر معينة على كوادر القطاع الثقافي، مذكّراً بأن أطرافاً رسمية في عدة بلديات، يشكّل فيها اليمين المتطرف الغالبية الساحقة، تضغط باستمرار على المكتبات العامة، من أجل انتقاء الإصدارات التي تروّج لقيم اليمين المتطرف، كما تتدخّل لمنع عدة تظاهرات فنية ثقافية معاصرة، كالفنون التشكيلية، وموسيقى الراب الشبابية، ويتوقع المراقبون أيضاً أياماً صعبة للجمعيات الصغيرة التي تمثّل التعددية الثقافية، والتي ستقطع عنها المساعدات تحت مسمى «الأفضلية الوطنية».



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.