صيغ عديدة من ألبسة الكتب

تستعير صورتها من المظاهر الجسدية

صيغ عديدة من ألبسة الكتب
TT
20

صيغ عديدة من ألبسة الكتب

صيغ عديدة من ألبسة الكتب

في رواية جوزيه ساراماغو «دليل الرسم والكتابة» يتحدث السارد على لسان البطل الممتهن للرسم والساعي للكتابة، فتُركّب الرواية على إيقاع كتابةِ الرسامِ لسيرته، الحافلة بترددات العمل في المشغل، المختبر الصغير الذي يتحول، عبر لحظات اليوم، إلى مكتب ومطبخ وصالة استقبال، لمحاورات الضيوف ولأمزجة الموديلات، مقلّباً عبر فقرات متراسلة أحوال الاشتغال تحت الطلب، لإنجاز بورتريهات، قد لا تقنع الرسام لكنها تغوي الزبون. وسرعان ما تتحول الرواية إلى شهادة على زمن التحول الكبير في البرتغال غداة ثورة البنفسج، وما واكبها من قلاقل، موحياً في مقاطع متعددة بهوس الرسام - الكاتب بوعي للذات والأمكنة والإبداع، أشبه ما يكون بولادات متلاحقة؛ حيث يقول في مقطع دال: «عندما أشرع في رسم لوحة جديدة: القماش الأبيض، الأملس، غير المهيأ بعد، هو شهادة ميلاد بيضاء، وأعتقد (أنا كاتب السجل المدني بلا دفتر) أن بوسعي تسجيل تواريخ عديدة وأن أدون مواليد مختلفة ستخرج مني هذه المرة، على الأقل لمدة ساعة واحدة» (ص 8).

سراماغو
سراماغو

وعلى غرار ساراماغو يستعير عدد من الكتّاب صفات التكوين الجسدي لتمثيل وعيهم بالكتابة، فيعدّون صعوبات التعبير «مخاضات»، والأفكار التي لم تحبّر على ورق «أجنة»، كما يسمون الإصدارات الجديدة «مواليد»، ويمحضونها عواطف لا تخلو من أحاسيس الأبوة والأمومة. فتتقلب مشاعرهم تجاهها، تقلبها بصدد أبنائهم الحقيقيين، من حبور وغبطة وأمل وخيبة وحسرة ويأس. وسرعان ما يتعهدون ما قد يصوغونه من روايات ومسرحيات وأبحاث نقدية وفكرية بالرعاية، ويعبدون لها مسالك العبور، بترتيب مواعيد القراءة والتوقيع، والسعي إلى تأثيرها في المجتمع، وارتقائها أعلى المراتب، تماماً مثلما يتعهدون رضّعاً وأطفالاً، ثم لا يلبثون أن يتركوا تلك الكتب تتيه في دنيا المطبوعات، وتشق طريقها وحيدة دون سند، ويستعملون تعابير تنم عن النضج، من قبيل: «إن الكتاب أضحى ملكاً للقارئ»، أي أضحى عضواً في أسرة بديلة تتلقاه بأحاسيس مختلفة عن مشاعر العطف الأبوي.

هذا التماهي بين الامتدادين الورقي والجيني، يفسر إلى حد كبير تلك السلوكيات العصابية التي تنتاب محاولات التأليف، حيث تُغتال الأفكار في بدايتها أحياناً، أو تمزق المخطوطات في منتصف الطريق، ممهورة بلوعات شبيهة بتلك التي تتخلل إسقاط الأجنة؛ خوفاً من المجهول، أو عدم اقتناع بالجنين ورغبة في عدم معانقته لدنيا الناس. كما أن الحفلات المرافقة لصدور المطبوعات تزدهر بحسب التجارب والخبرات، ففرحة الكتاب الأول تماثل الحبور بالمولود الأول، الغبطة ذاتها التي لا تلبث أن تخفت تدريجياً، حتى تتحول إلى ما يشبه اللامبالاة، فأصحاب المؤلفات الكثيرة قد لا يمثل صدور عمل جديد لهم، إلا رقماً مضافاً، تماماً كأصحاب الذرية الوفيرة الذين يزهدون في دعوة الناس للولائم.

من هنا يمكن تفهم تلك المصائر المتشابهة التي يتلقاها الكتاب وكتبهم في الحياة، بحيث تحل بهم نكبات متماثلة، فإحراق الكتب هو حرق لجثامين افتراضية، ذلك ما فعله الكاردينال سيسنيروس بالمخطوطات الأندلسية، وما فعله النازيون بكتب خصومهم العقائديين، شأن مئات الأنظمة القمعية عبر التاريخ التي تفننت بحرق الكتب، وإعدام مؤلفيها بأشد وسائل الفتك تعذيباً. يتحدث سلمان رشدي في سيرته التي حملت عنوان «جوزف أنطون»، عن عشرات المظاهرات الممتدة من باكستان إلى لندن، ومن القاهرة إلى طهران، والتي يُمَثَّل فيها بجثمان الكاتب رمزياً، عبر تمزيق صوره وكتبه أو إحراقها، كما أن إحراق الكاتب لمؤلفاته - مثلما فعل أبو حيان التوحيدي - يتجلى أشبه ما يكون بانتحار مجازي، لا يختلف كثيراً عن إضرام النار في الجسد.

والحق أن للجسد دوماً تطلعاً إلى تخطي لحائه، والتحول إلى معنى، وإلى نسغ مخفي، قد لا يستوعبه المرئي، ذلك ما تسعى الرواية إلى كشفه في صيغ تخيلية معقدة، عبر مفردات ومجازات شارحة للأسرار والألغاز الجسدية، والأحاسيس المتفاقمة تجاه كتلة الأعضاء السويّة أو المشوهة، وما يعترضها من استيهامات تلتصق بالذوات دون أن تكون جزءاً منها. بخلاف اللوحة التي لا يستهويها الشرح أو استخلاص المعنى لما هو ظاهر يتحدى النظر، فهي تسعى إلى تحويل تلك الأسرار إلى احتمال بصري آخر، يتجاوز الثابت المحسوس بالعين التلقائية العابرة.

في رواية «الجسد» لحنيف قريشي، ثمة شخص يعيش تجربة الانتقال من جسد إلى جسد بديل ويحتفظ بقدرة تذكر الجسد السابق، ليس بوصفه كياناً عضوياً، بل بما هو ذاكرة أحاسيس؛ في الرواية نكتشف معنى اللحاء الجسدي ونسغه، الذي يحتاج إلى ترجمة وتحليل عبر خطاب يجرده من مظهريته، وفي مقطع من الرواية يتحدث السارد عن هوس الزينة واللباس لدى النساء قائلاً: «عندما يتعلق الأمر بأجسادهن، فهن يعتقدن أنهن يرتدين ما بداخلهن إلى الخارج»، بتعبير آخر يتحول الطراز إلى لعبة كشف للنوايا والبصائر والاستيهامات، لكن القول الروائي هنا يبقى احتمالاً يبرر ما يجري من سلوك تجاه هذا الشيء الخارجي المرئي، محاولة لإظهار النسغ بصرف النظر عن اللحاء، وهو ما تعاكسه اللوحة بمعنى ما، حين تجعل الظاهر يقول كل شيء.

في لوحات فن النهضة تطالعنا أجساد نساء وأطفال تشبه الملائكة، بعضها نبتت له أجنحة وأخرى تتمدد متطلعة إلى الأفق، تنطق كلها بوداعة ناعمة، واكتناز لا يستثير أي اشتهاء، فثمة شيء مقدس ومهيب وأسطوري يشوش حاسة الامتلاك البصري للجسد، وينزع عنه قابلية اللمس، لكنه يبقى في النهاية جسداً مرئياً، هنا لا يضع الرسام احتمالات معنوية، مخفية، هو يكشف ويسطر النسغ، ينزع التلقائية عن الكيان ويحوله إلى جسد ناطق. وبالعودة إلى رواية ساراماغو «دليل الرسم والكتابة»، تجد الكاتب الرسام يركز على وضع الخروج من الاعتيادية إلى مجابهة إرادة الموديل: «أعرف أن اللوحة رسمت بالفعل قبل الجلسة الأولى من تكليفي، وأن كل عملي سيكون إخفاء ما لا يصح إظهاره، أما العيون فعمياء. الرسام وموديله دائماً ما يكونان مرعوبين ومضحكين أمام القماش الأبيض، أحدهما يخاف أن يرى نفسه على حقيقتها في اللوحة، والآخر يعرف أنه ليس بوسعه أبداً القيام بهذه الوشاية» (ص 10).

في لوحات النساء العاريات عبر تاريخ الفن لا نتطلع دوماً إلى تقاسيم متماثلة؛ ولكن إلى أجساد تنتج أثراً بصرياً عبر مقامات معنوية، من «مايكل أنغلو» إلى «موديغلياني»، مروراً بـ«غويا» و«ماتيس» و«رامبرانت»، ثمة لحاءات لا تحتاج للباس لتخرج الداخل، كما تقول العبارة الروائية لحنيف قريشي، بل تقوله عبر القشرة الصاعقة لتفاصيل الكتلة، أمر لا يحتاج إلى كثير ثرثرة لينقل معنى هذا الشيء الذي نسكنه ونعيش عبره ونموت حين تشيخ أعضاؤه، ونسعى إلى إسكانه التراب أو تحويله إلى رماد، مسترجعين نسغه الخالد عبر صور تسكن الذاكرة.

وتسترسل الاستعارة من تمثل الإنجاز الكتابي بوصفه ولادة وتخليقاً لأجساد، مروراً بالإعدام الرمزي لأجساد الكتاب عبر إحراق كتبهم، وانتهاء بوصل الطباعة بنموذج الموضة التي تستعير أقنعة للأجساد، فالكتب كالأجساد تتطلب عناية بالمظهر للبروز بين الناس، وبحاجة إلى مساحيق، وحلي، وأردية رفيعة، في النهاية ليس كافياً أن تكون جميلة أو عميقة أو بليغة، ثمة ضرورة حاسمة لبلاغة مظهرية، تضحى عنواناً على الذوق والرفعة والعبقرية المضمرة وراء الغلاف، لهذا يمكن أن نصف كتباً شديدة التأثير والعمق بالبداوة، لأنها ترتجل أغلفتها كيفما اتفق، فالأساس (بالنسبة لها) هو السّتر، شيء شبيه بأردية السلفيين الخانقة للأجساد، كما يمكن أن توحي لنا كتب أخرى بالأناقة بالنظر إلى شكل الغلاف وتصميم صوره وخطوطه ونوعية الورق المستعمل ووزنه وسعره، وهو مظهر يكون أول ما يلفت الانتباه بالنسبة للكتب مثلما تكون الألبسة هي ما يلوي أعناق الناظرين في الشارع. وهكذا قد تجد أمامك صيغاً كثيرة من ألبسة الكتب، تستعير صورتها من سجايا الأجساد المظهرية تراوح ما بين المحجوبة والمنقبة والجريئة والفاضحة والفقيرة والباذخة والحداثية و«الهوت كوتير».



التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية
TT
20

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

التروبادور ينتصرون للحب المستحيل في وجه المؤسسة الزوجية

قلَّ أن تمكنت ظاهرة من ظواهر الحب في الغرب من أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الشعبي الأوروبي، وأن تصبح في الوقت ذاته محل اهتمام الباحثين والمؤرخين وعلماء الاجتماع، كما هو حال ظاهرة الشعراء الجوالين في القرن الثاني عشر الميلادي. فهذه الظاهرة التي ولدت في الجنوب الفرنسي، والتي قامت على التعفف الفروسي والإعلاء المفرط المرأة، ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتشمل مناطق أوروبية واسعة، وأن تمسك بناصية الشعر والحب على حد سواء.

وإذا كان في ما قاله المؤرخ سينيوبوس من أن الحب في الغرب هو من مخترعات القرن الثاني عشر، قدر من المبالغة والغلو، فإن نقاداً كثيرين يجمعون على أن فكرة الحب المرتبط بالعفة والهوى والعاطفة المشبوبة لم تأخذ طريقها إلى التبلور ولم تتحول إلى واقع ملموس إلا مع تلك الكوكبة من الشعراء، من أمثال غيوم دي بواتييه وفينتادور وبيار فيدال وديدييه ودورانج وآرنو دانييل وغيرهم. أما تسميتهم بالتروبادور فيردها البعض إلى أصل عربي مشتق من كلمتي «تروبا» وتعني الطرب، و«دور» التي هي مصطلح موسيقي، فيما ذهب آخرون إلى كونها مشتقة من الفعل «تروبار» بالإسبانية، ويعني نظم العبارات الجميلة أو الشعر المبتكر.

ومع ذلك، وأياً كان مصدر التسمية، فقد أجمع الدارسون على أن القرن الحادي عشر للميلاد هو التاريخ الفعلي لنشوء ظاهرة الشعراء الجوالين، الذين راحوا يجوبون أنحاء الجنوب الفرنسي متنقلين من قصر إلى قصر لينشدوا أمام الأمراء والأعيان، والنساء الجميلات والمتأنقات، قصائد وأغنيات ناضحة بالحب والشجن القلبي وآلام الفراق. والأرجح أن تبني إلينور، حفيدة الشاعر الجوال وليم التاسع، وزوجة الملك الفرنسي وليم السابع، وملهمة الشاعر برنارد دي فانتادور، لهذه الحركة، قد أسهم في تكريسها ودعمها وتحويلها إلى تقليد ملكي رسمي. وقد واصلت ماري فرانس، ابنة إلينور، تشجيعها لذلك النوع من الشعر الرومانسي الحالم، وهي التي حضت الشاعر الفرنسي كراتين دي ترويز على تأليف قصة لانسوليت، التي تعكس بوضوح مفاهيم الشعر البروفنسي.

وإذ وقف أدباء الغرب ومفكروه حائرين إزاء المنشأ الحقيقي لهذا التقليد الشعري والعاطفي، أعاده بعضهم إلى الفلاسفة الإغريق من أمثال أفلاطون وأفلوطين، ونسبه بعضهم الآخر إلى الشاعر الروماني أوفيد وتعاليمه المثبتة في كتابه الشهير «فن الهوى»، ورأى فيه البعض الثالث تأثراً بمفهوم العفة والتبتل المسيحيين، وأكد بعضهم الرابع على تأثير الشعر العربي العذري في نشوء تلك الظاهرة، خاصة بعد أن تجاوز العرب حدود الأندلس لتصل جيوشهم إلى قلب الأراضي الفرنسية نفسها.

ولا بد من التذكير بأن تسمية الفرسان بالشعراء الجوالين كانت ناجمة عن الدور القتالي الذي أنيط بهؤلاء الشبان من قبل الأمراء والنافذين، حيث كان عليهم حماية المقاطعات والمناطق والقصور المولجين بخدمتها، من كل خطر داخلي أو خارجي، إضافة إلى مشاركة بعضهم الفاعلة في الحروب الصليبية. إلا أن القواعد والأعراف الاجتماعية التي تم إرساؤها في تلك الحقبة، وصولاً إلى قوننتها في نُظم وأحكام، أخرجت الفروسية من نطاقها القتالي الصرف وحولتها إلى تقاليد متصلة بالشهامة والتسامح والنبل، وما استتبع العشق والوله العاطفي من قواعد ومواثيق.

وقد اعتبر أرنولد هاوزر في كتابه «الفن والمجتمع عبر التاريخ» أن الجديد في شعر الفروسية هو عبادة الحب والحرص عليه، واعتباره المصدر الأهم للخير والجمال والسعادة الحقة، حيث يتم التعويض عن حرقة الفراق بفرح الروح ونشوة الانتظار، مضيفاً أن التروبادور كانوا في الأصل من المغنين الذين يستقدمهم الأمراء إلى قصورهم وبلاطاتهم بهدف الاستئناس بأغانيهم والتخفف من أثقال الحروب والصراعات المختلفة. حتى إذا ما استُحدث تقليد كتابة الشعر في وقت لاحق، طُلب إليهم التغزل بنساء الأمراء وامتداح جمالهن ومقامهن السامي، على أن لا تتجاوز العلاقة بين الطرفين علاقة التابع بالمتبوع والخادم بسيدته، وكان الفرسان ومنشدو البلاط يقدمون فروض الولاء لهذه السيدة المثقفة، الموسرة والجذابة.

أما دينيس دي ريجمون صاحب كتاب «الحب والغرب»، فيستبعد أي دور للعامل الاجتماعي في نشوء ظاهرة التروبادور، لأن وضع المرأة في الجنوب الأوروبي لم يكن أقل ضعة وتبعية من وضعها في شمال القارة. إلا أنه يقيم نسباً واضحاً بين التروبادور والشعراء الكاتاريين، الذين بدا عشقهم للمرأة نوعاً من الديانة الخاصة، معتبراً أن كلاً من الطرفين قد استلهم في تجربته الحركات الصوفية والغنوصية، إضافة إلى الديانات الفارسية القديمة. وفي إطار بحثه عن منشأ تلك الظاهرة، لم يركن المؤلف إلى مصدر واحد، بل قادته الحيرة إلى العديد من الفرضيات، التي تأتي في طليعتها الديانة المانوية القائمة على التعارض الضدي بين الخير والشر، وبين قوى النور وقوى الظلام، والمحكومة على الدوام بالروح الغنائية والقلق الدائم، بعيداً عن أي تصور للعالم، عقلي وموضوعي.

ولأن هذا المعتقد يرى في الجسد عين الشقاء، وفي الموت الفداء الحقيقي لخطيئة الولادة، فقد أكد الباحث الفرنسي بأن التروبادور كالمانويين، قد أنكروا كل حب شهواني محسوس، ورأوا أن العشق المتعفف والزهد بالملذات، هما الطريقة المثلى لخلاص الإنسان. إلا أن دي رجمون الذي لم ير في تجربتهم سوى نبتٍ هجين تتصل جذوره بالديانات الوثنية القديمة، كما بتيارات الزندقة والحركات الغنوصية والصوفية المتطرفة، ما يلبث أن يغادر مربع الحياد البحثي، ليتبنى موقفاً أخلاقياً مفضياً إلى إدانة التجربة العشقية للتروبادور، الأقرب في رأيه إلى الزنا والهوس المرضي بالمرأة، وليقف بشكل حاسم إلى جانب الزواج الديني الشرعي.

ومع أن في قول دي رجمون بأن الهوى الجامح هو المعادل الرمزي للمشاعر القومية والدينية التي غذت الحروب، جانباً من الحقيقة أكدته مشاركة بعض العشاق الفرسان في الحروب الصليبية، فإن الجانب الآخر يؤكد أن هؤلاء الشعراء قد أحلوا الحب محل الحرب، والتزموا في عشقهم بشعائر وطقوس شبيهة بالطقوس والشعائر الدينية. فالمرأة في معادلة العشق التروبادور هي «السيدة» المتعالية التي لا يُفترض بالعاشق أن يغزو حصونها المنيعة بالسلاح، بل بالمديح الشعري والموسيقي النابضة بالرجاء. وكما يقسم الناس لملوكهم بالولاء والطاعة، فإن الشاعر الفارس يقسم راكعاً على ركبتيه، بالإخلاص الأبدي لسيدته، فيما تقوم من جهتها بإعطائه خاتماً من ذهب، طالبة إليه النهوض ومكافئة إياه بقبلة على جبينه.

وبصرف النظر عن اجتهادات الباحثين المتباينة حول الأسباب والعوامل التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة وانتشارها وتألقها، فالثابت أنها استطاعت أن تتحول إلى علامة فارقة في الثقافة الغربية لما يقارب القرون الثلاثة من الزمن، قبل أن يغرب نجم الإقطاع وتتقهقر تقاليد الحب الفروسي. وإذ اعتبرت الكاتبة الأميركية لاورا كندريك في كتابها «لعبة الحب» أن التروبادور قد استخدموا لغة الشعر بطريقة جديدة، ولعبوا بالكلمات كما لو كانت أدوات وأشياء مادية من صنع أيديهم، فإن سلوكياتهم وطرائق عيشهم قوبلت باعتراض صارم من قبل الكنيسة، التي نظرت إلى تلك السلوكيات بوصفها إهانة لتعاليمها وأهدافها الحاثة على الزواج الشرعي. ولأن الكنيسة كانت ترى في كل علاقة تحدث خارج السرير الزوجي، حتى لو ظلت بعيدة عن الترجمة الجسدية، حالة من أحوال الزنا «النظري»، أو إسهاماً في قطع دابر التكاثر، فقد شنت ضد هؤلاء الشعراء العشاق حرباً لا هوادة فيها، إلى أن تمكنت من القضاء على الظاهرة بكاملها في أواخر القرن الثالث عشر. إلا أن زوال العصر الذهبي للتروبادور، لم يفض بأي حال إلى إزالة شعرهم من الخريطة الثقافية الغربية، بدليل أن هذا الشعر قد ترك، باعتراف كبار النقاد، بصماته الواضحة في الشعرية الأوروبية اللاحقة، بدءاً من دانتي وبترارك وتشوسر، وليس انتهاءً بعزرا باوند وت. س. إليوت وكثرٍ آخرين.