لين ستالسبيرغ: أوروبا لم تتخلص من نظرتها الرجعية للمرأة

الكاتبة النرويجية قالت لـ « الشرق الأوسط » إنها تسعى إلى تكوين وعي ثقافي نقدي لفهم ظواهر عالمنا

لين ستالسبيرج
لين ستالسبيرج
TT

لين ستالسبيرغ: أوروبا لم تتخلص من نظرتها الرجعية للمرأة

لين ستالسبيرج
لين ستالسبيرج

تعمل الكاتبة النرويجية لين ستالسبيرغ في عدد من الصحف والمؤسسات الإعلامية منذ عام 2002 وهي حاصلة على الماجستير في علم الاجتماع من كلية لندن للاقتصاد. صدر لها كتابان مهمان الأول بعنوان «هل أنا حرة» والثاني «كفى - كيف تدمر الليبرالية الجديدة البشر والطبيعة»، وقد صدرت ترجمتهما للعربية عبر دار «صفصافة» بالقاهرة. هنا حوار معها - عبر الإنترنت - حول آرائها التي تبدو صادمة، خاصة في كتابها الثاني، وهموم الكتابة عموماً:

> لتكن البداية من كتابك الأخير «كفى».... ما الذي تقصدينه تحديداً بمصطلح «الليبرالية الجديدة»؟

- المصطلح له مفاهيم وتعريفات مختلفة، لكن الملاحظ أن كثيرين يستخدمونه لوصف النظام الاقتصادي الذي أنشأته رئيسة وزارة بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر من جهة، والرئيس الأميركي رونالد ريغان من جهة أخرى، ويقصدون به فكرة تطبيق «اقتصاد السوق» على كافة مناحي الحياة، بما في ذلك دور رعاية المسنين ورياض الأطفال. وبصرف النظر عن مدى دقة التعريفات الأكاديمية، فإن ما يهمني هنا هو الرؤية الثقافية التي تقف وراء المصطلح، حيث غاب عنه البعد الإنساني تماماً، وطغت عليه أفكار التسويق والاستثمار في مخاوفنا وأحلامنا وهواجسنا لتحقيق المزيد من الأرباح الهائلة للشركات الكبرى التي تحولنا نحن البشر إلى مجرد أرقام.

> ألا يمكن أن تكون نظرتك محملة ببعض المبالغة بسبب خلفيتك الفكرية اليسارية؟

- ليت الأمر كان كذلك، على الأقل كانت الصورة ستصبح مقبولة أو طبيعية نوعاً، ما لكن للأسف الشديد كل شيء من حولنا يثبت أن الواقع ليس وردياً كما يتصور البعض، وأن توصيفي للتأثير الكارثي للنظم الاقتصادية الحديثة لا يحمل أي شيء من المبالغة.

> هل لديك دلائل ملموسة، أو على الأقل مؤشرات على صحة ما تذهبين إليه؟

- الدلائل والمؤشرات أكثر من أن تحصى، يكفي على سبيل المثال أن نطالع الدراسات الحديثة في مجال علم النفس السلوكي والتي تؤكد أن كثيراً من مسببات القلق المرضي والاضطرابات والخوف والعجز والشعور الدائم بالتقصير وعقدة الذنب والإحساس بأنك لم تفعل ما ينبغي عليك فعله بالشكل الأمثل، كلها أعراض نابعة كلياً أو جزئياً من بيئة العمل التي فرضها اقتصاد السوق على الموظفين في كل مكان ووضعهم تحت ضغوط رهيبة نتيجة ما يسمى التقييمات المستمرة لأدائهم والتي تتضمن تهديداً خفياً طوال الوقت بفصلهم من العمل أو على الأقل تخفيض مستحقاتهم. هناك كاتبة سويدية تدعى نينا بيورك لها كتاب بعنوان «سعادة أبدية» تذهب فيه إلى أن السعادة تبدأ حين يصر المرء على تحقيق أحلامه قائلاً: «أنا غير راضٍ، أريد شيئاً آخر»، ولكن حتى أحلامنا مفروضة علينا نتيجة توقعات المجتمع من حولنا، فهناك صورة نمطية للسعادة تتمثل في البيت الأنيق والضاحية الهادئة والراتب المجزي والسيارة الفاخرة والزوجة الجميلة والمدخرات الكبيرة بالبنك، لكن هل حصلنا على السعادة؟ أبداً لم يحدث.

> أليس من المدهش أن من يقول ذلك أنت، ابنة النرويج والدول الإسكندنافية التي ينظر كثيرون إليها باعتبارها موطن الثراء والرفاهية؟

- هذه مشكلة أخرى مهمة تتعلق بالصورة النمطية والأفكار المغلوطة بين الشرق والغرب، فالصورة الخارجية البراقة لأوروبا كثيراً ما تخدع غير الأوروبيين، لا سيما في مناطق الشرق الأوسط، التي تعاني بشدة في ملفات اجتماعية وسياسية. والحق أننا أيضاً نعاني بقوة في ملفات كثيرة مثل جريمة الاضطهاد العرقي، الذي يستهدف الوافدين من الدول الفقيرة، وكذلك عدم العدالة في الأجور بين الجنسين، فضلاً عن الأدوار والتوقعات المبالغ فيها الملقاة على عاتق النساء بشكل ظالم، ناهيك عن صعود اليمين المتطرف الذي يحاول تغذية مشاعر الكراهية وقتل ثقافة التسامح. لا تظنوا أننا لا نعاني، وإياكم أن تتصوروا أننا نعيش في جنة لمجرد أن شوارعنا نظيفة وعيوننا ملونة.

> هل هذا هو السبب الذي جعلك تقدمين على نشر كتابك الصادم والمفاجئ الذي يحمل عنوان «هل أنا حرة»؟

- بالضبط، فإحدى تجليات الانطباعات المسبقة والمفاهيم المغلوطة أن المرأة في أوروبا نالت حريتها واستقرت أمورها وانتهى الأمر، وهذا غير صحيح على الإطلاق. وهذا ما جعلني في مقدمة الكتاب أطرح تساؤلات حائرة من نوعية: من أي شيء سيحررونني؟ وإلى أين سيأخذونني؟ وهل حصلت الآن على التحرر؟ أهذا هو المجتمع المثالي الذي كان مستهدفاً؟ أم وأب يعملان بدوام كامل بينما يبقى الأطفال في روضة الأطفال من ثماني إلى تسع ساعات؟ أم أن المستهدف كان شيئاً مختلفاً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هو؟

> أليست مفارقة لافتة أن تصدر رواية في مصر عام 1954 بعنوان «أنا حرة»، التي يقول مؤلفها إحسان عبد القدوس: «ليس هناك شيء يسمى الحرية، وأكثرنا حرية هو عبد للمبادئ التي يؤمن بها، وللغرض الذي يسعى إليه، إننا نطالب بالحرية لنضعها في خدمة أغراضنا... وقبل أن تطالب بحريتك اسأل نفسك: لأي غرض ستهبها؟» ثم تطرحين أنتِ بعد 70 عاماً عنواناً وتساؤلات مشابهة؟

- لم أقرأ العمل أو أطلع على رؤية الكاتب لكن مصر بلد كبير ولها ثقافة ضاربة في عمق التاريخ، ونالت المرأة في عهد الفراعنة حقوقاً وامتيازات غير مسبوقة على مستوى العالم. هذه حقائق تاريخية معروفة، ولا أستغرب ما جاء في الرواية. مرة أخرى يثبت التاريخ أن هموم البشر وهواجسهم وأحلامهم متقاربة للغاية في جوهرها، فالكل يبحث عن الحرية والكرامة والعدالة وبالفعل كما قيل، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.

> فيما يتجلى انعدام الحرية لدى المرأة الأوروبية بشكل محدد... هل من مثال؟

- ببساطة شديدة كيف يمكن للمرأة أن تكون حرة وهي مقيدة بأغلال العمل ومتطلباته لساعات طويلة وكذلك رعاية المنزل وشؤونه بما فيه الأطفال؟ هذا مجرد مثال بسيط. هنا تبرز معضلة الضمان الاجتماعي الذي توفره الدولة للعاملين والعاملات فقط، مما أجبر كثيراً من النساء على الخروج للعمل في وظائف تافهة ذات مرتبات هزيلة فقط للحفاظ على الضمان الاجتماعي الذي سيعينهن على الحياة في شيخوختهن بما يشمله من معاش شهري وتأمين صحي وغيره. كما أن هناك نساءً كثيرات اضطررن إلى العمل بنظام الدوام الجزئي حتى تتوفر لهن مساحة من الوقت لرعاية أطفالهن والقيام بالأعمال المنزلية.

هناك مثال آخر يتعلق بالأطفال الذين يعانون هم أيضاً بشدة، فهم مضطرون إلى الاستيقاظ مبكراً جداً حتى تضعهم أمهاتهم في الحضانات للحاق بموعد عملهن، وكثيراً ما يتعرضون لنسيان أحد والديهما المرور عليهم لاصطحابهم إلى المنزل، أو التعرض لأمراض كثيرة نتيجة للإهمال أو الاختلاط بأطفال مصابين بعدوى ما، وكل ذلك لأن ذويهم مضطرون إلى وضعهم في حضانات.

وتبرز مشكلة أخرى في هذا السياق تتعلق برعاية المسنين، فبعد أن كانت المرأة تقوم بهذا الدور بشكل رئيسي على مدار العصور في جو إنساني حميم، اختلف الوضع حالياً بسبب الضغط الاقتصادي مع خروج المرأة بكثافة واضطرار الكثير من النساء إلى العمل من أجل ضمان وضع اقتصادي آمن وثابت لها. أصبحت الحاجة ملحة إلى إنشاء دور للمسنين لإيوائهم بها، حيث لا يوجد من يقوم على رعايتهم الصحية ومصاحبتهم بشكل إنساني في شيخوختهم.

> هل تقصدين أن المرأة الأوروبية لم تحصل على كامل حقوقها بعد؟

- الحقيقة القبيحة التي يرفض كثيرون مواجهتها هي أن النظام الأوروبي، بوجهيه السياسي والاقتصادي، لم يتخلّص في جوهره من النظرة الرجعية المتخلفة للمرأة وكأن مهمّتها الأولى هي القيام بالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال. وبالتالي، وتأسيساً على هذا الاعتقاد الراسخ تحت الجلد، حين تخرج إلى العمل تحصل غالباً على رواتب أقل، لمجرد أنها أنثى ويفوقها الرجل في تلك الجزئية لمجرد أنه ذكر.

> ألا يتهمك البعض بالتهويل والمبالغة؟

- حدث هذا طوال الوقت وأرد على المشككين دائماً بعبارة واحدة: انظروا إلى الحقائق على الأرض، راجعوا الأرقام والإحصائيات، إنها لغة صادقة لا تعرف الكذب أو التجميل. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما يقرب من نصف الأمهات في النرويج يعملن بدوام جزئي، ومعظم النساء يعانين من ضيق الوقت في ظل تعدّد الأدوار المطلوبة منهن. وتفاقمت في السنوات الأخيرة مشكلة العنف اللفظي والجسدي تجاه النساء وزادت نسبة التضخم، مما أثر على الجميع وخصوصاً المرأة. هذا لا يعني أن النرويج تعاني أزمة حادة، فالأوضاع بشكل عام مريحة وجيدة، لكن هذا لا يعني أننا نعيش في الجنة.

> تنطلقين من اليسار كخلفية فكرية... ما الذي يعنيه لك ذلك؟

- لا يعنيني في نهاية الأمر سوى تكوين وعي ثقافي نقدي في تناول ظواهر عالمنا الحديث وهو ما يوفره لي اليسار.

> هل انضممت إلى أحزاب بعينها؟

- أنا كاتبة أعبر عن آرائي بالمقالات والمؤلفات ولا تعنيني الأحزاب السياسية إطلاقاً ولم أنضم إلى أي منها.

> زرتِ مصر في يناير (كانون الثاني) الماضي على هامش فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب، حيث أقيم لك حفل توقيع وندوة...كيف كانت أصداء تلك الزيارة؟

- زيارة لا تُنسى، القاهرة مدينة شديدة الحيوية تشعرك بأنك على قيد الحياة وتعج بالأفكار والمناقشات الملهمة التي استفدت وتعلمت منها كثيراً.



محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي
TT

محمود الرحبي: لا أكتب لنيل جائزة واللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط

محمود الرحبي
محمود الرحبي

يعد الكاتب محمود الرحبي أحد أبرز الأصوات في خريطة السرد بسلطنة عمان. وعلى الرغم من أن بعض رواياته لا تتجاوز 60 صفحة، فهو يراهن «على التكثيف والشحنة الجمالية وجذب القارئ ليكون فاعلاً في النص»، كما يقول. من أعماله الروائية والقصصية «المموِّه» و«صرخة مونش» و«أرجوحة فوق زمنين» و«حديقة السهو»، ووصلت روايته «طبول الوادي» إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» في دورتها الحالية، هنا حوار معه حول تجربته الأدبية:

* في «طبول الوادي»، تستعيد خصوصية مجتمعات ريفية في قرى عمانية تكاد تبتلعها الجبال، كيف جعلت من الأصوات وسيلةً لرسم ملامح البشر والمكان في النص؟

- بالنسبة لرواية «طبول الوادي» التي ترشحت أخيراً إلى القائمة القصيرة لجائزة «كتارا» للرواية العربية المنشورة في دورتها الحالية، تعمدت اختيار «وادي السحتن»، المكون من قرى عدة وسط الجبال تمتاز بوفرة في الثمار، حتى سميت بـ«مندوس» عمان. و«المندوس» كلمة شعبية تعني الصندوق الثمين، كما اخترت بالمقابل حياً يُعدُّ في تلك الفترة مثالاً للتمازج وتعدد الألسنة والثقافات والطباع وهو «وادي عدي»، وعبر تفاصيل الأحداث نعرف لماذا اختار بطل الرواية «سالم» الحرية مقابل الجاه ومشيخة القبيلة حتى وإن جاع.

اهتممت بالتفاصيل كمقوم سردي، مثل الطرقات التي كانت في ذاك الزمن متربة وخشنة حتى في أحياء المدينة، والقرى كانت رهيبة وشاقة. أتذكر مثلاً أننا كنا لكي نشق بعض الطرق الصاعدة نضطر إلى وضع الحجارة داخل السيارة وقت الهبوط، حتى تحافظ على توازنها ولا تنزلق من المرتفعات. والأصوات هنا قد توحي بكمية الأغاني التي تشتمل عليها الرواية. هناك أيضاً أناشيد بعضها باللغة السواحلية الزنجبارية، ناهيك عن طبول الجوع التي تعرض لها بطل الرواية «سالم»، وقد اختار الحرية مضحياً بكل شيء وخرج من قريته حافي القدمين حاسر الرأس، وفي ذلك دلالة مقصودة.

* ألن يكون صادماً لبعض القراء التعرف على وجه آخر لـ«دول الخليج» من خلال قرى متقشفة يعاني أبناؤها من مستويات متباينة من الفقر والجوع والحرمان؟

- لا يخلو أي مجتمع من مفارقات، ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص. صحيح أن عمان بلد نفطي وعدد سكانه قليل لكنه في النهاية مجتمع متنوع، به طبقات ومستويات، به ثراء فاحش وبه فقر مدقع. ولست في سياق مناقشة الأسباب، إنما يمكن ذكر أمثلة، منذ فترة قريبة مثلاً سمعت عن قريب لي سُرّح من عمله، ولديه أبناء كُثر، التعويض لم يكن يكفيه لإعالة أبنائه، فاضطر إلى السير في الخلاء ليعود من هناك بأشجار يحرقها ليحولها فحماً يبيعه. تحول إلى حطّاب. وهذه الأمور لم نكن نسمع بها إلا في الحكايات.

* في مقابل القرية، تطل المناطق والمدن الأكثر تحضراً، وهى تحتوي، وفق تعبير الراوي، على «الضجيج الذي يُسمع الآن متداخلاً بين العربية والهندية والأفريقية والبلوشية... كيف ترى بعين الروائي هذا «الموزاييك» أو «الفسيفساء» الذي تحمله سلطنة عمان والمجتمع الخليجي عموماً بين طياته؟

- هذا الموزاييك يشكل ثراءً اجتماعياً تنتج عنه تفاعلات يمكن أن يستفيد منها القاص. لو فقط تأملنا تاريخ الأسواق العمانية، لحصلنا على ذخيرة مهمة، ناهيك عن الأغاني، سواء تلك المتعلقة بالأفراح أو حتى الأتراح. المهم هنا هو كيف تعبر عما هو موجود وليس تفصيل ما هو موجود. الكم يعدُّ انحرافاً عن طريق الأدب الذي من سماته البلاغة والاقتصاد. الكاتب الروسي نيقولاي غوغول اختصر في رواية «المعطف» تاريخ الخياطين في روسيا في عمل صغير، كان المعطف هو البطل وليس صاحب المعطف في الحقيقة. لكنه قدم عملاً هائلاً لا يمكن نسيانه. أتذكر حين قرأت «المعطف» أول مرة في التسعينات وكانت منشورةً كاملةً في مجلة «عيون المقالات» بكيتُ بحرقة. ولحظة التأثر الصادقة هذه لا يمكن أن يقدمها لك إلا كاتب عظيم بحجم غوغول.

* جاءت روايتك «المموِّه» قصيرةً إلى حد الصدمة حتى أنها تقع في أقل من 60 صفحة، كيف ترى مسألة «الحجم» وتأثيرها في استقبال وتصنيف الأعمال الأدبية؟

-الحجم عادة ليس مقياساً. رواية «الليالي البيضاء» لدوستويفسكي رواية قصيرة لكن لا تقل أهمية وذكراً عن رواياته الكبيرة. الأهم في هذا السياق هو التأثير. وسواء كُتب على الغلاف رواية أو «نوفيلا»، يظل هذا الأمر يدور في قلة الحجم. ثمة مواضيع من الأفضل تقديمها قصيرة خصوصاً تلك القصص التي تعتمد على اللعب. وحين أقول قصصاً فإنه حتى الرواية كانت تسمى قصة، فالقصة عنصر أساسي في السرد، سواء كان هذا المسرود قصة قصيرة أو رواية.

* هل أردت أن تحرر فكرة السرد الروائي من «المطولات» التي أثقلته مؤخراً أعمال تتجاوز 400 أو 500 صفحة دون دواعٍ فنية؟

- لم أكن أقصد حين كتبت سوى التعبير بأقل الكلمات وأحياناً ألجأ لمجرد الإشارات. حالياً أعكف على نوفيلا بطلها شاب لا يتكلم، انطلاقاً من مقولة لبريخت مفادها أن الذي لا يتكلم لديه كلام كثير ليقوله، وهذا الكثير يعبّر عنه بمختلف حواسه، لا سيما العين وليس فقط الإشارات. قبل أن أكتب رواية «أوراق الغريب» دخلت في دورة للصم مدتها أسبوعان، وذلك لأنه ضمن شخصيات هذه الرواية امرأة خرساء. ورغم أن دورها ثانوي في الرواية، لكن كان من المهم فهم شعورها وطريقة تعبيرها بدقة وإلا أصاب النص نقص مخجل، ليس في عدد الصفحات، وهذا ليس مهماً كثيراً، لكن في الفهم... كيف تكتب عن حالة أو شخصية قبل أن تفهمها؟ هذا أمر في غاية الأهمية حسب وجهة نظري.

* تذهب رواية «المموه» إلى «المسكوت عنه» من خلال تجارة المخدرات وترويجها عبر الحانات... هل تعمدت ذلك وكيف ترى محاذير تناول مناطق شائكة في الرواية الخليجية؟

- طريقة تناولي للمواضيع السردية حذرة جداً، لكنه ذلك النوع من الحذر الذي لا يفرط بصياغة المادة الحكائية بقدر ما يكون في التعالي على مطابقتها حرفياً بالواقع. أستفيد من معطيات الواقع الموجودة والمباشرة لكن في حدود مدى خدمتها للعمل أدبياً. لو كنت أرغب في كتابة موضوع اجتماعي لما التجأت إلى الرواية. كنت سأكتب بحثاً حسب منهج علمي به تفاصيل ومسميات صريحة، لكن كتابة الأدب تتقصد أولاً إمتاع القارئ عبر اللغة والتخييل، ولا يمنع الكاتب أن يستفيد من كل معطيات الواقع وتنوعه طالما أن ما يكتبه يدور في فلك التخيل. وطالما أنه لم يستخدم كتابته لأغراض أخرى مثل تصفية الحسابات مثلاً.

*هل خلفيتك كاتبَ قصة قصيرة جعلتك تنحو إلى التكثيف والإيجاز وقلة عدد الشخصيات في أعمالك الروائية؟

- البداية كانت مع القصة وربما قبل ذلك محاولات شعرية بسيطة تحت تأثير قراءات لقصيدة النثر. بدأت الكتابة القصصية في سن مبكرة، نحو 19 عاماً، لكني لم أنشر مجموعتي القصصية الأولى إلا بعد الثلاثين ثم انتظرت 9 سنوات حتى أصدرت المجموعة القصصية الثانية «بركة النسيان». بعد ذاك توالت المجاميع القصصية، وكان ضمنها مجموعة «ساعة زوال» التي فازت بجائزة وطنية مهمة في مسقط، وهي جائزة السلطان قابوس في دورتها الأولى، بالنسبة للرواية فقد اقتحمت ساحتها بشيء من الحذر، بدأت تدريجياً بنوفيلا «خريطة الحالم» التي صدرت عن «دار الجمل»، ثم «درب المسحورة» التي صدرت عن «دار الانتشار»، بعد ذلك كتبت «فراشات الروحاني» وكانت كبيرة نسبياً ومتعددة الأصوات، كتب عنها الناقد المغربي الراحل إبراهيم الحجري دراسة موسعة نُشرت وقتها في مجلة «نزوى».

* بعد صدور مجموعتك القصصية الأولى «اللون البني» 1998 لماذا انتظرت 10 سنوات كاملة حتى تصدر المجموعة الثانية؟

ربما كنتُ مسكوناً أكثر بالقراءة. ورغم أن «اللون البني» لقيت نجاحاً وكُتب عنها بصورة مفرحة فإنني كنت أكتب أيضاً. أتذكر أن مجموعتي الثانية «بركة النسيان» كتبت الجزء الأوفر منها في دكان والدي بمدينة مطرح. كان معي دفتر أنكب عليه للكتابة وقت الظهيرة غالباً على عتبة الدكان حين يقضي أبي قيلولته في مسجد قريب. أحدهم قال لي لاحقاً إنه كان حين يعود من عمله بالسيارة لا يراني إلا منكباً وكان يستغرب. بعد أن أنهيت دراستي ساعدت والدي في دكانه كما كنت أساعده أثناء الإجازات الدراسية إلى أن وجدت عملاً في وزارة التعليم العالي. لذلك يمكن ملاحظة الكثير من الدكاكين في تلك المجموعة القصصية.

لا يخلو أي مجتمع من مفارقات ومن هنا يستثمر الأدب في جانبه السردي هذه المؤونة ويصعّدها إلى مستوى القص

* حصلت على العديد من الجوائز فضلاً عن الوصول للقوائم القصيرة لجوائز أخرى... كيف تنظر لحضور الجوائز في المشهد الأدبي العربي، وهل تشكل هاجساً ملحاً بالنسبة لك؟

- لم أكتب يوماً لنيل الجوائز، أنا مقتنع أن اللحظات الجميلة تأتي بدون تخطيط، وما عليك سوى العمل. كان أبي (رحمه الله) يقول لي «عليك أن تفتح الدكان صباح أول الناس وتنتظر». وفي هذا دعوة إلى الاستمرارية. بالنسبة للكاتب، عليه أن يقرأ كثيراً وربما أيضاً عليه أن يكتب، أما النشر فيأتي لاحقاً. كذلك الجوائز لا تستجيب بالضرورة لمن يخطط لها.

* أخيراً... ما سر حضور الرواية العمانية بقوة مؤخراً في المشهد الثقافي العربي؟

- ربما بسبب النزوح الجماعي نحو هذا اللون. مرة كتبت مقالاً في موقع «ضفة ثالثة» بعد رحيل عزيزنا القاص والروائي والطبيب عبد العزيز الفارسي، قلت فيه إنه حين كتب أول رواية وصعدت إلى القائمة الطويلة لجائزة «البوكر» في دورتها الأولى حوّل المشهد من كتابة القصة إلى كتابة الرواية في سلطنة عمان، فاتجه معظم من كان يكتب قصة إلى هذا الفضاء الجديد والمغري. هناك من ظل يراوح مزاولاته بين القصة والرواية وعبد العزيز كان واحداً منهم. وبذلك استطاع الكاتب العماني عموماً أن يساهم وينافس في مسابقات ذات طابع تنافسي عربي، كما حدث مع جوخة الحارثي وبشرى خلفان ومحمد اليحيائي وزهران القاسمي وآخرين في مجالات إبداعية مختلفة.