ثلاثمائة يوم على كارثة السودان المنسية

موت 13 ألف مواطن ونزوح 8 ملايين والعالم ينتظر بحياد مريب

آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)
آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)
TT

ثلاثمائة يوم على كارثة السودان المنسية

آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)
آثار مواجهات الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في الخرطوم (رويترز)

اضطرت القيادة العسكرية للجيش في حينه لإطاحة عمر البشير وتسلّم السلطة عبر مجلس عسكري انتقالي برئاسة المفتش العام للجيش وقتها الفريق عبد الفتاح البرهان، وينوب عنه قائد قوات «الدعم السريع» الفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، وضباط عسكريون آخرون أبرزهم الفريق شمس الدين الكباشي، والفريق ياسر العطا.

إلا أن المحتجين رفضوا أن يتسلم العسكر السلطة، واعتبروه «تحايلاً» على ثورتهم، فواصلوا اعتصامهم واحتجاجاتهم بقيادة تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» و«تجمع المهنيين السودانيين»، مطالبين بتسليم السلطة لقادتهم المدنيين. لكن العسكر الطامعين في الحكم استخدموا القوة المفرطة لفض الاعتصام، فقُتل نتيجة للعنف والرصاص والإلقاء مقيدين في نهر النيل أكثر من مائة معتصم مدني إضافة إلى عشرات المفقودين، فضلا عن حملة اعتقالات واسعة.

قائد الجيش ورئيس «المجلس العسكري الانتقالي» عبد الفتاح البرهان، خرج للعلن عقب فض الاعتصام، وأوقف التفاوض مع القوى المدنية على تسليم السلطة، ووعد بتشكيل حكومة انتقالية. إلا أن الشارع الثوري لم يتح له تنفيذ تعهداته، إذ استمرت الاحتجاجات المطالبة بتسليم الحكم للمدنيين، وشارك فيها ملايين السودانيين في مختلف مدن السودان، وأشهرها ما عرفت بـ«مليونية 30 يونيو» 2019، إذ خرج كل السودان – تقريبا – إلى الشوارع، متحدياً «الصدمة والترويع» الناتجة عن فض اعتصام القيادة العامة.

غريفيث (رويترز)

وعندها اضطر قائد الجيش ورئيس «المجلس العسكري الانتقالي» إلى العودة للتفاوض مع «قوى الحرية والتغيير» تحت الضغط الشعبي والشارع الثورة. وحقاً توصل الطرفان لتوقيع «الوثيقة الدستورية» الحاكمة للفترة الانتقالية بعد تفاوض شاق في 17 أغسطس (آب) 2019. وقضت «الوثيقة» بتقاسم السلطة السيادية بين المدنيين والعسكريين خلال فترة الانتقال، وتولي العسكريين رئاسة «مجلس السيادة» خلال الفترة الأولى، وأن تؤول الفترة الثانية للمدنيين، ومن ثم تكون السلطة التنفيذية «كاملة» من المدنيين، وحدّدت فترة انتقالية.

تكوّنت، وفقاً للوثيقة الدستورية، حكومة انتقالية بين تحالف «قوى إعلان الحرية والتغيير» - الذي حصل على «حصة الأسد» من السلطة - من مجلسين:

1 - مجلس سيادي يضم 11 عضواً هم خمسة عسكريين يختارهم الجيش وخمسة مدنيين تختارهم «قوى الحرية والتغيير» وعضوا مستقلا يصار إلى اختياره بالتشاور بين الطرفين.

2 - ومجلس وزراء مدني بالكامل، على أن يترأس المجلس السيادي في المرحلة الأولى من الانتقال العسكريون، والفترة الثانية تنتقل السلطة السيادية إلى المدنيين.

أيضاً، توافق المدنيون والعسكريون على أن يتولى الفترة الأولى رئيس «المجلس العسكري الانتقالي» وقائد الجيش (وقتها) الفريق عبد الفتاح البرهان، وينوب عنه قائد قوات «الدعم السريع» الفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي»، بينما شكّل المدنيون مجلس وزراء اختاروا له الأكاديمي الاقتصادي والموظف الأممي الرفيع الدكتور عبد الله حمدوك رئيساً، الذي أدى اليمين الدستورية 21 أغسطس 2019، وشكل حكومته من مدنيين رشحتهم «قوى الحرية والتغيير» باستثناء وزيري الدفاع والداخلية، فترك أمر ترشيحهما للعسكريين.

«انقلاب»... وتراجعلكن العسكريين الطامعين في الحكم (أي قائد الجيش وقائد «الدعم السريع»)، وبتشجيع ودفع من الحركة الإسلامية – الاسم السوداني لتنظيم الإخوان المسلمين – وحزبها «المؤتمر الوطني»، دبروا انقلاباً عسكرياً على الحكومة المدنية بقيادة الدكتور حمدوك، وألقوا القبض على الوزراء والسياسيين بمن فيهم رئيس الوزراء، وأعلنوا «حالة الطوارئ» العامة في البلاد.

البرهان (آ ف ب)

لم يستطع الانقلابيون المدعومون بالإسلاميين وبعض قادة الحركات المسلحة الموقّعة على «اتفاق سلام السودان» في جوبا، بعد انقلابهم إدارة البلاد، فقد واجهوا معارضة شعبية سلمية واسعة وشجاعة، اندلعت ضد انقلابهم حتى قبل إذاعة بيانه. ورغم العنف الذي استخدم ضد المحتجين السلميين ومقتل المئات منهم معظمهم من الشباب والنساء وبينهم أطفال، استمر التظاهر والاحتجاج على الانقلاب، فإذا بشريك الانقلاب قائد قوات «الدعم السريع» يعلن «فشل الانقلاب»، وتأييده لعودة الحكم المدني قائلاً إنه «خُدع» بانقلاب أعاد النظام السابق إلى الواجهة مجدداً.

وإزاء ذلك «اضطر» العسكريون للمرة الثانية للعودة للتفاوض مع المدنيين، ووقعوا معهم ما عرف بـ«الاتفاق الإطاري» في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2023، ونص على تكوين حكومة مدنية انتقالية جديدة، وعلى إزالة تمكين نظام الإسلاميين ومحاسبته، وتكوين جيش وطني موحد.

عقب توقيع «الاتفاق الإطاري»، نُظّمت عدة ورش عمل الهدف منها إعداد الدراسات اللازمة لحل قضايا البلاد، وفقا لرؤى متوافق عليها بين أعرض تراصف وطني مدني وعسكري، شملت الاقتصاد وكيفية الحكم، وبينها «القشة التي قصمت ظهر البعير» التي هي «ورشة الإصلاح الأمني والعسكري». ولكن بعدما أكملت التوصيات قاطعها الجيش السوداني، ووافقت عليها قوات «الدعم السريع».

وكان الاتفاق النهائي مقرراً بين الجيش والمدنيين في 6 أبريل (نيسان) 2023، إلا أن الحركة الإسلامية وأنصار النظام السابق وحلفاء «انقلاب أكتوبر (تشرين الأول) 2021» الذي أطاح حكومة حمدوك، شنوا حملات ترهيب وتخويف عنيفة، حال توقيع هذا الاتفاق، وتصاعدت الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع» وبلغ التوتر ذروته بين الطرفين. وتمثلت أبرز الخلافات بشكل أساسي على سنوات إدماج «الدعم السريع» وقوات الحركات المسلحة في الجيش. ففي حين «اقترحت (الدعم السريع) إكمال العملية في غضون سنوات، أصر الجيش على إكمالها خلال أشهر. كذلك ثار خلاف عنيف على الهيكل القيادي خلال فترة الانتقال، فالجيش تمسك بأن تكون القوات بما فيها «الدعم السريع» تحت إمرة القائد العام للجيش، بينما رأى «الدعم السريع» أن تكون قيادة القوات تحت إمرة القائد الأعلى للقوات وهو «رئيس الوزراء المدني» وفقا لنصوص مشروع الاتفاق.

هجوم 15 أبريل حاولت القوى المدنية الموقعة على «الاتفاق الإطاري» إزالة التوتر بين الجيش و«الدعم السريع»، وكادت أن تتوصل إلى اتفاق، إلاّ أن الجميع فوجئوا صبيحة السبت 15 أبريل (نيسان) بقوة عسكرية تابعة للجيش تهاجم قوات «الدعم السريع» في معسكر «المدينة الرياضية» جنوبي الخرطوم. وهو الهجوم الذي تعتبره «الدعم السريع» شرارة الحرب، بينما يعتبر الجيش ومؤيدوه أن الحرب بدأت لحظة استجلاب «الدعم السريع» قوات إلى الخرطوم، ومحاصرة القاعدة الجوية في مطار مروى بشمال البلاد. وهكذا اندلعت الحرب التي لم تتوقف وأصابت البلاد بخراب شامل وكامل، وكل طرف يتهم الآخر بإشعال شرارتها.

"حميدتي" (رويترز)

كابوس إنساني

بحسب مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، خلفت الحرب «أحد أسوأ الكوابيس الإنسانية في التاريخ الحديث». وكان غريفيث قد حذر في تصريحات الأسبوع الماضي بقوله «لا تنسوا السودان، وهذه رسالتي البسيطة التي أرغب في توجيهها لكم». ووصف الأوضاع في السودان بأنها أسوأ مما هي عليه في «أوكرانيا» بقوله «عندما كنت قبل أسابيع هنا أدعو لتذكر أوكرانيا لأنها خرجت من الأخبار، لكن من الواضح أن السودان في حالة أسوأ من أوكرانيا، وهو في حاجة إلى اهتمام ورعاية كبيرين من طرفنا».

ووفق آخر إحاطات «منظمة الهجرة الدولية» (IOM) الصادرة 14 فبراير (شباط) الحالي، التي تتابع النزوح في السودان، فإن 6.217.222 فرداً نزحوا داخليا منذ اندلاع القتال منتصف أبريل الماضي، 57 في المائة منهم نزحوا من ولاية الخرطوم، و32 في المائة منهم من دارفور، والباقون من أكثر من 12 ولاية من جملة 18 ولاية.

وأفادت مصادر أخرى تتابع النزوح بأن ما يقدر بنحو 1.803.213 شخصا هاجروا إلى بلدان الجوار عبر الحدود، مثل مصر وتشاد وجنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا، وأيضاً إلى دول خليجية، بينا ذكرت تقارير أن من بين كل 8 نازحين أو لاجئين حول العالم لاجئا سودانيا على الأقل. وأشارت «الهجرة الدولية» إلى أن انقطاع الاتصالات والإنترنت في البلاد منذ 6 فبراير (شباط) الحالي، أعاق وصول فرقها الميدانية، ولذا عجزت عن تقديم معلومات محدثة إلى مكاتبها، وكان آخر تحديث لبياناتها في 2 فبراير 2024.

من جهة ثانية، وفقا لتقارير صحافية سودانية فإن ملايين النازحين واللاجئين يعيشون ظروفا إنسانية بالغة التعقيد، فداخلياً يعوق استمرار القتال وتعنت طرفي الحرب إيصال المساعدات الإنسانية للنازحين، بينما يعاني مئات الآلاف منهم في دول الجوار أوضاعا إنسانية بالغة التعقيد. وبالفعل نقلت مواقع التواصل الاجتماعي صوراً لمئات اللاجئين وهم يتكدّسون في المساجد في إريتريا المجاورة، على سبيل المثال. وأفادت «الهجرة الدولية» بأن نحو 18 مليون شخص مهددون بظروف صعبة بسبب الغارات الجوية وقصف المستشفيات والسجون والمدارس وغيرها من المرافق في المناطق السكنية المكتظة، وأيضاً انتشار الأمراض الحادة، بشكل خاص الكوليرا وحمى الضنك والملاريا، في عدد من الولايات، في ظل استمرار التدهور السريع للظروف الصحية، وافتقار الملايين لمياه الشرب النظيفة، وارتفاع تكاليف الغذاء والدواء والوقود، وتفاقم انعدام الأمن الغذائي.

ويقول «برنامج الأغذية العالمي» إن أجزاء كثيرة من السودان معرّضة الآن بشكل كبير «لظروف جوع كارثية» من دون مساعدات غذائية إضافية، في حين تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 25 مليون شخص، أو أكثر من نصف سكان السودان البالغ 45 مليونا، يحتاجون إلى المساعدة والحماية.

خسائر جسيمة لحقت بالمدنيين والعسكريين على السواء

> بلغ حصاد الأرواح في السودان، لتاريخه، نحو 13 ألف ضحية مدنية، وعشرات الآلاف من الجرحى الذين لا يحصل الكثيرون منهم على العلاج بسبب خراب البيئة الصحية. ولقد قتل وأصيب معظم هؤلاء بالقصف الجوي للطيران الحربي التابع للجيش، أو عن طريق القصف المدفعي العشوائي الذي يمارسه طرفا القتال، أو عن طريق الرصاص الطائش، أو أحيانا الموت تحت التعذيب في معتقلات طرفي القتال. وتذكر تقارير صحافية أن أعمال عنف وتعذيب واسعة تمارس ضد المعتقلين من المدنيين والعسكريين في معتقلات استخبارات طرفي القتال، وترجح التقارير أن عشرات الآلاف من الأسرى لدى قوات «الدعم السريع» يتعرضون لانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، وعدد أقل لدى استخبارات الجيش، وعادة ما يواجه المعتقلون من الطرفين الاتهام بموالاة الطرف الآخر، والعمل ضمن استخباراته، وتمارس عليهم الضغوط والتعذيب للحصول على معلومات عنه. وذكرت اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان في بيان لها أن الحرب حصدت أرواح السودانيين وجعلت من الوضع الإنساني في البلاد «كارثة معقدة»، وأن الفئات الضعيفة من المجتمع «الأطفال وكبار السن والنساء الحوامل» تواجه تعقيدات جمّة في الهرب من القتال وتتعرض تبعا لذلك حياتهم للخطر. أما بالنسبة للعسكريين، فمنذ اندلاع الحرب لم يكشف أي من طرفي القتال حجم خسائره البشرية، ناهيك عن خسائره المادية، ولا أحد يعلم عدد الشباب المشاركين في القتال الذين راحوا ضحية للتحشيد والتحشيد المضاد. لكن ضابطاً رفيعاً في الجيش السوداني ذكر في «فيديو» على صفحته على «فيسبوك» أكثر من 30 جنرالاً من قيادات الجيش قتلوا أو أسروا من قبل «الدعم السريع» على رأسهم المفتش العام للجيش الفريق مبارك كوتي، الذي لا يزال أسيرا منذ اليوم الأول للحرب. وذكر العميد طبيب طارق كجاب أن عدداً من كبار قادة الجيش السوداني قتلوا، بينهم ضابط برتبة فريق، وخمسة برتبة لواء (الفريق حمد عبد القيوم، قائد قوات المدرعات، واللواء أيوب عبد القادر واللواء حسن عرديب واللواء هاشم إبراهيم واللواء ياسر فضل الله، واللواء متوكل)، وما لا يقل عن 16 ضابطا برتبة عميد. ووفقا لتراتبية الجيش السوداني، فإن عدد القتلى من كبار الضباط يشير إلى عدد القتلى من صغار الضباط والجنود خلال الحرب، وهو في أقل التقديرات لا يقل عن عشرات الآلاف. أما «الدعم السريع» فلم تعلن عن عدد قتلاها، سوى كبار الضباط أو القادة، ولا توجد إحصائيات رسمية أو حتى غير رسمية توضح العدد الفعلي لقتلى هذه القوات، باستثناء ما تنشره بعض صفحات التواصل الاجتماعي الموالية لها عن مقتل قادة ومقاتلين، وما يصدر عن الجيش من أنه «قتل عددا كبيرا منهم». وكان مساعد القائد العام الفريق ياسر العطا قد ذكر في تصريحات أغسطس (آب) الماضي، ونقلتها «الشرق الأوسط» وقتها، أن الجيش قضى على 80 في المائة من قوات «الدعم السريع» التي بدأت الحرب بأكثر من مائة ألف مقاتل، وهو رقم - إن صح – يعني نهاية الحرب.

الخراب الاقتصادي والأزمة الصحية

> قال الخبير الاقتصادي ووزير المالية السوداني الأسبق إبراهيم البدوي خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، في تسجيل سمعته «الشرق الأوسط»، إن الدمار الذي شهدته البلاد سيكون ضخما جداً. وتابع أنه لولا تعثر المسار الدستوري واندلاع الحرب، كان الاقتصاد السوداني بنمو طيب جداً. ولكن بمقارنة النمو الاقتصادي في البلاد الذي كان بنسبة 4 في المائة سنوياً، وبين النمو السلبي الذي يشهده الآن، فإن خسائر الاقتصاد السوداني خلال السنوات الـ15 الماضية، تبلغ 165 بليون (مليار) دولار، أي ست مرات حجم الناتج المحلي للعام 2022. وقدّر البدوي الخسائر الفعلية للحرب بنحو 60 بليون دولار حتى الآن، مع هلاك نحو 10 في المائة من البنية التحتية الإجمالية، حتى ديسمبر الماضي. وأردف أن الاقتصاد السوداني، في حال توقف الحرب، سيكون بحاجة إلى دعم اقتصادي عاجل يتراوح بين 5 و10 بلايين دولار، بينما «استمرار الحرب سيؤدي لتدمير الاقتصاد والدولة السودانية». وفعلاً، تسببت الحرب في تعطيل التجارة والنقل والزراعة، فأوقفت حركة الاقتصاد، ودفعت الملايين إلى الاعتماد على المساعدات الخارجية، مع خراب كبير للبنى التحتية، قدرته تقارير نقلتها صحيفة «مداميك» بنحو 900 منشأة صناعية. أما على الصعيد الصحي، فقد حذرت «منظمة الصحة العالمية» يوم الأربعاء الماضي من انتشار الوبائيات الناجمة عن النزوح واللجوء، مع ضعف إمكانية الحصول على المياه والصرف الصحي والغذاء والخدمات الصحية الأساسية. وقال بيتر غراف، القائم بأعمال المنظمة في البلاد، إن الوضع في السودان بمثابة «عاصفة كاملة»، وإن «النظام الصحي لا يعمل بشكل جيد، وبرنامج تحصين الأطفال ينهار، والأمراض المعدية تنتشر». وتابع غراف أن الناس يضطرون للسير لعدة أيام للهرب من العنف والحرب، ولا يجدون إلاّ مأوى مكتظا لا تتوفر فيه المياه والصرف الصحي والغذاء والخدمة الصحية الأساسية، مضيفاً «شهدت بنفسي النزوح داخل السودان وفي تشاد المجاورة، وما رأيته مثير للقلق ومفجع». ووفقاً لتقارير صحافية سُجِّل منذ بداية الحرب أكثر من 10 آلاف إصابة بالكوليرا، و5 آلاف بالحصبة، و8 آلاف بحمى الضنك، وأكثر من 1.2 مليون حالة إصابة بالملاريا. وأوضح غراف أن 25 مليونا بحاجة لمساعدات إنسانية، بينهم 18 مليونا يواجهون الجوع الحاد، و5 ملايين بلغوا مستويات طوارئ الجوع، وتوقع «مستويات كارثية من الجوع» في مناطق الحرب، بينما يعاني 200 ألف طفل في دارفور وحدها الجوع الذي يهدد حياتهم، فيما تصطدم جهود الإغاثة الإنسانية بالعقبات البيروقراطية التي تحول دون الوصول للمحتاجين.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».