صيغ عديدة من ألبسة الكتب

تستعير صورتها من المظاهر الجسدية

صيغ عديدة من ألبسة الكتب
TT

صيغ عديدة من ألبسة الكتب

صيغ عديدة من ألبسة الكتب

في رواية جوزيه ساراماغو «دليل الرسم والكتابة» يتحدث السارد على لسان البطل الممتهن للرسم والساعي للكتابة، فتُركّب الرواية على إيقاع كتابةِ الرسامِ لسيرته، الحافلة بترددات العمل في المشغل، المختبر الصغير الذي يتحول، عبر لحظات اليوم، إلى مكتب ومطبخ وصالة استقبال، لمحاورات الضيوف ولأمزجة الموديلات، مقلّباً عبر فقرات متراسلة أحوال الاشتغال تحت الطلب، لإنجاز بورتريهات، قد لا تقنع الرسام لكنها تغوي الزبون. وسرعان ما تتحول الرواية إلى شهادة على زمن التحول الكبير في البرتغال غداة ثورة البنفسج، وما واكبها من قلاقل، موحياً في مقاطع متعددة بهوس الرسام - الكاتب بوعي للذات والأمكنة والإبداع، أشبه ما يكون بولادات متلاحقة؛ حيث يقول في مقطع دال: «عندما أشرع في رسم لوحة جديدة: القماش الأبيض، الأملس، غير المهيأ بعد، هو شهادة ميلاد بيضاء، وأعتقد (أنا كاتب السجل المدني بلا دفتر) أن بوسعي تسجيل تواريخ عديدة وأن أدون مواليد مختلفة ستخرج مني هذه المرة، على الأقل لمدة ساعة واحدة» (ص 8).

سراماغو

وعلى غرار ساراماغو يستعير عدد من الكتّاب صفات التكوين الجسدي لتمثيل وعيهم بالكتابة، فيعدّون صعوبات التعبير «مخاضات»، والأفكار التي لم تحبّر على ورق «أجنة»، كما يسمون الإصدارات الجديدة «مواليد»، ويمحضونها عواطف لا تخلو من أحاسيس الأبوة والأمومة. فتتقلب مشاعرهم تجاهها، تقلبها بصدد أبنائهم الحقيقيين، من حبور وغبطة وأمل وخيبة وحسرة ويأس. وسرعان ما يتعهدون ما قد يصوغونه من روايات ومسرحيات وأبحاث نقدية وفكرية بالرعاية، ويعبدون لها مسالك العبور، بترتيب مواعيد القراءة والتوقيع، والسعي إلى تأثيرها في المجتمع، وارتقائها أعلى المراتب، تماماً مثلما يتعهدون رضّعاً وأطفالاً، ثم لا يلبثون أن يتركوا تلك الكتب تتيه في دنيا المطبوعات، وتشق طريقها وحيدة دون سند، ويستعملون تعابير تنم عن النضج، من قبيل: «إن الكتاب أضحى ملكاً للقارئ»، أي أضحى عضواً في أسرة بديلة تتلقاه بأحاسيس مختلفة عن مشاعر العطف الأبوي.

هذا التماهي بين الامتدادين الورقي والجيني، يفسر إلى حد كبير تلك السلوكيات العصابية التي تنتاب محاولات التأليف، حيث تُغتال الأفكار في بدايتها أحياناً، أو تمزق المخطوطات في منتصف الطريق، ممهورة بلوعات شبيهة بتلك التي تتخلل إسقاط الأجنة؛ خوفاً من المجهول، أو عدم اقتناع بالجنين ورغبة في عدم معانقته لدنيا الناس. كما أن الحفلات المرافقة لصدور المطبوعات تزدهر بحسب التجارب والخبرات، ففرحة الكتاب الأول تماثل الحبور بالمولود الأول، الغبطة ذاتها التي لا تلبث أن تخفت تدريجياً، حتى تتحول إلى ما يشبه اللامبالاة، فأصحاب المؤلفات الكثيرة قد لا يمثل صدور عمل جديد لهم، إلا رقماً مضافاً، تماماً كأصحاب الذرية الوفيرة الذين يزهدون في دعوة الناس للولائم.

من هنا يمكن تفهم تلك المصائر المتشابهة التي يتلقاها الكتاب وكتبهم في الحياة، بحيث تحل بهم نكبات متماثلة، فإحراق الكتب هو حرق لجثامين افتراضية، ذلك ما فعله الكاردينال سيسنيروس بالمخطوطات الأندلسية، وما فعله النازيون بكتب خصومهم العقائديين، شأن مئات الأنظمة القمعية عبر التاريخ التي تفننت بحرق الكتب، وإعدام مؤلفيها بأشد وسائل الفتك تعذيباً. يتحدث سلمان رشدي في سيرته التي حملت عنوان «جوزف أنطون»، عن عشرات المظاهرات الممتدة من باكستان إلى لندن، ومن القاهرة إلى طهران، والتي يُمَثَّل فيها بجثمان الكاتب رمزياً، عبر تمزيق صوره وكتبه أو إحراقها، كما أن إحراق الكاتب لمؤلفاته - مثلما فعل أبو حيان التوحيدي - يتجلى أشبه ما يكون بانتحار مجازي، لا يختلف كثيراً عن إضرام النار في الجسد.

والحق أن للجسد دوماً تطلعاً إلى تخطي لحائه، والتحول إلى معنى، وإلى نسغ مخفي، قد لا يستوعبه المرئي، ذلك ما تسعى الرواية إلى كشفه في صيغ تخيلية معقدة، عبر مفردات ومجازات شارحة للأسرار والألغاز الجسدية، والأحاسيس المتفاقمة تجاه كتلة الأعضاء السويّة أو المشوهة، وما يعترضها من استيهامات تلتصق بالذوات دون أن تكون جزءاً منها. بخلاف اللوحة التي لا يستهويها الشرح أو استخلاص المعنى لما هو ظاهر يتحدى النظر، فهي تسعى إلى تحويل تلك الأسرار إلى احتمال بصري آخر، يتجاوز الثابت المحسوس بالعين التلقائية العابرة.

في رواية «الجسد» لحنيف قريشي، ثمة شخص يعيش تجربة الانتقال من جسد إلى جسد بديل ويحتفظ بقدرة تذكر الجسد السابق، ليس بوصفه كياناً عضوياً، بل بما هو ذاكرة أحاسيس؛ في الرواية نكتشف معنى اللحاء الجسدي ونسغه، الذي يحتاج إلى ترجمة وتحليل عبر خطاب يجرده من مظهريته، وفي مقطع من الرواية يتحدث السارد عن هوس الزينة واللباس لدى النساء قائلاً: «عندما يتعلق الأمر بأجسادهن، فهن يعتقدن أنهن يرتدين ما بداخلهن إلى الخارج»، بتعبير آخر يتحول الطراز إلى لعبة كشف للنوايا والبصائر والاستيهامات، لكن القول الروائي هنا يبقى احتمالاً يبرر ما يجري من سلوك تجاه هذا الشيء الخارجي المرئي، محاولة لإظهار النسغ بصرف النظر عن اللحاء، وهو ما تعاكسه اللوحة بمعنى ما، حين تجعل الظاهر يقول كل شيء.

في لوحات فن النهضة تطالعنا أجساد نساء وأطفال تشبه الملائكة، بعضها نبتت له أجنحة وأخرى تتمدد متطلعة إلى الأفق، تنطق كلها بوداعة ناعمة، واكتناز لا يستثير أي اشتهاء، فثمة شيء مقدس ومهيب وأسطوري يشوش حاسة الامتلاك البصري للجسد، وينزع عنه قابلية اللمس، لكنه يبقى في النهاية جسداً مرئياً، هنا لا يضع الرسام احتمالات معنوية، مخفية، هو يكشف ويسطر النسغ، ينزع التلقائية عن الكيان ويحوله إلى جسد ناطق. وبالعودة إلى رواية ساراماغو «دليل الرسم والكتابة»، تجد الكاتب الرسام يركز على وضع الخروج من الاعتيادية إلى مجابهة إرادة الموديل: «أعرف أن اللوحة رسمت بالفعل قبل الجلسة الأولى من تكليفي، وأن كل عملي سيكون إخفاء ما لا يصح إظهاره، أما العيون فعمياء. الرسام وموديله دائماً ما يكونان مرعوبين ومضحكين أمام القماش الأبيض، أحدهما يخاف أن يرى نفسه على حقيقتها في اللوحة، والآخر يعرف أنه ليس بوسعه أبداً القيام بهذه الوشاية» (ص 10).

في لوحات النساء العاريات عبر تاريخ الفن لا نتطلع دوماً إلى تقاسيم متماثلة؛ ولكن إلى أجساد تنتج أثراً بصرياً عبر مقامات معنوية، من «مايكل أنغلو» إلى «موديغلياني»، مروراً بـ«غويا» و«ماتيس» و«رامبرانت»، ثمة لحاءات لا تحتاج للباس لتخرج الداخل، كما تقول العبارة الروائية لحنيف قريشي، بل تقوله عبر القشرة الصاعقة لتفاصيل الكتلة، أمر لا يحتاج إلى كثير ثرثرة لينقل معنى هذا الشيء الذي نسكنه ونعيش عبره ونموت حين تشيخ أعضاؤه، ونسعى إلى إسكانه التراب أو تحويله إلى رماد، مسترجعين نسغه الخالد عبر صور تسكن الذاكرة.

وتسترسل الاستعارة من تمثل الإنجاز الكتابي بوصفه ولادة وتخليقاً لأجساد، مروراً بالإعدام الرمزي لأجساد الكتاب عبر إحراق كتبهم، وانتهاء بوصل الطباعة بنموذج الموضة التي تستعير أقنعة للأجساد، فالكتب كالأجساد تتطلب عناية بالمظهر للبروز بين الناس، وبحاجة إلى مساحيق، وحلي، وأردية رفيعة، في النهاية ليس كافياً أن تكون جميلة أو عميقة أو بليغة، ثمة ضرورة حاسمة لبلاغة مظهرية، تضحى عنواناً على الذوق والرفعة والعبقرية المضمرة وراء الغلاف، لهذا يمكن أن نصف كتباً شديدة التأثير والعمق بالبداوة، لأنها ترتجل أغلفتها كيفما اتفق، فالأساس (بالنسبة لها) هو السّتر، شيء شبيه بأردية السلفيين الخانقة للأجساد، كما يمكن أن توحي لنا كتب أخرى بالأناقة بالنظر إلى شكل الغلاف وتصميم صوره وخطوطه ونوعية الورق المستعمل ووزنه وسعره، وهو مظهر يكون أول ما يلفت الانتباه بالنسبة للكتب مثلما تكون الألبسة هي ما يلوي أعناق الناظرين في الشارع. وهكذا قد تجد أمامك صيغاً كثيرة من ألبسة الكتب، تستعير صورتها من سجايا الأجساد المظهرية تراوح ما بين المحجوبة والمنقبة والجريئة والفاضحة والفقيرة والباذخة والحداثية و«الهوت كوتير».



تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
TT

تجليات الحب العذري في حياة الجاهليين وأشعارهم

غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في  العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"
غسان صليبا والسوبرانو لارا جو خدار في العمل الأوبرالي اللبناني "عنتر وعبلة"

إذا كانت ظاهرة الحب العذري في الحقبتين الراشدية والأموية قد أثارت الكثير من اللبس والغبار النقدي في أوساط الباحثين وأهل الاختصاص، فإن هذَين اللبس والغبار قد تضاعف منسوبهما فيما يخص الحقبة الجاهلية، التي بدت أكثر مَدعاةً للبلبلة والإرباك من الحقبة التي تلتها، أما مصدر هذا الإرباك فمُتأتٍّ عن الصورة النمطية التي رسمها المؤرخون على نحوٍ عامّ للعصر الجاهلي، حيث انسحب الجهل بالدين الجديد على كل ما يخص ذلك العصر، فتم استدعاء الطباقات المختلفة لتزيين التعارض المانوي بين الحقبتين، فوُضع الحِلم مقابل الجهل، والروح مقابل الجسد، والحب المتعفِّف مقابل الجموح الشهواني.

ولعل في قصص الحب المؤثرة التي عاشها الشعراء الجاهليون ما يؤكد أن الحب الجسدي لم يكن وحده سيد الساحة آنذاك، بل شهدت تلك المرحلة، إلى جانبه، وجوهاً شتى للتعفُّف والتصعيد العاطفي، والانقطاع لامرأة واحدة، ومن بينها القصة الأكثر شهرةً التي جمعت بين عنترة بن شداد وابنة عمه عبلة.

والواقع أن الفضل في ذيوع تلك القصة يعود إلى شخصية عنترة بالذات، وهو الذي آثر الرد على سَواد لونه وشعوره المُمِضِّ بالدونية على استعلاء بني عبس، عبر «تبييض» صورته في عيون قومه، متخذاً من شجاعته الخارقة ودفاعه المستميت عن حبه لعبلة وسيلته الأنجع لصُنع أسطورته.

ولم تكن شجاعة عنترة هي السبب الوحيد لتحوُّله في الأزمنة اللاحقة إلى رمز قومي، بل قدرته الفائقة على أن يُخرج الفروسية من ساحة المعركة إلى ساحة الحياة نفسها، وأن يوائم بين المفارَقات، فيجمع بين الفحولة الجسدية وشفافية الروح، وبين قوة الشكيمة وعذوبة القلب.

وفي أكثر فصول معلّقته صلة بالملاحم يحوّل عنترة جمال عبلة الطيفي إلى تعويذة رمزية تعصمه من الهلاك، حيث يتداخل لَمعانُ السيوف بلَمعانِ ثغر الحبيبة، ويصبح تتيُّمه بالأخيرة وقوفاً على خط التماسّ الأكثر خطورةً بين الحب والموت.

اللافت في شخصية عنترة أن نزوعه التعفُّفي بدا متأصلاً في تكوينه وطباعه، حيث نقل الأصفهاني عنه رفضه الإذعان لإرادة امرأة أبيه التي تحرَّشت به في صباه، حتى إذا شعرت بالمهانة بعد صَدِّه لها فعلت ما فعلَته زُليخة بيوسف، فاشتكته إلى أبيه، الذي غضب غضباً شديداً وضربه بالسيف، فوقعت عليه امرأة أبيه وكفَّته عنه. كما يبدو عنترة من شعره أنه كان عُذرِيَّ الهوى أبِيَّ النفس كثير الحياء، وهو القائل:

وأغُضُّ طرفِي ما بدَت ليَ جارتي

حتى يُوارِيَ جارتي مأواها

إني امرؤٌ سَمْحُ الخَليقةِ ماجدٌ

لا أُتبعُ النفسَ اللجوجَ هواها

أما عبد الله بن عجلان النهدي فقد كان واحداً من أسياد قومه، ويعيش مع زوجته هند حياةً هانئة استمرت سنوات سبعاً، قبل أن يطلب إليه أبوه أن يطلّقها لأنها لم تنجب له أولاداً، مهدِّداً إياه بالتبرؤ منه إن لم يفعل، وحين رفض عبد الله الاستجابة لطلبه لجأ الأب إلى استخدام الحيلة، فدعا ابنه إلى مجلس للشراب، حتى إذا تعتع ابنَه السُّكْرُ قام بتطليق زوجته، التي انبرى ذَوُوها وقد شعروا بالإهانة إلى تزويجها من أحد رجال بني نُمَير، وعبثاً حاول الأب أن يُقنع ابنه المكلوم بالارتباط بأي فتاة أخرى، حيث راح الأخير يبحث عن ضالّته بين ثنايا القصائد والحسرات، وبينها قوله:

ألا حيِّيا هنداً إذا ما تَصدَّفتْ

وقلبُكَ إن تنأى بها الدارُ مُدْنِفُ

فلا هندَ إلا أن يُذكِّر ما مضى

تَقادُمُ عصرٍ، والتذكُّرُ يشغفُ

ولم أرَ هنداً بعد موقف ساعةٍ

بنُعمانَ في أهل الدّوارتُطوِّفُ

أتت بين أترابٍ تَمايَسْنَ إذ مشَت

دَبِيبَ القَطا أو هنَّ منهنَّ ألطَفُ

وإذ تشاء الصُّدَف أن تنشب بين بني نهد وبني عامر، قبيلتَي عبد الله وهند، معاركُ ونزاعات ضارية كانت نتائجها سجالاً بين الطرفين، عمدت هند، وقد أعدّت قبيلتُها العُدّة لغزو خصومها، وخافت على عبد الله من أن يصيبه مكروه، إلى إرسال مَن يُحذِّر النهديِّين من مباغتة قومها لهم، وهو ما قلَب نتيجة المعركة، وأدى إلى هزيمة بني عامر.

ويُضيف الرواة أن عبد الله، وقد اشتد به السقم، خرج مُغافِلاً أباه في خضم الحرب المشتعلة، وقصد منازل بني نُمَير حيث تقيم هند، حتى إذا التقى الحبيبان وعانق كل منهما صاحبه بالنشيج والأسى، سقطا على وجهَيهما ميتَين.

ولا تخرج قصة حب المرقش الأكبر لابنة عمه أسماء بنت عوف عن السياق الدراماتيكي لقصص الحب العذري في البيئة الجاهلية، فقد طلب عوف، عم الشاعر وأحد الفرسان المُبَرَّزين في بني بكر بن وائل، من ابن أخيه أن يتمرّس في القتال، كشرط أساسي لتزويجه من ابنته، في ظل استشراء حرب البَسوس بين بكر وتغلب، وإذ أذعن الفتى العاشق لرغبة عمه، والتحق بأحد الملوك فمدحه ونال أعطياته، وتدرّب عنده على القتال، نكث عوف بوعده، وزفَّ ابنته إلى أحد أثرياء بني عطيف مقابل مائة من الإبل، وحين عاد المرقش من رحلته عمد والدها إلى تلفيق رواية كاذبة حول موت الفتاة بمرض مفاجئ، ثم دعا ابن أخيه إلى زيارة قبرها المزعوم، بعدما كان قد ذبح كبشاً ودفنه في المكان إياه.

إلا أن المرقش ما لبث أن اكتشف الحيلة التي دبّرها له عمه في غيابه، فظلّ يطارد أسماء، حتى اهتدى في نجران إلى راعٍ للماعز، شاءت الصُّدَف أنه كان يرعى قطيعاً يخص زوج حبيبته، ثم أرسل خاتمه إلى أسماء، فعرفت صاحبه للتوِّ، وألحّت على زوجها أن يذهبا إليه، فأذعن للأمر، وإذ عثرا عليه في أحد الكهوف كان المرض قد أتلف جسمه تماماً، فحملاه إلى منزلهما قبل أن يقضي الحبيبان نحبَهما في وقت لاحق. وقد كتب المرقش في حب أسماء قصائد ومقطوعات كثيرة، بينها قوله:

أَغالِبُكَ القلبُ اللجوجُ صبابةً

وشوقاً إلى أسماءَ، أم أنتَ غالِبُهْ

يَهِيمُ ولا يَعيا بأسماءَ قلبُهُ

كذاك الهوى أمرارُهُ وعواقبُهْ

وأسماءُ هَمُّ النفس إن كنتَ عالماً

وبادِي أحاديث الفؤادِ وغائبُهْ

وإذا كان لنا ما نلاحظه حول القصتين الأخيرتين، فهو أن الحب العذري ليس مطابقاً بالضرورة للحب الأفلاطوني واللاجسدي، بدليل أن كلاً من هند وعبد الله قد تقاسما السرير نفسه لسنوات عدة، قبل أن تقودهما التقاليد والظروف الصعبة إلى الانفصال.

في قصص الحب المؤثرة التي عاشها الشعراء الجاهليون وجوه شتى للتعفُّف والتصعيد العاطفي والانقطاع لامرأة واحدة

كما تؤكد القصة الثانية أن الحب العذري لم ينشأ في صدر الإسلام كما ذهب الكثيرون، وإن كانت تعاليم الإسلام الحاثّة على التعفّف وكبح الشهوات قد ضاعفت من انتشاره، بل هو أحد التجليات السلوكية والاجتماعية والنفسية لعالَم الصحراء المحكوم بالقسوة والعنف والترحّل والعَوَز المادي، وما يستتبعه ذلك من نزوع إلى قهر النفس وتعذيب الذات.

كما أنه ليس أمراً بلا دلالة أن تكون قصة قيس بن ذريح وزوجته لُبنى نسخة مطابقة لقصة ابن عجلان وزوجته هند، سواء من حيث غضب الأب والطلاق بالإكراه، والارتباط الانتقامي برجل آخر، وصولاً إلى النهاية المفجعة للعاشقَين، أو أن تكون قصة عروة بن حزام وحبيبته عفراء في العصر الراشدي مماثِلةً تماماً لقصة المرقش وأسماء، حيث عروة الذي مات أبوه باكراً يتربّى في كَنَف عمه ويعشق ابنته، ويواجه من الصعوبات ما يطابق قصة المرقش المأساوية.

وإذا كان ذلك التماثل يعود من بعض وجوهه إلى تشابه الظروف أو غرابة المصادفات، فإنه يَشِي في الوقت ذاته بتدخل الرواة المتأخرين في «تكييف» الوقائع والأحداث بما يتناسب مع العصر الذي سبق، والذي ظل بالنسبة لهم، وبالرغم من التغييرات الدراماتيكية التي أحدثها الإسلام، النموذجَ التأسيسي للشعرية العربية، ولما يماثلها في الحياة وأنماط السلوك والرؤية للعالم.