«العمارة المشهدية»... تعود للحياة

مبان بتصاميم غريبة ونماذج نافرة تدفع حدود المنطق

مركز بيرلمان للفنون
مركز بيرلمان للفنون
TT

«العمارة المشهدية»... تعود للحياة

مركز بيرلمان للفنون
مركز بيرلمان للفنون

عندما بدأت عينٌ بارتفاع 112 متراً بالرمش في لاس فيغاس، الصيف الماضي، عادت معايير العمارة في العالم إلى وضع «إعادة الضبط».

مبنى كروي غريب

كانت هذه العين عبارة عن صورة متحرّكة مسلّطة من مبنى «ذا سفير» the Sphere (الجسم الكروي)، أحد أغرب المباني التي اكتملت في 2023. و«ذا سفير» هو صالة للفنون الاستعراضية. وكما يوحي اسمه، فإنه مبنى كروي عملاق مؤلّف من 35 طابقاً مغطّى بمليون ومئتي ألف مصباح ليد حوّلته إلى شاشة دائرية كبيرة قادرة على استعراض صورٍ وإعلانات وأعمال فنيّة برّاقة، بالإضافة إلى «مقلة عينٍ» في الجهة المواجهة للاس فيغاس.

يعد «ذا سفير»، الذي يمثّل منصّة خارجية ومسرحاً مقفلاً يتّسع لأكثر من 18 ألف متفرّج، من أكثر المباني غير المألوفة التي افتُتحت هذا العام.

ولكنّه ليس حالةً فريدة. فقد شهد العالم بروز مبانٍ جديدة دفعت بحدود المنطق والهدف بتصاميم غريبة ونماذج تجارية نافرة نوعاً ما. تخلّت هذه المباني عن البساطة والتحفّظ لصالح مقاربة تستخدم الجرأة التي تستدعي الاهتمام. هذه الإشارات جميعها تُبشّر بعصرٍ جديد من المشهدية (أي النصب التي تجتذب الأبصار بمشهدها).

مبنى يانتاس الصين لتقديس الشمس

عمارة مشهدية

قد لا يكون هناك سببٌ واحدٌ لبروز العمارة المشهدية spectacle architecture بهذه القوّة خلال العام الماضي، ولكنّها من دون شكّ أحد منتجات عالم ما بعد الجائحة.

باختصار، يمكن القول إنّ العمارة تتحوّل اليوم عن الجانب المتواضع والمنعزل إلى الأكثر انفتاحاً وتجريبيّة وجرأةً، إذ يبدو أنّ مصمّمي ومطوّري المباني المشهدية يقدّمون اليوم النقيض المعماري للإغلاقات والفقاعات العازلة باستخدام الألوان الفاقعة، ومساحات التجمّع الكبيرة، ومشاهد تجبرنا على النظر إليها ومشاركتها. هذه الأفكار التي وُلدت في فترة الجائحة، دخلت اليوم مرحلة التنفيذ على الأرض وستمثّل تذكيراً لكثيرين حول العالم بأنّه لا داعي بأن تكون الحياة شديدة الانضباط.

طبعاً، هذا الاتجاه الجديد في العمارة لا يستهدف الإيثار وحب الغير فحسب، بل إن له أهدافاً ربحية أيضاً. ولعلّ «ذا سفير» هو المثال الأكثر تطرّفاً على العمارة المشهدية في السنوات الأخيرة، مدعوماً بغناه بالعناصر التقنية وموقعه في لاس فيغاس، حيث يصعب تجاهله على الرغم من احتواء المدينة على كلّ ما قد يتخيّله المرء من مشهديات.

رسم تخيلي لمشروع "الكعب" السعودي"

مشاريع سعودية متميزة

ينعكس هذا التفكير أيضاً في مشروع «ذا لاين» في المملكة العربية السعودية. يتميّز هذا المبنى بتصميم طولي، ويرجّح أحد مطوّريه أن يمتدّ لمسافة 169 كلم في الصحراء. هذا المشروع هو جزءٌ من جهود أكبر وأغرب لبناء مدينة اسمها «نيوم» في المملكة. جذبت القدرات المالية الهائلة التي تملكها السعودية أفضل معماريّي العالم للمساهمة في هذه الرؤية.

شملت هذه الجهود أخيراً الإعلان عن «المكعّب»، مبنى بارتفاع 369 متراً، يضمّ مدينة ستقدّم ما وصفه مطوّروه «بالوجهة التجريبية الغامرة» بشاشات ومجسّمات رقمية. يُشرف «المكعّب» على كامل محيطه في مدينة الرياض، ويبدو أشبه بلعبة عملاقة متدليّة تتحدّى المعقول.

استخدم المعماريون المكعّبات لأجيال عدّة، ولعلّ الكعبة هي النموذج الأوّل عليها. والتحق بها في العصر الحديث مركز «بيرلمان» للفنون الأدائية في نيويورك، الذي برهن كيف يمكن لتصميم متواضع أن يُترجم إلى مبان رائعة تتناغم مع أحيائها. في المقابل، صُمّم مكعّب السعودية ليكون قابلاً للرؤية من دون عناء وعن مسافة بعيدة على الأرجح.

حقّقت المشاريع السعودية هدفها باستعراض الثروة والقوّة قبل تنفيذها على أرض الواقع، الذي يعدّ أيضاً الهدف الأساسي للعمارة المشهدية، وهو غالباً نوع التأثير الذي رأيناه في السباق العالمي نحو بناء أطول برج. فقد شهد عام 2023 بروز برج جديد في كوالالمبور، ماليزيا، يحمل اسم «ميرديكا 118»، بتصميم سمكة سيف البحر وارتفاع 670 متراً، ويضمّ 118 طابقاً، وهو اليوم ثاني أطول مبنى في العالم. وبوصفه مركزاً لمصرف الاستثمار الماليزي، يقدّم هذا المبنى مساحة مكتبية هائلة تمتّد لآلاف الأمتار على الرغم من أنّ مستقبل المساحات المكتبية ليس واضحاً في عصر العمل عن بعد.

مبنى "ذا سفير" وعينه

«المكعّب» مبنى سعودي بـ«وجهة تجريبية غامرة» بشاشات ومجسّمات رقمية

مبان غير مألوفة

ومع ذلك، العمارات المشهدية ليست جميعها رديئة. فقد أظهرت مبانٍ جديدة كثيرة أنّ التصميم المبالغ فيه يمكن أن يكون أنيقاً ومجدٍ أيضاً. ومن الأمثلة على هذا النوع نسمّي مركز ريتشارد غيلدر للعلوم والتعليم والابتكار في متحف التاريخ الطبيعي الأميركي، الذي صمّمته «ستوديو غانغ»، شركة العمارة الشهيرة في شيكاغو، ليشكّل وصلة جديدة للمتحف المترامي الأطراف. يتميّز المبنى بجدران أشبه بالكهوف، تجذب الزوّار إلى واحد من أكثر المباني المثيرة للدهشة في عام 2023.

العمارة تتحوّل بعيداً عن الجانب المتواضع والمنعزل إلى الأكثر انفتاحاً وتجريبيّة وجرأةً

وفي العاصمة البريطانية، شهد مبنى صناعي مهجور عملية تجديد حوّلته إلى رمزٍ جديد للمدينة. إنّها محطّة باترسي للطاقة، منشأة قديمة عاملة بالفحم كانت مسؤولة عن توفير خُمس احتياجات المدينة من الكهرباء، والتي أصبحت اليوم مبنى رائعاً متعدّد الاستخدامات، ويضمّ مئات الوحدات السكنية، ومركزاً تجارياً، ومساحات مكتبية، ومركزاً لشركة «أبل».

تنتظر مدينة بوسطن الأميركية إضافة جديدة ومشرقة لمطارها الدولي، والتي ستكون عبارة عن مدرجٍ جديد باللون الأحمر.

تذهب بعض المباني المشهدية أبعد من الهدف التجاري. ففي مدينة يانتاي، شمال شرقي الصين، ينتصبُ مبنى غريب وجميل هدفه الأساسي تقديس الشمس. يضمّ البرج واجهة مفتوحة مواجهة للشمس والبحر، ويؤمّن للمحليين مساحةً للانخراط في شعائر جماعية عمرها مئات السنوات لتقديس الشمس. في الحقيقة، صمّمت هذا المبنى الشمس نفسها وحدّدت فتحاته ومساحاته الاجتماعية وفقاً لحركاتها، فجعلت منه مركزاً ثقافياً عملياً ومتعدّد الأغراض، يضمّ مسرحاً ومكتبةً ومساحات عدّة للمناسبات. ولكنّ روحه تكمن في هذا الهيكل المبني لتأسيس علاقة أكثر حسيّة بين الناس ومركز نظامنا الشمسي.

سواء كانت رديئة أو هادئة، لا شكّ في أنّ المباني المشهدية تعدّ الساحة لثورة على مستوى الطراز والأسلوب. صحيحٌ أنّ هذه التصاميم قد تخرج عن المألوف أحياناً، ولكنّها في الوقت نفسه تُظهر كيف يمكن للغرابة والروعة أن تتجليا في شكلٍ معماري. واليوم، لا يزال العالم في بداية تذوّق طعم مشهديات معمارية جديدة غريبة ومثيرة للاهتمام وربّما جميلة.

* مجلّة «فاست كومباني»، خدمات «تريبيون ميديا».


مقالات ذات صلة

بعد علاقة متوترة... جيف بيزوس يتناول العشاء برفقة ترمب في فلوريدا

الولايات المتحدة​ مؤسس شركة «أمازون» جيف بيزوس (أ.ب)

بعد علاقة متوترة... جيف بيزوس يتناول العشاء برفقة ترمب في فلوريدا

شوهد مؤسس شركة «أمازون» جيف بيزوس وهو يتجول في مقر إقامة الرئيس المنتخب دونالد ترمب بولاية فلوريدا، في وقت متأخر من ليلة الأربعاء حيث تناول العشاء معه.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
تكنولوجيا تتميز سمكة «موبولا راي» بهيكلها العظمي الغضروفي وأجنحتها الضخمة ما يسمح لها بالانزلاق بسهولة في الماء (أدوبي)

سمكة تلهم باحثين لتطوير نموذج مرشّح مياه صناعي!

طريقة تغذية سمكة «موبولا راي» تدفع باحثي معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لتطوير أنظمة ترشيح فعالة.

نسيم رمضان (لندن)
أوروبا طائرة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك تصل إلى بيروت 23 أكتوبر 2024 (رويترز)

طائرات أعضاء الحكومة الألمانية تتجهّز بنظام حماية ضد الهجمات الصاروخية

تقوم وحدة الاستعداد الجوي التابعة لوزارة الدفاع الألمانية بتجهيز طائرات الركاب المخصصة لتنقلات أعضاء الحكومة بنظام حماية ضد الهجمات الصاروخية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
تكنولوجيا تعمل استراتيجيات مثل الأمن متعدد الطبقات واستخبارات التهديدات المتقدمة على تعزيز دفاعات الشركات السعودية (شاترستوك)

السعودية تسجل 44 % انخفاضاً في الهجمات الإلكترونية حتى نوفمبر مقارنة بـ2023

تواجه السعودية التحديات السيبرانية باستراتيجيات متقدمة مع معالجة حماية البيانات وأمن السحابة وفجوات مواهب الأمن السيبراني.

نسيم رمضان (لندن)
خاص تتضمن الاتجاهات الرئيسة لعام 2025 الاستعداد الكمومي وممارسات الأمن السيبراني الخضراء والامتثال (شاترستوك)

خاص كيف يعيد الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية تشكيل الأمن السيبراني في 2025؟

«بالو ألتو نتوركس» تشرح لـ«الشرق الأوسط» تأثير المنصات الموحدة والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية على مستقبل الأمن السيبراني.

نسيم رمضان (لندن)

روسيا تعرض بقايا ماموث محفوظة بشكل جيد عمرها 50 ألف سنة

الماموث «إيانا» عمرها 50 ألف عام (رويترز)
الماموث «إيانا» عمرها 50 ألف عام (رويترز)
TT

روسيا تعرض بقايا ماموث محفوظة بشكل جيد عمرها 50 ألف سنة

الماموث «إيانا» عمرها 50 ألف عام (رويترز)
الماموث «إيانا» عمرها 50 ألف عام (رويترز)

عرضت روسيا، اليوم (الاثنين)، بقايا محفوظة بشكل جيد لماموث صغير عمرها 50 ألف عام، عُثر عليها خلال الصيف الفائت في أقصى الشمال الروسي، في أحدث اكتشاف علمي مهم في هذه المنطقة النائية من البلاد.

ووفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، أُطلق على أنثى الماموث اسم «إيانا» نسبةً إلى النهر الذي وُجدت في حوضه، في ياقوتيا، وهي منطقة ذات كثافة سكانية منخفضة في أقصى الشرق الروسي.

وعُرضت البقايا أمام المجتمع العلمي، الاثنين، في الجامعة الفيدرالية الشمالية الشرقية في ياكوتسك، العاصمة الإقليمية، على ما أعلنت المؤسسة الجامعية في بيان.

وأوضح رئيس الجامعة أناتولي نيكولاييف، في البيان: «فوجئنا جميعاً بحالة الحفظ الاستثنائية لهذا الماموث؛ إذ لا يوجد أي نقص عند الرأس أو الجذع أو الأذنين أو الشدق، ولم يكن هناك أي ضرر أو تشوه واضح».

ويبلغ وزن «إيانا» التي قد تكون أفضل عينة ماموث محفوظة في العالم وفق الجامعة، 180 كيلوغراماً، وارتفاعها 120 سنتيمتراً وطولها أقل من مترين.

وأشارت الجامعة إلى أن «هذا الاكتشاف الفريد سيوفّر معلومات عن تكوين الماموث وخصائصه التكيفية والظروف البيئية القديمة لموائله وجوانب أخرى».

ويُفترض أن تحدد دراسات أخرى خصوصاً عمر «إيانا» الدقيق، الذي يُقدّر بـ«سنة أو أكثر قليلاً».

واكتُشفت بقاياها العائدة إلى 50 ألف عام، خلال الصيف الفائت على أراضي محطة أبحاث باتاغايكا، حيث عُثر سابقاً على بقايا أخرى لحيوانات من حقبة ما قبل التاريخ.

وقبل «إيانا»، عُثر على 6 جيف للماموث فقط في العالم: 5 في روسيا وواحدة في كندا، وفق الجامعة.

في ياقوتيا، وهي منطقة معزولة تفوق مساحتها 3 ملايين كيلومتر مربع ويحدها المحيط المتجمّد الشمالي، تؤدي التربة الصقيعية دوراً أشبه بمجمّد ضخم يحافظ على حيوانات ما قبل التاريخ، خصوصاً الماموث.

وفي السنوات الأخيرة، عثرت محطة باتاغايكا على بقايا خيول وثيران بيسون من عصور ما قبل التاريخ، وحتى مومياء لحيوان من قوارض اللاموس.