نحن في حاجة إلى روايات تخبرنا بالحقيقة

أصبح الفن في عالمنا هذا أكثر أهمية عن أي وقت مضى

فلاديمير نوباكوف
فلاديمير نوباكوف
TT

نحن في حاجة إلى روايات تخبرنا بالحقيقة

فلاديمير نوباكوف
فلاديمير نوباكوف

عندما كنت في الكلية، وقعت بالصدفة على رواية «البحر والسم»، من تأليف شوساكو إندو، التي تعود أحداثها إلى خمسينات القرن العشرين. وتحكي قصة طبيب في اليابان ما بعد الحرب، شارك، كمتدرب قبل سنوات، في تجربة تشريح على أسير أميركي. من المنظور الأخلاقي، لا تعدّ عدسة إندو سهلة؛ فهو لا يسهب في الحديث عن معاناة الضحية، وإنما اختار بدلاً عن ذلك، استكشاف عنصر أكثر إثارة للانزعاج: الجانب الإنساني للجناة.

جون أبدايك

وعندما أقول «الإنساني» أعني ارتباكهم ومبرراتهم الذاتية واستعدادهم للكذب على أنفسهم. من جهته، يرى إندو أن الفظائع لا تنبع من الشر فحسب، وإنما تنبع كذلك من المصلحة الذاتية، والجبن، واللامبالاة، والرغبة في المكانة. وأظهرت لي روايته كيف أنني شخصياً، في بوتقة مجموعة معينة من الضغوط الاجتماعية، قد أخدع نفسي في اتخاذ خيار تنتج منه فظائع. ولعل هذا السبب الذي جعل الكتاب يطاردني على امتداد ما يقرب من عقدين، لدرجة أنني عاودت قراءته مرات عدة.

تذكرت هذه الرواية في الثانية فجراً في أحد الأيام القريبة، عندما كنت أتصفح حساباً على وسائل التواصل الاجتماعي، مخصصاً لجمع آراء القراء الغاضبين. لفت انتباهي شخص يدعى ناثان، الذي كان رأيه في «الفردوس المفقود» أن: «ميلتون كان فاشياً غبياً». على الجانب الآخر، أذهلني قارئ آخر، يدعى ريان، بتعليقه على كتاب جون أبدايك الذي يحمل عنوان «أيها الأرنب، اجرِ». وطالعت أحد التعليقات يقول: «هذا الكتاب جعلني أعارض حرية التعبير». ومن هنا، وصلت إلى مخزون من المراجعات النقدية لرواية «لوليتا»: كان القراء مرعوبين، ومحبطين، وغاضبين. وطالعت تعليقات من عينة: «يا له من رجل مثير للاشمئزاز!» و«كيف سُمح لفلاديمير نابوكوف بتأليف هذا الكتاب؟» و«من سمح للمؤلفين بكتابة مثل هذه الشخصيات المنحرفة وغير الأخلاقية على أي حال؟».

كنت أضحك بينما أمرّ على التعليقات، لكن سرعان ما صُدمت بإدراكي أن أقرأ على شاشتي خلاصة مرض أميركي: أن بداخلنا ميلاً عميقاً وخطيراً للخلط بين الفن والتوجيهات الأخلاقية، والعكس صحيح.

شوساكو إندو

وباعتباري وُلدت في الولايات المتحدة، لكن ترعرعت، بصورة جزئية، في عدد من البلدان الأخرى، لطالما وجدت أن القوة المطلقة الصلبة للأخلاق الأميركية ساحرة ومرعبة. ورغم تعدد مؤثراتنا ومعتقداتنا، تبدو شخصيتنا الوطنية في مجملها متأثرة، على نحو حتمي، بمفاهيم العهد القديم عن الخير والشر. ويندرج تحت هذا البناء القوي كل شيء، بدءاً من حملاتنا الإعلانية، وصولاً إلى حملاتنا السياسية، حتى تسرّب اليوم إلى أعمالنا الفنية ودورها.

ربما لأن خطابنا السياسي يتأرجح، يومياً، بين المخبول والبغيض، نحمل بداخلنا رغبة حثيثة في محاربة شعورنا بالعجز، عبر الإصرار على البساطة الأخلاقية في القصص التي نرويها ونستقبلها.

أو ربما يكون ذلك بسبب الكثير من التجاوزات التي مرّت دون أن يلتفت إليها أحد عبر الأجيال السابقة - ممارسات كراهية النساء والعنصرية وكراهية المثلية الجنسية. في الواقع، إن إساءة استخدام السلطة، على المستويين الكلي والجزئي، يجري الآن كشفها بشكل مباشر.

واليوم، يتملكنا انبهار شديد بقدرتنا على تسمية هذه العلل علانية، لدرجة أننا بدأنا العمل في ظل فكرة خاطئة مفادها أن الاعتراف بتعقيدات بعضنا بعضاً، على مستوى مجتمعاتنا وكذلك أعمالنا الفنية، بمثابة تغاضٍ عن وحشية بعضنا بعضاً.

قيم الشخصية وقيم الكاتب

عندما أعمل مع كتّاب أصغر سناً، كثيراً ما يدهشني مدى السرعة التي تتحول بها جلسات التعرف على آراء الزملاء، إلى عملية تحديد الشخصيات التي فعلت أو قالت أشياء قاسية. بعض الأحيان، يندفع الكتّاب للدفاع عن الشخصية، لينحرف النقاش نهاية الأمر إلى كيفية إصلاح أخلاقيات النص. إن الاقتراح القائل بأن قيم الشخصية لا يمكن أن تكون قيم الكاتب، ولا الهدف العام للنص، يبدو غائباً اليوم عن أذهان - ويثير انزعاج الكثيرين لدى طرحه.

ورغم أنني عادةً ما أشارك طلابي وجهات النظر السياسية التقدمية، لا يسعني سوى الشعور بالانزعاج من اهتمامهم بالصلاح والاستقامة، بدلاً عن الاهتمام بتعقيد النفس البشرية. إنهم لا يريدون أن يُنظر إليهم باعتبارهم يمثلون أي قيم لا يحملونها شخصياً. والنتيجة أنه في لحظة لم يعايش فيها عالمنا من قبل مثل هذا التغيير السريع والمحير، أصبحت قصصنا أبسط وأقل دقة وأقل قدرة على التعامل مع الحقائق التي نعيشها. لا أستطيع أن ألوم الكتّاب الشباب لاعتقادهم أن مهمتهم نقل الأخلاق العامة الصائبة. وينطبق هذا التوقع نفسه على جميع الأنماط الفنية التي أعمل فيها: الروايات والمسرح والتلفزيون والسينما.

لقد عملت داخل غرف كتّاب التلفزيون، حيث جاءت «ملاحظات الإعجاب» بمجرد ظهور شخصية معقدة على الصفحة - خاصة عندما تكون الشخصية أنثى. وغالباً ما عكس القلق بخصوص مدى إعجاب الآخرين بها، قلقاً حول أخلاقها: هل يمكن أن يُنظر إليها باعتبارها فاسقة؟ أنانية؟ عدوانية؟ هل كانت صديقة سيئة أم زوجة سيئة؟ ما مدى سرعة إعادة تأهيلها لتصبح مواطنة نموذجية للمشاهدين؟

لا نحتاج إلى وعظ أخلاقي

لا يقف التلفزيون وحيداً في هذا الأمر، على سبيل المثال. عرض أحد المخرجين الذين أعمل معهم، حديثاً، سيناريو خاصاً بنا على الاستوديو الذي نتعاون معه. وأخبرنا المديرون التنفيذيون، اعتراضهم لأن الشخصيات كانت غامضة للغاية من الناحية الأخلاقية، وجرى تكليف فريق العمل بالبحث عن مواد يكون الدرس الأخلاقي فيها واضحاً؛ تجنباً لإثارة انزعاج قاعدة القراء. أما ما لم يتفوه به هؤلاء المسؤولون صراحة، ولم يكونوا في حاجة إلى قوله من الأساس، أنه في ظل غياب التمويل الفيدرالي الكافي للفنون، أصبح الفن الأميركي مرتبطاً بالسوق. ولأن الأموال محدودة، لا تود الكثير من الشركات دفع ثمن قصص قد يعترض المشاهدون عليها، إذا كان بوسعهم شراء مادة يمكنها التحرك بلطف في خلفية حياتنا.

بيد أنه في واقع الأمر ما يقدمه لنا الفن بالغ الأهمية؛ تحديداً لأنه لا يكتفي بالعمل كخلفية لطيفة، أو منصة لتوجيه إرشادات مبسطة. الحقيقة أنه بمقدور كتبنا ومسرحياتنا وأفلامنا وبرامجنا التلفزيونية أن تقدم لنا الكثير، عندما لا تكون بمثابة كتيبات لإرشادات أخلاقية، وإنما تسمح لنا بإلقاء نظرة أعمق على قدراتنا الخفية، والعقود الاجتماعية الزلقة التي نعمل داخلها، والتناقضات التي تعتمل بداخلنا جميعاً.

نحن في حاجة إلى المزيد من الروايات التي تخبرنا بالحقيقة حول مدى تعقيد العالم الذي نعيش فيه. إننا في حاجة إلى قصص تساعدنا على تسمية المفارقات وقبولها، وليس تلك التي تمحوها أو تتجاهلها. وغالباً ما يسهم ذلك، في نهاية المطاف، في جعل تجربتنا في العيش داخل مجتمعات مع بعضنا بعضاً أكثر مرونة وقابلية للتغيير، عنها إذا التزمنا برؤية صارمة تقوم على الأبيض والأسود. وكلما زاد عدد الجماهير التي تؤمن بأن وظيفة الفن هي التوجيه، بدلاً عن التحقيق، وإصدار الأحكام بدلاً عن طرح التساؤلات، والبحث عن الوضوح السهل، بدلاً عن الشكوك، وجدنا أنفسنا أكثر داخل ثقافة جامدة، تفتقر إلى الفضول، وتقوم على الأحكام الفورية الجاهزة.

وفي ظل هذا العالم المثير للإدانة والانقسام والعزلة، يصبح الفن - وليس الوعظ الأخلاقي - أكثر أهمية عن أي وقت مضى.

* مؤلفة وكاتبة مسرحية وأحدث منشوراتها رواية «ستكون هناك مشكلة»

خدمة «نيويورك تايمز»



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي