معرض مسقط للكتاب يواصل برامجه الثقافية

يختتم أعماله السبت المقبل

من الفعاليات الثقافية في معرض مسقط للكتاب.
من الفعاليات الثقافية في معرض مسقط للكتاب.
TT

معرض مسقط للكتاب يواصل برامجه الثقافية

من الفعاليات الثقافية في معرض مسقط للكتاب.
من الفعاليات الثقافية في معرض مسقط للكتاب.

يواصل معرض مسقط الدولي للكتاب، فعالياته الثقافية، وسط حضور لافت للجمهور في أروقة المعرض الذي تشارك فيه 847 دار نشر تمثل 34 دولة، ويستمر حتى يوم السبت المقبل.

تجارب في الترجمة

وأقيمت أمس جلسة حوارية حول دور الباحث الغربي المستعرب في دراسة ونقل النصوص العربية إلى لغات أجنبية وسلطته على اللغة التي يترجم لها النص.

وتحدث المترجم البروفسور بيار لارشيه عن تجربته في ترجمة عددٍ من الأعمال الأدبية العربية وخاصة الشعر العربي القديم، قائلاً: «إن الترجمة عمل صعب سواء كنتَ تُترجم لأسباب اجتماعية أو ثقافية، فهو تحدٍّ بالدرجة الأولى ومن التحديات التي يواجهها أثناء الترجمة أيضاً إيجاد الكلمات المناسبة في اللغة الفرنسية التي يمكن أن تعبر عن النص؛ ففي كثير من الأحيان لا تتضمن اللغة الفرنسية كلمات مشابهة في اللغة العربية؛ مما يجعل المترجم يلجأ إلى إعادة صياغة الكلمات العربية».

وأوضح أنه في ترجمته للعديد من الأعمال الشعرية وتحديداً الشعر الجاهلي فإنه يحاول أن يحافظ على شعرية النصوص رغم ممارسته سلطته على النص خلال الترجمة؛ فهو يحدث عليها تغيرات في القافية أو الوزن أحياناً.

من جانبه، قال المترجم ستيفان ويندر إنه يسعى دائماً لنقل النص العربي المترجم كما هو ويركز على المصطلحات بشكل كبير بسبب وجود اختلاف في الترجمات ما بين ترجمة الشعر أو الرواية أو غيره، مع ضرورة مراعاة وجوب نقل الثقافة دون تغيير بسبب نقلها لمجتمع ولثقافة جديدة كلياً.

وأشار إلى أنه يجب أيضاً مراعاة الوقت والفترة الزمنية التي نترجم لها؛ فكل جيل يحتاج إلى إعادة ترجمة للأعمال الأدبية؛ فالبعد الزمني والثقافي يقوم بدور حين تخاطب جمهوراً جديداً بأعمال قديمة، مشيراً إلى حاجة المترجم لمساعدة المعاجم القديمة والحديثة حتى يكون لديه إلمام بالمفردات دون المساس بمعناها الأصلي.

وأوضح أن المترجم يسيطر على النص ولو لم يكن يريد ذلك؛ فالنص صامت ومكتوب وعلى المترجم استخراج لغته التي يترجم إليها؛ فبعض الكلمات غير موجودة في قاموس اللغة المترجم إليها لكن تبقى علاقة المترجم بالنص علاقة أخلاقية معقدة، ولكن هناك ضرورة لإعطاء النص الأصلي حريته دون المساس بها في الوقت نفسه، محاولاً إيجاد لغة جديدة، وهو ما يقصد به الإبداع في اللغة.

وأكد على أن المترجمين نجحوا في نقل الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة إلى ثقافات أخرى، فإنه لا توجد ترجمات قديمة للأدب العربي للغات أجنبية ولكن اليوم هناك أكثر من 500 عمل أدبي عربي مترجم إلى اللغة الألمانية.

جلسة حوارية بعنوان «الكتاب الصوتي في منصة عين نحو تعزيز الثقافة الرقمية» ضمن الفعاليات الثقافية المصاحبة لمعرض مسقط الدولي للكتاب.

الكتاب الصوتي

وأقيمت مساء أمس جلسة حوارية بعنوان «الكتاب الصوتي في منصة عين نحو تعزيز الثقافة الرقمية» أدارها خلفان العامري، وشارك كل من: سيف الشيذاني وأحلام البلوشية من منصة عين.

وتحدث سيف الشيذاني خلال الجلسة عن المعايير التي من خلالها يتم اختيار الكتب الصوتية التي منها: الأهمية العلمية والتاريخية والفئات المستهدفة وأيضاً التنوع، كما تحدث بالتفصيل عن مراحل إنتاج الكتاب بدءاً من اختياره ثم تدقيقه لغوياً ثم اختيار الشخص المناسب لقراءة هذا الكتاب.

وأوضح أن اختيار القارئ أيضاً يتم بناءً على معايير محددة، منها تناسبه مع المادة المقروءة، فالروايات مثلاً تحتاج إلى دور قادر على الأداء الدرامي، والأعمال ذات الطابع التاريخي تحتاج إلى طبقة صوت فخمة، وأعمال الأطفال تحتاج إلى أصوات ذات نبرات خاصة، كما أن من معايير اختيار القارئ أيضاً التمكن اللغوي والنطق الصحيح لمخارج الحروف.

من جانبها، تحدثت أحلام البلوشية عن نماذج الكتب الصوتية الموجودة في المنصة، مشيرة إلى أن أقصى مدة لكتاب موجود في المنصة هي 12 ساعة وهو كتاب الآثار الشعرية لأبي مسلم البهلاني، بينما بلغت أقصر مدة نصف ساعة وهي لكتاب في أدب الطفل.

«آفاق المعرفة»

وأطلقت وزارةُ الثقافة والرياضة والشباب برنامج إدارة المكتبات «آفاق المعرفة»

بمعرض مسقط الدولي للكتاب، حيث يأتي إطلاق البرنامج في إطار سعي الوزارة للاهتمام بقطاع المكتبات والمراكز الثقافية الأهلية لتطوير بنيتها الأساسية والارتقاء بالخدمات المعرفية التي تقدمها للمجتمع، وتحقيقاً لرؤية عُمان 2040 والاستراتيجية الثقافية من خلال تفعيل الدور الثقافي للمؤسسات الأهلية وتوظيف التكنولوجيا لدعم برامج ومشروعات القطاع الثقافي وتطوير الإجراءات الإدارية المرتبطة بالعمل الثقافي.

وعملت الوزارة على توفير نظام (آفاق المعرفة) للمكتبات التابعة لها والمكتبات والمراكز الثقافية الأهلية، حيث يبلغ عدد المكتبات الأهلية المسجلة (61) مكتبة، و(8) مراكز ثقافية أهلية بمختلف محافظات سلطنة عُمان.

ويتمثل البرنامج في كونه نظاماً رقميًّا متخصصاً في إدارة المكتبات يناسب المكتبات بمختلف أحجامها، والأعمال الإدارية الخاصة بها، كما أنه يتميز بتحرير آمن للبيانات، وتعدد مستويات المستخدمين وبناء صلاحيات الدخول، ويحتوي على سجل الاجتماعات المقامة والمستقبلية، وهو من البرامج الأكثر انتشاراً في سلطنة عُمان لإدارة المكتبات، مبني على لغة PHP وقاعدة بيانات MySQL ويقدم البرنامج العديد من الخدمات المتقدمة والمستحدثة للمكتبات، لا سيما الدعم الكامل لتكتلات أو تجمعات المكتبات والفهارس الموحدة عبر القدرات الفائقة على دمج أنظمة إدارة المكتبات للأعضاء في نظام واحد وقاعدة بيانات واحدة مع المحافظة الكاملة على خصوصية كل مكتبة وسرية البيانات والمعلومات الخاصة.

ويتميز البرنامج في التحكم الكامل في حسابات المستخدمين وفهرسة مصادر المكتبة بمختلف تصنيفاتها وتسهيل عمليات الإعارة والحجز والمتابعة وأرشفة الحجوزات والاجتماعات والأنشطة، وأهداف تطبيق برنامج آفاق المعرفة وتعزيز دور المكتبات والمراكز الثقافية الأهلية في توفير المعرفة، ومصادر المعلومات وتعزيز ثقافة القراءة والتعلم في المجتمع، وتطوير الخدمات المقدمة للمستفيدين من خلال استخدام التكنولوجيا وتنظيم مصادر المعلومات بشكل فعال وتوفير قاعدة بيانات شاملة تحتوي على مختلف أنواع مصادر المعلومات، مما يمكن المستفيد من الوصول السهل والسريع إلى هذه المصادر.

وسيسهم المشروع في تعزيز التواصل بين المكتبات والمراكز الثقافية الأهلية وبين المستفيدين من خلال استخدام تقنيات الاتصال، وتوفير مصادر معلومات إلكترونية ومصادر الوصول الحر للمستفيدين.



لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».