الأدب في موازين السوق الحرّة

إيغلتون يكتب عن التغيّرات المتطرّفة التي صاحبت الحرفة الأدبية

الأدب في موازين السوق الحرّة
TT

الأدب في موازين السوق الحرّة

الأدب في موازين السوق الحرّة

كالعادة، وكما هو متوقّعٌ منه كلّ سنة، لم يتأخّرْ تيري إيغلتون Terry Eagleton، المشتغل في حقل الأفكار العامة والدراسات الثقافية، في طرح نتاجه الذي صار واحداً من تقاليد منشورات جامعة ييل الأميركية المعروفة بسطوتها النخبوية. لم أتأخّرْ كعادتي في قراءة مقدّمة الكتاب الجديد لإيغلتون الذي اختار لكتابه عنوان الشيء الواقعي: تأمّلاتٌ في شكل أدبي

The Real Thing: Reflections on a Literary Form

والكتاب حديث النشر من مطبوعات جامعة ييل لعام 2024.

لستُ أبتغي هنا تقديم قراءة أو مراجعة للكتاب رغم أنني قد فعلتُ مع كتب سابقة لإيغلتون نشرتها جامعة ييل. حفّزني هذا الكتاب على التفكّر الحثيث في التاريخ الفكري لتطوّر الأدب ومتفرعاته (النقد الأدبي مثلاً) في سياق تطوّر السياسات (الدراسات) الثقافية على المستويين الشخصي والجمعي.

ويصلحُ إيغلتون ذاته مثالاً قياسياً للتغيّرات المتطرّفة التي صاحبت الحرفة الأدبية منذ سبعينات القرن الماضي حتى يومنا هذا. الرجل ماكينة عمل منتجة وخلّاقة، ولا أظنّه سيتوقّفُ يوماً عن العمل والإنتاج. السؤال هنا: ما طبيعة عمله اليوم؟ وكيف يتمايز عن أعماله السابقة؟

بدأ إيغلتون عمله في عصر ما بعد الحداثة التي تكاثفت غيومها فأمطرت مفاهيم جديدة مبشّرة بميتات عديدة (موت المؤلف مثلاً)، وخالقة لممارسات ثقافية غير مسبوقة، وناسفة للسرديات الكبرى. صارت الموضوعات الصغيرة التي يمكن توليفها في صورة كولاجية أهم بكثير من مقاربة السرديات الكبرى التقليدية (ولادة، حياة، موت، شيخوخة،،،،). تناغمت النظرية الأدبية في هذه الحقبة مع المستجدات الأدبية، وعدّل النقّاد الأدبيون من طبيعة عُدّتهم النقدية بما يتماشى مع الاشتراطات الجديدة. لم يخرج إيغلتون عن سرب النقد ما بعد الحداثي، وجاءت أعماله تطبيقاً متوقعاً لمواضعات ما بعد الحداثية في خريطة الأدب، رغم أنه (إيغلتون) حرص على تضمين أعماله جرعة آيديولوجية ماركسية الطابع، ربما يصح لنا توصيفها بالماركسية المتثاقفة.

حصلت الانتقالة الفكرية الثانية لإيغلتون مع انحسار أطروحات ما بعد الحداثة وشيوع الدراسات الثقافية بديلاً ممكناً ومقبولاً للنقد الأدبي. لم يعد مقبولاً في هذه الحقبة أن يُنْظَرَ إلى الأدب على أنه مملكة جمالية معزولة يمكن تشريح عناصرها باستخدام مبضع الناقد الأدبي (الكلاسيكي)؛ بل لم يعد وارداً الحديثُ عن ناقد أدبي في عصر الدراسات الثقافية. لم يعد الأدب خبرة شخصية محصورة في نطاق الرؤى الجمالية والاعتبارات البلاغية والألاعيب اللغوية والتبصّرات الفلسفية بقدر ما صار ميداناً اختبارياً لاشتباك عناصر مؤثرة في النسيج الفردي والمجتمعي على شاكلة: الذاكرة، الهوية، النوستالجيا، الهجرة، الإعطاب Trauma النفسية، النسيان، التابع والهامش في مقابل المركزيات المهيمنة. أظنُّ أنّ كتاب ما بعد النظرية After Theory (مترجم إلى العربية) الذي كتبه إيغلتون عام 2004 هو مرثية ضاجّة للنظرية الأدبية والثقافية (الكلاسيكية) مثلما فعل مع ما بعد الحداثة في كتابه أوهامُ ما بعد الحداثة. أراد إيغلتون في كتابه ما بعد النظرية تحقيق هدفين: الأول، تقديم مسح تاريخي لتطوّر النظرية الثقافية منذ ستينات وحتى تسعينات القرن العشرين، مع التأشير الواضح على ما رآه إيغلتون مكامن الإنجاز والعطب في تلك النظرية؛ أما الهدف الثاني فهو تأسيسُ نظرية ثقافية بديلة تستبدلُ بالتعامل مع الموضوعات (الأدبية) الكلاسيكية، موضوعات ثقافية جديدة جرى التعتيم عليها أو تغافلها من قبلُ، على شاكلة: الحقيقة، الموضوعية، النسق الأخلاقي، الثورة، الأصولية،،،. تداخلت النظرية الثقافية بكيفية عضوية مع النظرية الأدبية؛ وعليه صار في عداد البديهة العامة أن يستظلّ النقد الأدبي بظلال النقد الثقافي. لكن هل يوجد نقد ثقافي حقيقي؟ نحن سمعنا بالدراسات الثقافية. الحقُّ ليس مِنْ خلفية مفاهيمية تُعْلي شأن أي نقد سواء أكان أدبياً (كلاسيكياً) أم ثقافياً (في سياق الدراسات الثقافية). التسويغ هو أنّ واحداً من مرتكزات ما بعد الحداثة وما بعد النظرية هو الإطاحة بفكرة وجود ناقد أدبي أو ثقافي. هناك دارسٌ أو مشتغل ثقافي فحسب. إنّ فكرة الناقد، أيّاً من كان، تتأسّسُ على وجود مرجعية تقييمية كما مدرّس المدرسة الذي يُعهد إليه أمر ترتيب الدارسين في توزيعات تمييزية طبقاً لإنجازاتهم المدرسية. الأدب أو الثقافة ليس مدرسة أو جامعة، ومن غير المنطقي أن يلعب فيها الناقد دوراً مرجعياً. المرجع هو القارئ. أنت تقرأ وترى ما قد يكون ملائماً ومتناغماً مع ذائقتك الأدبية والثقافية بعامة. لستَ في حاجة لوسيط مرجعي من أي لون أدبي أو ثقافي. لن يقبل كثيرون بهذه التخريجة وبخاصة مَنْ تحصّلوا على شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي. سيرون في هذا تغييباً لمكانتهم الأكاديمية وانحساراً لأدوارهم على الصعيدين الجامعي التخصصي والثقافي العام؛ لكنّ هذه بعض تشكّلات عصرنا وما يستلزمه من تبدّلات. ماذا سيفعل أطباء الأشعة مثلاً لو بلغ الذكاء الاصطناعي طوراً صار قادراً فيه على تشخيص الأمراض عبر قراءة الصور الشعاعية بأفضل مما يفعل الأطباء الممارسون؟ لا مفرّ من أن ننقاد إلى قوانين العصر ومتطلباته، وأن نُغلّب المصالح العملية على الآيديولوجيا أو التقاليد الكلاسيكية غير المنتجة.

يبدو أنّ قوانين السوق الحرّة لم تعُد تقبل المكوث في النطاقات الاقتصادية؛ بل امتدّت إلى عالم الأفكار. حتى الدراسات الثقافية ما عادت غطاءً مقبولاً لكي يستظلّ الأدب (والنقد الثقافي) بظلّه. تعاظمت الدعوات للتعامل مع الأدب كمنتج سلعي مطروح في سوق حرّة، ودينامياتُ هذه السوق هي الفاعل الوحيد الذي يجب العمل على جعله مسباراً لفرز الأعمال من حيث مقروئيتها. المقروئية صارت هي العنصر الحاسم في تحديد مكانة الكاتب والكتاب، والـ(بست سيلرز Best Sellers) هي المؤشر الوحيد على المكانة، وكلّ ما عدا قوانين السوق الحرّة لن يكون سوى كابح اصطناعي مشابه للقوانين التقييدية في الدولة الشمولية التي هي العنوان الشامل للأدب الأورويلي Orwellian Literature (إشارة إلى جورج أورويل). هكذا تمّ تحييد الناقد الأدبي والثقافي عبر تحطيم فكرة المرجعية الأدبية والثقافية أولاً، ثمّ بمدّ سياسات السوق الحرة إلى ميدان الأدب والاشتغالات الثقافية.

جرّبتُ بنفسي اختبار هذه الحقيقة. الاختبارُ في غاية اليُسْر: سأعملُ على البحث في أمازون على الكتب الجديدة التي تنتمي لحقل النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين. كثرة المنشورات في حقل معرفي دلالة مؤكّدة على شيوع ذلك الحقل وسطوته في حياتنا السائدة. مصداقُ ذلك مثلاً أنّ أحدنا لو جرّب البحث في أمازون عن كتب في الذكاء الاصطناعي لانهمرت عليه شلالات من العناوين في شتى حقول الذكاء الاصطناعي بحيث سيُدفعُ المرء دفعاً لتخصيص نطاق بحثه وحصره في نطاق ضيق، كأن يكون أخلاقيات الذكاء الاصطناعي مثلاً. عندما مضيت في تجربتي مع النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين ظهرت لي - كما توقّعت - عناوين محدودة، منها مثلاً: النقد الأدبي في القرن الحادي والعشرين: إعادة بعث النظرية

Literary Criticism in the 21st Century:

Theory Renaissance

هل لاحظتم العنوان الثانوي؟ إعادة بعث النظرية. هذه إشارة إلى أنّ النقد الأدبي (والنظرية الثقافية) توارتا تحت غطاء ثقيل فرضته حالة عالمية لا يمكن ردّها (هي العولمة الاقتصادية وقوانين السوق الحرة). هل سينجح مؤلف الكتاب في بعث أمجاد النظرية أو على الأقل جعلها تتواءم مع المتطلبات المعاصرة؟ لا أظنّ ذلك.

ربما ميدانٌ آخر هو مصداق إضافي على وضع النقد الأدبي والنظرية الثقافية في حياتنا الفكرية العامة، ذاك هو ميدان النشر. كان باب النقد الأدبي أحد الأبواب الرئيسية في المطبوعات الثقافية العالمية، صحفاً ومجلات ودوريات ومنشورات جامعية محكّمة ومراجعات الكتب. اليوم قلّما نجد عنواناً فيها تحت لافتة النقد الأدبي. مراجعات الكتب هي الطاغية، وحتى المراجعات هي أقرب لعروض حيادية لا تنطوي على أي جهد تقييمي. واضحٌ أنّ المراجعات تأتي في سياق السياسة الترويجية للكتاب وليس في سياق تقييم نقدي له. دور النشر صارت إمبراطوريات مالية عظمى، وليس من اليسير مواجهة سياساتها أو الكتابة بما يسيء إلى منشوراتها. نحن في سوق حرّة للأدب، معيارها هو المال المتحصل من بيع الكتاب الذي صار سلعة حقيقية - وليس رمزية فحسب - وسياساتها هي تعظيم مقروئية الكتاب عبر الترويج الممنهج له. كلّ ما يعرقلُ سياسة الترويج هو عنصر معطّل لسياسة السوق الحرة ويجب كبحه وإخراجه من اللعبة الأدبية.

لا أعرف كيف يصف إيغلتون نفسه اليوم. بدأ ناقداً أدبياً ماركسياً، ثمّ مُنظّراً ثقافياً، ثمّ مشتغلاً في حقل الأفكار العامة، وهذا ما تشي به عناوين سلسلة منشوراته السنوية في جامعة ييل الأميركية، ومنها كتابه الأخير عن الواقعية. أظنّه يقضي أيامه اليوم وهو مسكون بحنين لا ينقطع إلى سنوات سابقة كان فيها الأدب أبعد ما يكون عن سيف قوانين السوق الحرة؛ لكنّ الحظ شاء له أن يعيش ليشهد ما لم يتوقّع أن يشهده يوماً حتى في أقسى كوابيسه.

ليس لك يا إيغلتون، وليس لنا معك، سوى أن نتجمّل بالصبر ونرى إلى أين سينتهي الأدب في سوق حرّة متغوّلة. لم يعد مقبولاً في هذه الحقبة أن يُنْظَرَ إلى الأدب على أنه مملكة جمالية معزولة يمكن تشريح عناصرها باستخدام مبضع الناقد الأدبي (الكلاسيكي)



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.