إمانويل تود في كتابه الأخير «هزيمة الغرب»: 10 مفاجآت لحرب أوكرانيا

عن أوروبا المتجهة إلى الانتحار وروسيا الراغبة في نصر كامل

تود مع غلاف كتابه في صورة ترويجية على موقع «أمازون»
تود مع غلاف كتابه في صورة ترويجية على موقع «أمازون»
TT

إمانويل تود في كتابه الأخير «هزيمة الغرب»: 10 مفاجآت لحرب أوكرانيا

تود مع غلاف كتابه في صورة ترويجية على موقع «أمازون»
تود مع غلاف كتابه في صورة ترويجية على موقع «أمازون»

اللافت في الكتاب الأخير للكاتب والباحث السوسيولوجي - الأنثروبولوجي الفرنسي إمانويل تود أنه يلخص في عنوانه «هزيمة الغرب» خلاصة 371 صفحة يقدمها للقارئ غنية بالأرقام والمعلومات والمراجع. نقطة انطلاقه حرب أوكرانيا التي تتيح له أن يعرض ويناقش الأسباب التي تجعله يجزم بأن روسيا هي التي ستخرج منتصرة من الحرب، وأن هزيمة أوكرانيا المحققة هي بالدرجة الأولى هزيمة للغرب وللولايات المتحدة.

وكما في كل إصدار جديد، يثير إمانويل تود موجة نقاشات تنحو غالبيتها نحو الانتقاد الآيديولوجي الرافض سلفاً لما يطرحه الخصم، غير مهتم بالبراهين والسياقات التي يعلل بها آراءه وخلاصاته؛ ولذا عُدّ تود «بوقاً» من أبواق روسيا في الغرب وفي فرنسا تحديداً. وعليه، فبات كل ما يأتي به خاطئاً أو زائفاً.

صحيح أنّ تود يبدو متسامحاً مع روسيا وبالغ التشدد مع الغرب، وصحيح أيضاً أنه يحمّل الأخير مسؤولية الحرب، بأن يذكّر مثلاً بتصريحات المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا هولاند اللذين أعلنا، كل واحد من جانبه، أن «اتفاقية مينسك» التي أنهت الحرب الأولى في أوكرانيا عام 2015 كان هدفها «توفير الوقت اللازم لتسليح كييف» بأسلحة غربية - أطلسية.

ويستعيد الكاتب الكلمة التي ألقاها الرئيس الروسي بوتين في 24 فبراير (شباط) 2022؛ ليبرر حربه على أوكرانيا، وجاء فيها: «لا يمكن أن نقبل بتمدد قواعد الحلف الأطلسي واستخدام الأراضي الأوكرانية لهذا الغرض»، مضيفاً أن ثمة «خطوطاً حمراء تم تجاوزها». لذا فالعمل العسكري الروسي هو «دفاع عن النفس». ومنذ عامين، لم يحد بوتين عن هذه السردية، وكرّرها في مقابلة مطولة أجراها معه الصحافي الأميركي توكر كارلسون، المقرّب من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، في موسكو يوم الخميس الماضي.

ويرى تود أن حرب أوكرانيا جاءت بعشر مفاجآت، أولها قيام الحرب في أوروبا نفسها التي نظرت إلى الحدث بصفته «غير معقول في قارة ظنت أنها تعيش سلاماً أبدياً». وثانيها أنها وضعت روسيا والولايات المتحدة وجهاً لوجه، فيما كانت واشنطن تعد الصين عدوها الرئيسي وليس روسيا «المتهالكة». أما المفاجأة الثالثة، ففي قدرة كييف على المقاومة بينما كان الغربيون يعتقدون أنها ستنهار خلال 72 ساعة، وأعدوا خططاً وسيناريوهات لإخراج الحكومة الأوكرانية وعلى رأسها فولوديمير زيلينسكي من كييف إلى الغرب. كذلك فاجأت أوكرانيا روسيا نفسها. ومع تمدد الحرب، جاءت المفاجأة الرابعة، وهي قدرة روسيا على مقاومة الضغوط الاقتصادية التي فرضت عليها منذ الأسبوع الأول للحرب، بما في ذلك عزلها عن النظام المالي الدولي. وخامس المفاجآت «انبطاح» الاتحاد الأوروبي، وغياب أي استقلالية عن الإرادة الأميركية. وما يصدم تود تحديداً تلاشي «محور باريس - برلين» الذي كان أساس البناء الأوروبي لصالح محور لندن - وارسو - كييف. ويوجّه الكاتب سهامه لبريطانيا التي تحولت إلى «كلب ينبح» بوجه روسيا ملتحقة بواشنطن. وسادس المفاجآت، انتقال عدوى الالتحاق بواشنطن وبالحلف الأطلسي إلى الدول الاسكندنافية التي «سارت على نهج مسالم» في السابق، وإذ بها تتحول إلى دول «مشاغبة»، بدليل انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي. وسابع المفاجآت عجز الصناعات الدفاعية الأميركية عن توفير الأسلحة والذخائر الكافية للقوات الأوكرانية. وبالمقابل، فإن روسيا ومعها حليفتها بيلاروسيا وهما لا يزنان سوى 3.3 في المائة من الناتج الداخلي الغربي الخام، نجحتا في إنتاج أسلحة أكثر مما أنتجته المصانع الأميركية والأوروبية مجتمعة. أما ثامن المفاجآت فعنوانها «العزلة الآيديولوجية للغرب»، بحيث لم ينجح في جر العالم وراءه ووراء أوكرانيا، مشيراً إلى الصين والهند وبلدان «مجموعة البريكس»، وغالبية أميركا اللاتينية، وغالبية دول آسيا وأفريقيا. وكتب تود: «بعد عام ونصف العام على اندلاع الحرب، ينظر مجمل العالم الإسلامي إلى روسيا بوصفها شريكاً وليست عدواً»، والمفاجأة الأخيرة الآخذة بالبروز تتمثل في توقع حتمية هزيمة الغرب. ويستبق الكاتب الفرنسي منتقديه القائلين إن «الحرب لم تنته بعد»، بالرد: «هزيمة الغرب واقعة لا محالة؛ لأنه آخذ في تدمير نفسه أكثر مما هو ضحية لهجمات روسية».

حلم الأميركيين بإطاحة بوتين لن يتحقق

يرجع الكاتب أحد أسباب قدرة روسيا على الصمود والمواجهة إلى كونها بدأت تستعد لمواجهة العقوبات منذ 2014. ولعل هذه العقوبات بالذات هي التي وفرت ثبات الاقتصاد الروسي، بدليل أن الصادرات الزراعية الروسية بلغت في عام 2020 (30 مليار دولار)، متخطية عائدات الغاز (26 مليار دولار). وتحولت روسيا إلى أول مصدر للمفاعلات النووية ذات الاستخدام السلمي، وإلى ثاني مصدر للأسلحة في العالم بفضل قفزات حققتها في التكنولوجيا الرقمية. ويتوقف الكاتب طويلاً عند قدرة الاقتصاد الروسي على «التأقلم» مع العقوبات من جهة، ومع التحول إلى «اقتصاد حرب»، وهو ما لم ينجح الغربيون في تحقيقه. ويأخذ على الغربيين رؤاهم الزائفة لروسيا التي «يحكمها ديكتاتور دموي (يذكر بستالين) ويسكنها شعب من السذج». ولنقض هذه الصورة، يسرد الكاتب فيضاً من الأرقام، ومنها أن عدد المهندسين الروس يتفوق على عدد نظرائهم من الأميركيين، والأمر نفسه يصح على نسبة المتعلمين، وذلك بالتوازي مع بروز طبقة وسطى ناشطة ودينامية، وتمكن بوتين من الحد من قدرات «الأوليغاركيين» الروس. ويجزم تود بأن «نظام بوتين» المرشح لولاية إضافية «ثابت ومستقر وحلم الأميركيين بتمرد يطيح به لن يتحقق».

ويؤكد الكاتب أن تحدي روسيا للغرب قبل عامين مرده لكونهم «أصبحوا جاهزين عسكرياً»، ولأن ديموغرافيتهم تتراجع، فقد عجلوا في إطلاق الحرب، ويعتقدون أنهم «قادرون على الانتهاء منها خلال خمسة أعوام». وبالمقابل، فإن النواقص الصناعية والعسكرية الغربية تظهر أكثر فأكثر للعيان، وعامل الزمن يلعب لصالح روسيا. ويحذر الكاتب الجانب الأميركي بالقول: «ما تريده روسيا هو الانتصار الكامل ولا شيء آخر».

وصفحة بعد أخرى، يظهر أن الكاتب يتبنى إلى حد بعيد طروحات روسيا بخصوص أوكرانيا، التي وصفها بوتين مؤخراً بأنها «دولة مصطنعة أنشأتها إرادة ستالين في عام 1922»، نافياً عنها صفة «الأمة في دولة». وحسبه هي في أفضل الأحوال «دولة فاشلة» تتجه نحو «العدمية». فأوكرانيا «ينخرها الفساد»، وهي «تؤجر بطون نسائها» للغربيين من أجل الإنجاب، وتقضي على لغة (الروسية) متجذرة تاريخياً فيها، حيث إنها «تنتحر ثقافياً». وما يراه تود غريباً أن منع اللغة الروسية استتبعه مشروع قانون يفرض على الموظفين إتقان الإنجليزية. ويجزم الكاتب بأن كييف كانت قادرة على تجنب الحرب منذ 2014 لو قبلت المطالب الروسية المعقولة الثلاثة وهي: ضم شبه جزيرة القرم لروسيا لأسباب تاريخية، ومنح سكان منطقة الدونباس (شرق أوكرانيا)، وهم من الروس، وضعاً مقبولاً، وأخيراً حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف الأطلسي. ولكن كييف رفضت بتشجيع من الغرب ما قاد إلى الحرب.

انتحار أوروبا

ليست أوكرانيا وحدها التي تتجه إلى الانتحار بل معها أوروبا (ص 161). والحجة التي يسوقها تود أن الاتحاد الأوروبي الذي كان يسعى ليكون القوة الثالثة المستقلة بين الولايات المتحدة والصين «اختفى تماماً وراء الحلف الأطلسي الخاضع لأميركا»، وأن الدول الاسكندنافية والمشاطئة لبحر البلطيق «أصبحت تابعة مباشرة لواشنطن». وبالتوازي، يؤكد الكاتب أن الحصار المفروض على روسيا «مدمر للاقتصادات الأوروبية»، ومن ذلك ارتفاع أسعار الغاز والمحروقات والتضخم ما يهدد الصناعات الأوروبية «ويقودنا إلى مفهوم الانتحار».

ولتثبيت نظريته، يؤكد تود أن الميزان التجاري الأوروبي تحول من فائض إيجابي قيمته 116 مليار يورو في 2021 إلى عجز يتجاوز 400 مليار يورو في 2022، ناهيك عن تكلفة باهظة للحرب. ويتساءل: «لماذا يريد الغربيون حرباً بلا نهاية» بعد فشل الهجوم الأوكراني المضاد صيف عام 2023؟

ومرة أخرى يتبنى تود السردية الروسية القائلة إن روسيا «تحارب على حدودها، بينما الجبهة تبعد 3200 كلم عن لندن و8400 كلم عن واشنطن». وخلاصة الكاتب أن «المشروع الأوروبي (الأساسي) مات، وأن أوروبا تحتاج لعدو خارجي وجدته في روسيا». وفي سياق انتقاداته يوجه سهامه إلى بريطانيا التي يصف ردود فعلها بـ«المضحكة»، وهي تحاول الإيحاء بأنها تعيش مرة أخرى «معركة إنجلترا» ضد الجيش الألماني، وقارن وزارة الدفاع البريطانية بـ«أفلام جيمس بوند» وروايات «OSS117» (ص 194)، كما عدّ أن لندن الأكثر تطرفاً بالدفع نحو مواصلة الحرب.

«العصابة الحاكمة في واشنطن»

يُكرّس الكاتب الفصل العاشر في الكتاب وهو بعنوان «العصابة الحاكمة في واشنطن»؛ ليشرح بالأرقام أسباب قوة اليهود في السياسة الخارجية الأميركية. ومخافة اتهامه بمعاداة السامية وهي تهمة رائجة، يحرص الكاتب على تأكيد أنه يتحدر من عائلة يهودية من أصول مجرية. ويذكر تود أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن ومساعدته فيكتوريا نولاند من أصول يهودية، في حين أن الرئيس بايدن ومستشاره للأمن القومي، جيك سوليفان، كاثوليكيان من أصول آيرلندية، لافتاً إلى أن اليهود لا يشكلون سوى 1.7 في المائة من الشعب الأميركي (ص 288)، فيما تمثيلهم في المواقع الرسمية، وتحديداً المرتبطة بالسياسة الخارجية لا علاقة له بنسبتهم العددية. ويسيطر اليهود على مواقع القرار في المراكز البحثية، والمثال على ذلك أن ثلث أعضاء الهيئة الإدارية لـ«مجلس العلاقات الخارجية» من اليهود، كما أن ثلاثين في المائة من أصل أكبر مائة ثروة في الولايات المتحدة هم أيضاً من اليهود. ولهؤلاء، كما هو معروف، تأثيرهم الكبير على الجامعات والمعاهد العليا على اعتبار أنهم من كبار المانحين، وهو ما ظهر جلياً مع حرب غزة.

ويُفسر الكاتب أهمية اليهود بعاملين: الأول تراجع القيم البروتستانتية لدى المجموعة الحاكمة السابقة وهي «WASP» (الأنغلو ساكسونيون - البيض البروتستانتيون). والثاني تركيزهم على التعليم، وارتياد المعاهد والجامعات الأكثر تميزاً ما يؤهلهم لاحتلال أعلى المراكز.

الكاتب يتبنى إلى حد بعيد طروحات روسيا بخصوص أوكرانيا، التي وصفها بوتين مؤخراً بأنها «دولة مصطنعة أنشأتها إرادة ستالين في عام 1922»، نافياً عنها صفة «الأمة في دولة»

ويحمل الفصل الأخير من كتاب تود عنوان «كيف وقع الأميركيون في الفخ الأوكراني؟»، وفيه يتساءل عن الأسباب التي تجعل أميركا «تدخل في حرب مع روسيا وهي عاجزة عن الانتصار فيها». ويرى تود أن حرب أوكرانيا جاءت خاتمة لدورة زمنية بدأت في 1990 مع انهيار الاتحاد السوفياتي وقناعته أن تمازج عدميتين، أميركية وأوكرانية، سيقود إلى هزيمتهما (ص 339). فبينما كانت الولايات المتحدة غارقة في حروبها (أفغانستان، والعراق...) وكانت الصين تقضي على النسيج الصناعي الأميركي، كانت روسيا تعيد ترتيب أوراقها (ص 347). ومع وصول بوتين إلى السلطة، وجد أمامه بولندا والتشيك والمجر في حلف الأطلسي. وكانت واشنطن تدفع نحو انضمام أوكرانيا أيضاً. وفي 2004، انضمت سبع دول إضافية إلى الحلف، كانت كلها أعضاء في حلف وارسو، وهي: بلغاريا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، ورومانيا بحيث شعرت روسيا بالطوق الأميركي حول عنقها. وجاء رد بوتين في خطابه عام 2007، بمناسبة مؤتمر الأمن في ميونيخ واضحاً، حيث أكد أن بلاده «لن تقبل أبداً عالماً أحادي القطب تفرض فيه الولايات المتحدة القانون». ويؤكد الكاتب أنه مع دعوة كييف للانضمام للحلف الأطلسي، خلال قمة بوخارست عام 2008، «نصبت واشنطن الفخ الذي لن تستطيع الإفلات منه (ص 354)».

يستعيد تود السردية الروسية بتأكيده أن أوكرانيا كانت تخطط لهجوم نهاية عام 2021 لاستعادة الدونباس وشبه جزيرة القرم، ما دفع بوتين لمراسلة الحلف الأطلسي لطلب «ضمانات»، بيد أن هذه الضمانات لم تأت، وكانت النتيجة أن روسيا أطلقت حربها أواخر فبراير 2022 «في التوقيت الذي اختارته وبعد دراسة لميزان القوى، حيث وجدت أن هناك نافذة ما بين 2022 و2027». إلا أن انسحاب القوات الروسية من الأراضي التي احتلتها شمال وشرق كييف، ثم الهجوم المضاد الذي قامت به خريف العام نفسه «أوجد دينامية دافعة باتجاه الحرب» في واشنطن، وتوجهاً «للمزايدة لن تستطيع التراجع عنها تحت طائل تلقيها هزيمة، ليس فقط محلية بل شاملة: عسكرية واقتصادية وآيديولوجية (ص 366)».

هل تصح توقعات تود؟ السؤال مطروح، والجواب يخضع لعوامل ومتغيرات ليس من السهل التنبؤ بها. تود اختار تبني المقاربة الروسية إلى حد بعيد، ولعل تمسكه بحرفيتها يعد أحد مظاهر ضعف تحليلاته، حيث لم ترد في صفحات كتابه أي قراءة نقدية لما حصل وقد يحصل في الجانب الروسي.


مقالات ذات صلة

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

كتب لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام.

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل.

عمر شهريار
كتب صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

«هيئة الكتاب» المصرية تنشر أعمال شكري عياد وشاكر عبد الحميد وعبد الحكيم راضي

تعاقدت «الهيئة المصرية العامة للكتاب» مع أسرة الناقد والأديب الراحل الدكتور شكري عيّاد؛ لإصدار وإتاحة مؤلفاته الكاملة ضمن خطط الهيئة لإحياء التراث النقدي العربي

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون «لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

«لا مفاتيح هناك»... المدينة حين تتحول إلى مسرح عبثي

تتخذ رواية «لا مفاتيح هناك»، للروائي المصري أشرف الصباغ، من السخرية نهجاً لها، سخرية من الذات ومن العالم، ومن المدينة الكبيرة التي لا ترحم.

عمر شهريار

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».