قلائل القراء العرب الذين يعرفون الكاتب محمد مولسهول - (الضابط الجزائري السابق، والمقيم حاليا في فرنسا) رغم غزارة إنتاجه، وشهرته التي تخطت حدود الجزائر، وبات من الكتاب المعروفين عالميا وخصوصا في فرنسا كونه يكتب بالفرنسية تحت اسم مستعار (اسم زوجته يامينة خضرا التي أضاف له حرف سين فيما بعد ليصبح ياسمينة). ونيله جائزة «هنري غال» من الأكاديمية الفرنسية.
ياسمينة خضرا بدأ مشوارا أدبيا في الجزائر خلال أحلك الفترات التي مرت، وقد تعرض لانتقادات لاذعة لدفاعه عن الجيش الجزائري المتهم بالضلوع في بعض المجازر في العشرية السوداء (رواية بما تحلم الذئاب) رغم تأكيد أكثر من ضابط جزائري منشق هذه الوقائع في كتب نشرت فيما بعد. خضرا بأسلوبه المشوق والأقرب إلى الروايات البوليسية يشد القارئ ويجعله يندمج في النص حبكة وسردا. يكتب بلغة فرنسية رشيقة غزيرة التشبيه، بسيطة التركيب، أقرب إلى لغة الفرنسي العادي بمفردات منتقاة تضفي على النص سلاسة ورشاقة. مواضيعه منتقاة من معاناة الشعوب العربية بشكل عام، (عنف، إرهاب، تشرد، تطرف ديني..) ترجمها في مجموعة أعمال لاقت رواجا كبيرا في أكثر من بلد، وفي أكثر من لغة (سنونوات كابل، ابنة العم ك، حصة الموت، الصدمة، ما يدين به النهار لليل، الاعتداء، صفارات إنذار بغداد، العملية الانتحارية). في عمله الصادر صيف هذا العام، (ليلة الريس الأخيرة) يتقمص خضرا شخصية الزعيم الليبي السابق معمر القذافي في آخر ليلة في حياته قبل أن يقع في أيدي ثوار صبراتة الذين سحلوه، وانتهت حياته على أيديهم في مشاهد مرعبة لم تحصل لزعيم من قبل.
الكاتب يروي قصة الليلة الأخيرة (ليلة العشرين من أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2011) بلسان القذافي المحاصر في مسقط رأسه في مدينة سرت مع اثنين من رفاق دربه الطويل: وزير الدفاع أبو بكر يونس جابر، ورئيس الحرس الشعبي منصور ضو. وحارسته الأمينة أميرة، وبعض من حراسه.
الثوار في كل مكان يحاصرون المدينة لعلمهم أن العقيد القائد المطارد مختبئ في أحد مباني المدينة التي لم تسلم من القصف العشوائي المستمر على أحيائها.
القذافي في مسقط رأسه يسترجع ذكريات الطفولة عندما كان يعيش حياة فقر مدقع في الصحراء يتيم الأب، مع والدته وجده، يقض مضاجعه سؤال: كيف مات أبوه؟ ولماذا لا وجود لقبره؟ الجد يقول: إن الأب مات في مبارزة دفاعا عن الشرف، لكن الكاتب يروي حقيقة أخرى (لا نعرف إذا كانت معلومات مؤكدة، أم أنها مجرد خيال)، القذافي الذي أصبح ضابطا فيما بعد في الجيش الملكي، وكان ثائرا ضد الملكية، ويحرض زملاءه على الثورة، تم استدعاؤه من قبل ضابط الاستخبارات العسكرية النقيب جلال السنوسي لاستجوابه ليعلمه خلال جلسة الاستجواب أنه لقيط مجهول الأب، حتى إن البعض يشيع أن أباه ليس سوى طيار فرنسي من جزيرة كورسيكا يدعى ألبيرت بريزيوزي أسقط الألمان طائرته في عام 1941 خلال الحرب العالمية الثانية، في منطقة سرت، وأنه تمت معالجته من قبل قبيلة القذاذفة، وأنه أقام علاقة مع والدة القذافي قبل أن يختفي.
هذه الحادثة التي بقيت تحفر في رأسه، والتي اعتبرها أكبر إهانة توجه له من قبل ضابط المخابرات، جعلته ينتقم منه شر انتقام بعد أن استلم السلطة بجعله يحفر قبره بأظافره.
انتقام آخر لإهانة أخرى تعرض لها الزعيم تتعلق هذه المرة بفاتن ابنة مدير مدرسة سبها في فزان التي درس فيها، حبه الأول الذي لم ينسه رغم السنين التي باعدته عنها، ليلتقي بها مرة أخرى عندما بات ضابطا ملكيا. في منزل والدها الذي بات من علية القوم، وأحد أعيان طرابلس يطلب منه يدها، لكن الوالد الذي وجد أن الشاب الضابط لا يليق بمقام العائلة يرفض طلبه بجملة نحرت فؤاده: «اذهب يا بني لا بد وأن تجد فتاة على قدر مكانتك» ولم يكن يعلم أن هذه الجملة ستكون سبب نهايته في عام 1972عندما أصبح الشاب الضابط في السلطة، وبحث عن فاتن ليجدها متزوجة من رجل أعمال غني وأنجبت ولدين. فأمر رجال مخابراته بإحضارها ذات صباح ليغتصبها خلال أسابيع ثلاثة، بعد سجن الزوج بتهمة تهريب أموال، أما الوالد فقد خرج ذات يوم ولم يعد.
أميرة المرأة الوحيدة التي لازمته كحارسة شخصية، وخليلة عند الحاجة، كانت هي أيضا مع المجموعة المحاصرة في خدمة العقيد القائد كممرضة مهمتها حقنه بجرعات الهيروين التي اعتاد عليها. في تلك الليلة حقنته بجرعته الأخيرة، وعرضت نفسها عليه كالمعتاد، لكن تلك الليلة لم يكن بالمزاج الذي يدفعه لقضاء ليلة مع حارسته الأمينة، ففي رأسه شواغل كثيرة، ومخاوف لا تقل عن مخاوف رجل يرى قرب نهايته، خاصة بعد النقاش العاصف مع رئيس الحرس الشعبي منصور ضو (الوحيد الذي بقي على قيد الحياة) الذي تجرأ لأول مرة على الكلام في تلك الساعات الأخيرة القلقة والحزينة التي سترى نهاية زعيم، ونهاية نظام.
في حوار مع منصور ضو حاول الكاتب أن يضع على لسانه كل ما كان يفكر به كل ليبي دون أن يستطيع البوح به.
ردا على سؤال: ما الذي جعلنا ننتهي هذه النهاية، ودفع الشعب الليبي لحمل السلاح ضد قائد ثورة الفاتح الذي وعدهم بالمن والسلوى، وجعل ليبيا جنة تجري من تحتها الأنهار؟ لماذا كل هذا الجحود، وعدم الاعتراف بالجميل، يا منصور ضو؟.
في حالة من اليأس، والقنوط، وسواد الأفق، يصرخ القذافي قائلا للثوار إنه سيلاحقهم «زنقة زنقة، ودار دار».
لم يكن أمام ضو إلا أن يبوح بما ضاق بصدره سنوات وسنوات ويكشف لقائد المسيرة أنه أخطأ: «هل نسيت أيها الأخ القائد عملية تفجير طائرة لوكيربي، وعملية تفجير طائرة يو تي إيه، ومجزرة سجن أبو سليم ليلة التاسع والعشرين من 1996.. لا بد أننا أخطأنا». هذا الحوار العاصف بين الرجلين لم يثن الزعيم عن رفضه للحقيقة الفاقعة. فهو يدافع عن الوطن من الخونة والمتآمرين والطامعين، وهو الثائر ضد الظلم ولا يسعه أن يسمع صوتا آخر غير صوته. ولو كان هذا الحوار قد حدث في يوم عادي لكان منصور ضو من عداد المفقودين. لكن هذه الليلة لا مجال لمعاقبته على معارضة الزعيم، فالقصف في الخارج على أشده والحصار يضيق ولا بد من الخروج من الوحدة رقم 2 صباحا قبل أن يصل الثوار، وبانتظار المقدم إبراهيم طريد، والمعتصم القذافي يجب تهيئة الخطة مع وزير الدفاع أبو بكر يونس.
الخطة جاهزة، وفرقة الحماية وصلت بقيادة المعتصم، وانطلق الموكب باتجاه الجنوب، لكن حسابات وزير الدفاع وخطته لم تتم كما كانوا يشتهون، فالقصف المستمر أصاب الموكب، هل هي ضربة من قبل الطيران الفرنسي، هل هي ضربة من قبل قوات الحلف الأطلسي، أم أنها ضربة عشوائية جاءت من الثوار؟ لا شيء يؤكد ما وقع. لكن الأكيد أن الموكب ترجل، وتفرق الفريق كل ينشد النجاة َبنفسه، فعاجل الموت وزير الدفاع، وأسر المعتصم القذافي (الذي قتل فيما بعد)، وتم إلقاء القبض على الزعيم، الأخ القائد، لتكون نهايته على أيدي شعبه، في تلك اللحظات الأخيرة، من حياته، يرى شبح الفنان فان غوغ الذي زج الكاتب به ليلازم خيال الزعيم ويرى فيه مثلا يحتذى بحالته الجنونية، وحسن الطالع في كل مرة يتراءى له، ولكن هذه المرة جاء شبح الفنان ذي الأذن المصلومة، متأخرا. متأخرا جدا.
القذافي في ليلته الأخيرة
{ياسمينة} خضرا يتقمص شخصية الزعيم الليبي السابق قبل أن يقع في أيدي ثوار صبراتة
القذافي في ليلته الأخيرة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة