للأماكن التاريخية سحرها الخاص وطابعها الملهم، وللوحات الفنان التشكيلي المصري محمد عبلة خصوصيتها المنطلقة من الروح الشعبية الثرية بالتفاصيل والحكايات الدافئة... في أحدث معارضه الذي يقيمه في منطقة صحراء المماليك (شرق القاهرة) حتى 20 فبراير (شباط) المقبل، ينسج ذكرياته عن القاهرة ويسرد حكايات المدينة العريقة.
اختار الفنان المصري مقعد السلطان قايتباي ليعرض فيه لوحاته، وهو المكان الذي أنشأه السلطان قايتباي المحمودي الأشرفي عام 1474، بوصفه جزءاً من مجموعة معمارية أثرية شهيرة مبنية على الطراز الإسلامي تعود إلى عصر المماليك الجراكسة في القاهرة.
يقول عبلة: إن «الأماكن التاريخية متعطشة للتواصل مع الناس واحتوائهم؛ ولذلك فإقامة معرض أو غيره من الفعاليات في هذا المكان يضيف لسحره بُعداً ثقافياً، وفي الوقت نفسه أشعر بصفتي فناناً أن أعمالي ترجع إلى أصلها أو مصدرها الأساسي؛ لأنني أحتفي بتاريخ القاهرة وتشغل مساحة كبيرة من حياتي وفني».
ويضيف لـ«الشرق الأوسط»: «أحب مشاهدة أعمالي في بيئات مختلفة، لأنها تكتسب شخصية المكان وتضفي عليها بعضاً من روحه، فتحمل مزيداً من المعاني والدلالات بتغيّر البيئات، فالجدران تتحاور مع اللوحات»، ويتابع: «من الرائع حقاً ألّا يقتصر عرض اللوحات على الحوائط البيضاء في الغاليريهات والقاعات الفنية وحدها».
في اللوحات الـ30 بالمعرض، يمزج الفنان بين إيقاعات الألوان في الشوارع المزدحمة والمآذن الشامخة والأبنية الأثرية وطقوس الناس ولحظاتهم الدافئة والصاخبة مجسداً جوهر المكان وتحولاته.
يتحدث عن ذلك قائلاً: «عندما بدأت التفكير في الأعمال التي أقدّمها بالمعرض وجدت نفسي أحتفي بالأعمال ذات الصلة الوثيقة بالقاهرة، خصوصاً منطقة قايتباي لأنها من الأمكنة التي تحتل مكانة خاصة في وجداني، فهي تحمل لي ذكريات عزيزة، وأنا أتردد عليها منذ سبعينات القرن الماضي، وتمثل لي مكاناً موحياً».
يُعدّ المعرض رحلة في أعماق الفنان محمد عبلة مثلما هو رحلة في أعماق المكان حسبما يوضح: «أطلقت على المعرض اسم (القاهرة... نسيج الذكريات)، لأنه يمثل مجموعة من الحكايات عنّي شخصياً، وعن رؤيتي وإحساسي بالقاهرة والناس والمباني والحركة أو الحياة عموماً التي لا تتوقف في المدينة نهاراً وليلاً».
اللافت أن إقامة معارض وفعاليات فنية في الأماكن الأثرية والسياحية المصرية باتت اتجاهاً متنامياً، ومنها المعارض والندوات الدّولية التي حملت عناوين: «إذا كان للجدران أن تتحدث»، و«شيء آخر»، و«حوار العرب»، التي أُقيمت خلال 2023 في قلعة صلاح الدين الأيوبي (شرق القاهرة)، فضلاً عن معرض «الأبد هو الآن» في منطقة الأهرامات لسنوات متتالية.
يعلق عبلة على هذه الظاهرة قائلاً: إن «مثل هذه الفعاليات لها أهميتها البالغة، فهي من جهة تجتذب فئات جديدة من الأجيال كافة بما في ذلك الشباب، لأنها تُسلّط الضوء على هذه الأمكنة بشكل عصري؛ ومن جهة أخرى تتيح للمبدعين خوض تجربة فنية جديدة حين تُعرض أعمالهم في مكان مميز له طابع تاريخي».
ويشير عبلة إلى أن المتلقي حين يذهب لمشاهدة المعرض أو المشاركة في الفعاليات المختلفة فإنه يشاهد الماضي والحاضر معاً، وهي تجربة مثيرة للتأمل، أن يلتقي بهذا التزاوج ما بين القديم والجديد، والتراث والفن الحديث؛ ليرصد تحوّلات المدينة وفقاً لرؤيته وتفاعله مع أجواء المكان والأعمال المعروضة معاً.
ويرى الفنان أن هذه الفعاليات «تلقي الضوء على التنوع الثقافي لمصر في جميع الأزمنة بشكل من الصعب وجوده في مكان آخر بالزّخم نفسه؛ ما يؤدي بدوره إلى حراك وتطور في الحركة الفنية المصرية بشكل عام».