أحمد طيباوي: لا أحب أن تتحول رواياتي إلى جلسة تعذيب للقارئ

الكاتب الجزائري يرى أن الجوائز لا تصنع مبدعاً

أحمد طيباوي: لا أحب أن تتحول رواياتي إلى جلسة تعذيب للقارئ
TT

أحمد طيباوي: لا أحب أن تتحول رواياتي إلى جلسة تعذيب للقارئ

أحمد طيباوي: لا أحب أن تتحول رواياتي إلى جلسة تعذيب للقارئ

يتسم العالم الروائي للكاتب الجزائري أحمد طيباوي بالتنوع والتكثيف الشديد، وتطرح روايته «باب الوادي» الصادرة أخيراً قضايا ملحة على الساحة الجزائرية مثل قضية الهوية والتسامح مع الآخر. وكان قد صدر له من قبل «اختفاء السيد لا أحد»، «موت ناعم»، «مذكرات من وطن آخر». ورغم أنه حاز عدداً من الجوائز مثل «جائزة نجيب محفوظ للأدب» و«جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي»، فضلاً عن جائزة «رئيس الجمهورية للمبدعين الشباب»، فإنه يرى أن الجوائز لا تصنع مبدعاً وأن ما يصمد أمام الزمن هو القيمة الفنية للعمل.

هنا حوار معه، حول روايته الجديدة وهموم الكتابة:

> في روايتك الصادرة أخيراً «باب الوادي»، يبدو سؤال «الهوية» مهيمناً من خلال رحلة (كمال) الباحث عن جذوره بين بلاده وفرنسا، كيف جاء تناولك لهذه القضية مختلفاً عن التجارب التي تنطلق من السؤال نفسه في السرد الجزائري؟

- لكل كاتب مقاربته لموضوعات قد تكون مشتركة بينه وبين روائيين آخرين، أو هذا ما أفترضه، بمعنى أنه يملك رؤيته الخاصة للحياة وللبشر، ولا بأس أن يكون هناك تقاطع في الرؤى. ما المختلف في مقاربتي لمسألة الهوية؟ لا أعلم تحديداً درجة الاختلاف، لا أحب أن أسقط في الادعاء، لكني انشغلت بوضع المسافات بيني وبين شخصيات روايتي «باب الوادي» على تناقضاتها الفكرية والاجتماعية الصارخة، وقد شكلت مزيجاً غير متجانس، كل ما جمعها هو روابط القرابة أو العاصمة كفضاء تعيش فيه. توخيت ذلك تجنباً لإصدار الأحكام، وطلباً للحياد الذي يتيح لي طرح كل شخصية من شخصياتي بما تمثله من فئة أو تيار طرحاً إنسانياً محضاً.

> إلى أي حد يمكن القول إن أزمة الهوية في الرواية تتجاوز المصير الفردي لتصبح قضية وطن في الجزائر؟

- ليس في الجزائر فقط، فضاؤنا العربي مأزوم في أغلب توجهاته الاجتماعية والثقافية. تظهر الأزمة عند بعض المراحل التاريخية وتتراجع للخلف بعد ذلك، وبطبيعة الحال عند النخب وذوي الوعي أكثر من غيرهم من الفئات المطحونة في السعي للقمة العيش الكريم لها. من ناحية أدبية، مسألة الهوية مطروحة دوماً، كل ما هنالك أن كل كاتب يعالجها بحسب فهمه وتصوراته ولن يأتي بالجديد سوى في الطريقة الفنية التي طرحها بها.

> رغم أن رواية «باب الوادي» ليست رواية مكان، فإن اسمها مأخوذ من اسم أشهر حي شعبي في العاصمة الجزائرية، كيف ترى هذه المفارقة؟

- حاولت أن أختزل الجزائر كلها، اجتماعياً وسياسياً، تاريخاً وحاضراً، في حي باب الوادي. أحببت أن أستفيد من رمزية الحي واسمه ومكانته في المخيال الشعبي لدينا. من جهة التسمية كان باباً من أبواب الجزائر العاصمة يحاذي وادياً يصب في البحر، توسعت الجزائر العاصمة، وكبر الحيّ، ليصبح زمن الاستعمار الفرنسي معقلاً للأقدام السوداء، وهم الأوربيون الذين سكنوا في الجزائر أثناء الاحتلال الفرنسي، ومنه انطلقت منظمتهم الخاصة التي قامت بأعمال إرهابية لإفشال مفاوضات الاستقلال بين جبهة التحرير الوطني والسلطات الفرنسية. بعد الاستقلال صار الحيّ شعبياً بامتياز، وقد شهد أحداثاً كثيرة بداية «العشرية السوداء» في تسعينات القرن الماضي. باعتبار هذا كله، كان مناسباً جداً لرؤيتي في هذه الرواية أن يكون الحي هو الحيز الذي تتم فيه أغلب الأحداث. ولكن لن يجد القارئ حيّ باب الوادي حاضراً بالصورة التقليدية التي عودتنا عليها نصوص عربية وأجنبية، ليست رواية مكان بالمعنى التسجيلي ولم أستعن بوصف معالم باب الوادي والعاصمة إجمالاً من أجل تأثيث روايتي.

> إذن، كيف تتعامل مع حضور المكان في فضائك السردي عموماً؟

- كنت مهموماً بذلك في رواية سابقة لي، «مذكرات من وطن آخر» حيث كانت مدينة سطيف وأهم معالمها وأحيائها حاضرة بقوة بما استدعته حاجتي فيها لتقاطع بعض أبطالها مع جغرافية المكان وروحه. هناك روايات كثيرة كانت خلفيات المدن والأحياء حاضرة فيها بقوة، وارتبط عدد كبير من الروائيين الكبار عربياً وعالمياً بكتاباتهم عن المدن، وعن حياة الناس فيها طيلة الفترة الزمنية التي كانت محل اهتمام لديهم، والعلاقات الإنسانية، والعمران، وغير ذلك مما يتعلق بجعل المكان بطلاً حقيقياً في النص. هناك من يتحدث مؤخراً عندنا في الجزائر عن سرديات الصحراء. توظيف المكان يكون بحسب حاجة الكاتب، وهناك أيضاً جانب نفسي حول علاقته بالمكان، ربما حالة حنين أو انتقام أو استذكار أو حياد.

> المتتبع لأعمالك الروائية، يلحظ الميل للتكثيف الشديد والبعد عن الحشو والاستطراد، هل ثمة فلسفة ما وراء هذا، وكيف قاومت غواية الروايات المطولة التي اجتاحت السرد العربي وصارت بمثابة «موضة» في فترة سابقة؟

- ما يمكن للقارئ أن يستنتجه مباشرة، التفاصيل غير المهمة، الاستعراض اللغوي والمعرفي، الخطاب المباشر، الحوارات وكلام الإنشاء وغيرها، كلها زوائد أحرص بشدة على ألا أكتبها، أو التخلص منها عند مراجعة النص إذا حدث ووقعت في الإسهاب. أصبحت قراءة بعض الروايات تحتاج إلى صبر زائد من القارئ، ويحدث أن يضطر إلى أن يحذف فصولاً كاملة أو يقفز عدة صفحات ليصل إلى حيث يمكنه الاستمرار في القراءة. لا أحب أن تكون قراءة رواية لي عبارة عن جلسة تعذيب للقارئ. كُتبت عندنا الكثير من الروايات البدينة، ثم ماذا؟ العبرة بالأثر، الثرثرة لا تعني بالضرورة طول النفس السردي، كلام كثير ومعنى قليل، هذا هو الحال مع أغلب تلك الكتابات المتورمة للأسف. لا يمكننا أن نقول كل شيء في رواية واحدة دون أن يخلّ ذلك بالجانب الفني ودرجة التلقي التي نريدها لنصوصنا.

> حصلت على عدد من الجوائز منها «جائزة نجيب محفوظ للأدب» عن رواية «اختفاء السيد لا أحد» و«جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي» عن روايتك «موت ناعم»، كيف ترى علاقتك كقارئ ومؤلف، بأدب وتراث نجيب محفوظ والطيب صالح؟

- أنا سعيد بطبيعة الحال بأني حظيت بجائزتين تحملان اسمي ساردين عظيمين في أدبنا العربي الحديث بوزن نجيب محفوظ والطيب صالح، وأشعر في المقابل بالمسؤولية المعنوية لذلك الامتياز. بالنسبة لمنجز كليهما، فأنا أكثر اطلاعاً وتمثلاً لإرث نجيب محفوظ، مقارنة بتأثري بما كتبه الطيب صالح، من حيث الكم ومن جهة طبيعة الموضوعات والتيمات والشخصيات. لكل منهما بلا شك ما يمكننا أن نتعلم منه دائماً، أثريا المكتبة العربية بأعمال خالدة، من يمكنه أن ينسى ثلاثية نجيب محفوظ، وشخصياته مثل (عيسى) في «السمان والخريف» أو (صابر) بطله التائه والباحث عن أصل وجوده في رواية «الطريق»، وكذلك الحال بالنسبة للطيب صالح وأبطاله في روايتَي «موسم للهجرة للشمال» و«عرس الزين».

> كيف ترى مأزق تحول الجوائز الأدبية إلى «حكم قيمة» على الأدباء في الساحة الثقافية العربية وكأن من لم يحصد هذه الجائزة أو تلك يصبح مداناً على نحو ما؟

- مع الأسف، هذا هو الانطباع السائد. الجوائز ليست نهاية المطاف، إنها مجرد علامات، إشارات. وما يصمد حقاً أمام الزمن وتعاقب القراء من أجيال مختلفة باختلاف الذائقة والتأويلات هو النص والقيمة الفنية والإنسانية. الآداب والفنون ذاتية إلى أبعد حدّ، بالنسبة للكاتب وبالنسبة للمتلقي، وبقاء الرواية وتحقيقها لصدى بمرور الزمن هو المحك الحقيقي. الحصول على جائزة ليس علامة جودة أبدية للكاتب ولنصوصه إجمالاً. كما أن عدم الحصول عليها لا يعني أبداً حكماً نهائياً بمستوى الروايات غير المتوجة بجوائز. الرواية في امتحان، فحص حقيقي، فنياً وقيمياً، عند كل قارئ مختلف في كل مرة، يتمتع بحد من التراكم والاستقلالية. لا يمكنني أن أتخيل أن هناك إجماعاً حول رواية ما مهما كان من كتبها. الجوائز الأدبية لا تصنع أديباً أو مبدعاً.

> ماذا عن واقع الرواية الجزائرية حالياً... كيف ترى المشهد بأبعاده المختلفة؟

- هناك طفرة في عدد الإصدارات تحت اسم «الرواية»، والجدل بشأنها قائم، بين من يرى فيها ظاهرة صحية يمكن التعويل عليها والصبر لحين تنضج بعض الأقلام الشابة ويتحول الكم إلى كيف، وبين من يرى أنها موجة نجمت عن شبكات التواصل الاجتماعي وحب الظهور. وقع القادمون الجدد في فخ الاستسهال، وليس لديهم من الرصيد المعرفي ولا الصبر الكافي للخروج بنصوص تتوفر فيها الشروط الأساسية. من جهتي، لا أعرف ما قد تتمخض عنه الحالة في المستقبل، لا أستطيع التوقع، لكن أثرها الحالي سلبي، يتم التعمية على الكتابات الجادة، والكثرة تضع القارئ في حالة ارتباك... لا أحد لديه الوقت ولا الجهد لقراءة كل ما يصدر، ومن بعد ذلك يقوم بالفرز. دور الصحافة الثقافية تراجع كثيراً ومن يقومون بالنقد كذلك.

> هل الرواية الجزائرية بحاجة لفتح آفاق جديدة بعيداً عن المسارات التقليدية مثل وطأة حضور التاريخ وسؤال الهوية؟

- الموضوعات التي يعالجها الروائيون والروائيات في بلدي كثيرة، ولا تقتصر في الوقت الحاضر على التاريخ أو الهوية. كانت لدينا ما تسمى بـ«رواية الأزمة»، ويقصد بها تلك النصوص التي كتبت غداة «العشرية السوداء» والمأساة الوطنية، والآن هناك انفتاح أكبر على «ثيمات» محلية وإنسانية نشترك فيها مع مجتمعات أخرى، كما أن مقاربة الهوية والتاريخ روائياً لا تعني التكرار، طريقة المعالجة والرؤية قبل ذلك مختلفة عما كُتب من قبل.

> كيف ترى شكوى بعض الأدباء المغاربة من تهميش أعمالهم بسبب بعدهم الجغرافي عن مراكز الثقل في المشرق العربي؟

- التكنولوجيا الحديثة ألغت عوائق الجغرافيا والزمن، أظن أننا أكثر اطلاعاً على ما ينجز هنا وهناك، معارض الكتاب لعبت دوراً مهماً في السنوات الأخيرة، والتواصل خلال الفعاليات والتظاهرات الثقافية أفضل بكثير مما كان سائداً من قبل. صراحة لا أرى في الوقت الحاضر أي مشكلة يمكن أن تثير نقاشات غالباً ما تتخذ طابعاً «شوفينياً» بلا معنى، ولا يخدم أحداً في المغرب أو في المشرق العربيين.



لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم
TT

لا أحد يملك مفاتيح بوابات المشهد الثقافي

أسامة مسلم
أسامة مسلم

في مقالةٍ نُشرت الأسبوع الماضي، كتب الزميل ميرزا الخويلدي عمّا سمّاها «ظاهرة» أسامة المسلّم الأديب النجم، غير المسبوق أدبياً بشهرته محلياً وعربياً؛ القادر على جذب حشود من المعجبين والمعجبات، ممن قرأوا له وممن لم يقرأوا بعد، إلى معارض الكتب التي يوجد فيها.

بدون أدنى شك، يجسّد المسلم ظاهرة الروائي النجم. ومحاولة التقليل من شأن نجوميته والاستهزاء بها ضرب من العبث، والساخر منها والمستهزئ بها «كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل». المسلم جاء، أو ظهر، ليبقى، والنظر إلى تجربته ومنجزه الإبداعي باستعلاء ونفور لن يكون له أي تأثير في الواقع وعليه. وسيستمر الإقبال على مؤلفاته، والتزاحم حوله إلى حد إغماء البعض، أو التسبب في إلغاء فعاليات توقيع رواياته - حقيقةٌ تؤكد حقيقةً أخرى: تداعي أو انهيار صروح الوصاية على الإبداع الأدبي، وتقلص سلطة من يُنَصِّبُون أنفسهم أوصياء وحكام ذوق، يحلمون، رغم تغير الظروف والأحوال، في الاستمرار في توزيع صكوك الاعتراف والتزكية ممهورة بإمضاءاتهم.

جي كي رولنغ

«المُسَلَّمُون» قادمون

وسيأتي «مُسَلَّمُون» (من مُسَلّم) آخرون، مُقَلِّدُون ومتأثرون به، يحاكون أسلوبه في الكتابة، وفي ترويج كتبهم وذواتهم؛ وآخرون تغريهم جوائز «القلم الذهبي» بالمال وبأضواء الشهرة، وبوصول أعمالهم السردية أفلاماً إلى صالات السينما. وسنشهد، محلياً على نحو خاص، ظاهرة الإقبال على كتابة القص الشعبي (popular fiction): الفانتازيا والرعب والإثارة والتشويق والجريمة والرومانس، أو ما يسمى «الأدب الأكثر تأثيراً». وسيوازي ذلك الانتشارُ الفطري - المشرومي لدورات وورش كتابة «الأدب الأكثر تأثيراً». وليس على «المشهد الثقافي» سوى تحمل الظاهرة بإيجابياتها وسلبياتها، حتى وإن كان يوجد من يرفض وجودها. «المُسَلَّمُون» قادمون، فعلى الرحب والسعة، ففي المشهد متسع للجميع. ستجد مؤلفاتهم من يقرأها، ومن يمتنع، وله الحرية والحق في ذلك. لكن ثمة حقيقة أنه لا أحد يملك، أو له الحق في امتلاك، مفاتيح بوابات المشهد الثقافي، يفتحها أمام من يحب، ويقفلها في وجوه من لا يستطيع معهم صبراً.

ستيفن كنغ

البناء الذاتي للشهرة

حقيقة أخرى ذكرها الزميل الخويلدي في مقالته، وهي أن المسلم صنع شهرته بنفسه دون أي نوع من أنواع الدعم والرعاية من المؤسسات الثقافية بنوعيها الرسمي والأهلي. كما لم يكن للنقاد والصحافة فضل عليه، أو إسهام في صنع نجوميته. أضيف إلى ما ذكره الخويلدي، الحقيقة الأخرى: رفض 20 ناشراً لروايته «خوف»، ما اضطره إلى بيع سيارته لينشرها على حسابه.

أعتقد أن رفض نشر روايته علامةٌ على أنه كائن محظوظ، جعله الرفض ينضم بدون اختيار وقرار منه لقائمة الذين رُفِضتْ مؤلفاتهم وانتهى بهم المطاف كُتّاباً وأدباء مشهورين. يبدو أنه ما من شخص تعرضت كتاباته للرفض، إلا وأصبح مشهوراً، يضاف اسمه لقائمة الأسماء التالية على سبيل المثال لا الحصر: إرنست هيمنغوي، ف. سكوت فيتزجيرالد، سيلفيا بلاث، مايا أنجيلو، باربرا كنغسولفر. ومن كُتّاب القص الشعبي: أغاثا كريستي، ج. ك. رولينغ، ستيفن كينغ. سأسقط بعض الضوء على تجربتي ج. ك. رولينغ، وستيفن كينغ مع النشر.

رفض «هاري بوتر» و«كاري»

رفضت 12 دار نشر مخطوطةَ رواية رولينغ «هاري بوتر»، ليس هذا فحسب، بل حذرها أحد الوكلاء الأدبيين بأنها لن تحقق ثروة بتأليفها كتباً للأطفال. ربما شعر، أو لا يزال يشعر، ذلك الوكيل بوخزات الندم على تحذيره رولينغ، وهو يراها الآن تشغل المركز الأول في قائمة أكثر الكاتبات والكُتّاب ثراءً بثروة تقدر بمليار دولار. تحقق لها الثراء من كتاباتها للأطفال، وللكبار، خصوصاً الذين لم تنطفئ دهشة الطفولة فيهم.

أما كينغ، فقد رُفِضَتْ مخطوطةُ روايته «كاري» من قبل 30 ناشراً. وقد أوضح أحد الناشرين في خطاب الرفض إليه أنهم لا يهتمون بروايات الخيال العلمي التي تصور يوتوبيات سلبية (ربما يقصد ديستوبيات) لأنها «لا تبيع»، أي لا تحقق أرقام مبيعات مرتفعة. لكن «كاري» نُشِرَت أخيراً في 1974. ولما أُطْلِقَتْ نسخةُ الغلاف الورقي بعد عام من نشرها، 1975، بِيْعَ منها ما يزيد على مليون نسخة خلال 12 شهراً. والآن كينغ واحد من الكُتّاب الأثرياء، بثروة تقدر بــ500 مليون دولار.

مثلهما واجه المسلم رفض الناشرين. وستصبح سيرته الأدبية أقوى شبهاً بسيرتيهما، خصوصاً سيرة كاتبه المفضل كينغ، عندما تعرض الترجمات السينمائية لرواياته على الشاشتين الكبيرة والصغيرة في القريب العاجل كما يُفهم من كلامه عن ذلك.

تيري وودز وفيكي سترينغر

وللروائتين الأميركيتين تيري وودز وفيكي سترينغر، أعود من كتابة سابقة. فلوودز وسترينغر قصتان طويلتان مع الرفض المتكرر من الناشرين، ولكنهما وضعتا لهما نهايتين مختلفتين عن نهاية قصص الكاتبات والكُتّاب المذكورين أعلاه. يتجلى في قصتيهما الصبر والإصرار على تحقيق الهدف. كان النشر الذاتي نهاية قصة كل منهما، لينتهي بدوره بتأسيس كل منهما دار نشر، شقت الطريق أمامها إلى الثراء.

في المتبقي من وقتها الموزع بين واجبات الأمومة وعملها سكرتيرة في شركة قانونية، فتحت تيري وودز من فيلادلفيا، التي ستصبح فيما بعد رائدة القص المديني - قص المدينة، أو أدب الشارع، أو أدب العصابات، فتحت لنفسها باباً تدلف من خلاله إلى عالم الكتابة، لتشرع في تأليف روايتها الأولى «True to the Game». وبعد فراغها من الكتابة، راحت تطرق أبواب الناشرين. وعلى مدى 6 سنوات، من 1992 إلى 1998، كانت تتلقى الرفض تلو الآخر. ولمّا نفد صبرها، قررت طباعة وتغليف روايتها بنفسها وبيعها مباشرةً لباعة الكتب وللناس في الشوارع. كانت تطوف بالمدن. تنام في سيارتها في مواقف السيارات، وعلى الأريكات في بيوت معارفها، وتقضي ساعات في شوارع نيويورك. ثم انتقلت الى الخطوة التالية: تأسيس دار للنشر. بعد مضي ثلاث سنوات، أصبحت وودز الكاتبةَ المليونيرة. وكان عام 2007 عام خير عليها، وقَّعَت خلاله صفقةَ خمس كتب مع «غراند سنترال بَبلِشينغ»، وظهر الجزء الثاني من روايتها «True to the Game II» على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لصحيفة «نيويورك تايمز»، وفي العام التالي (2008)، كان الجزء الثالث على قائمة «نيويورك تايمز» أيضاً.

أما فيكي سترينغر، فقد أتاحت لها الكتابة مفراً من ضيق الزنزانة إلى رحابة العالم المتخيل في روايتها «Let That Be the Reason»، التي كتبتها في السجن. غادرت فيكي سترينغر ولاية ميشيغان إلى مدينة كولومبس للدراسة في جامعة ولاية أوهايو. وهناك التقت بمن أصبح صديقاً لها. وكان يتعاطى ويروج المخدرات، فاستدرجها إلى الانزلاق إلى هاوية المخدرات وتعاطيها وترويجها، حيث توجّت بلقب «ملكة الكوكايين في كولومبوس». وحين ألقي القبض عليها كان في حوزتها كمية كبيرة من المخدرات ومئات آلاف الدولارات.

في السجن وبعد الخروج منه، كانت الكتابة «خيط أريادني» الذي اهتدت به للخروج من متاهة التعثرات والتيه في الماضي. فعلى الفور، راحت تبحث عمن ينشر مخطوطة روايتها الأولى، لتُمَنى برفضها 26 مرة، ما اضطرها إلى نشرها ذاتياً، وتأسيس دارها للنشر. وتوالى نشر الأجزاء الأخرى من الرواية، ورواياتها الأخرى. أطلقت مجلة «بَبليشرز ويكلي» على سترينغر لقب «ملكة أدب المدينة الحاكمة». وفي 2005، شهدت طوكيو، نشر ترجمات رواياتها إلى اليابانية.

إغراء الناس بدخول المكتبات

تقول الكاتبة آن بارنارد في مقالتها «من الشوارع إلى المكتبات»، المنشورة في «نيويورك تايمز» (23-10-2008)، إن المكتبات في «كوينز»، ونظام المكتبات المنتشرة في البلاد، إلى مقاطعة يورك في بنسلفانيا، تحرص على اقتناء روايات (القص المديني - أدب الشارع - أدب العصابات) كطريقة مثيرة، وإن تكن خِلافيَّةً أحياناً، لجذب أشخاص جدد إلى قاعات القراءة، ولنشر محو الأمية والتفكير واستكشاف ميول واهتمامات الجمهور الذي يخدمونه.

جوهرياً، لا يختلف ما تقوله بارنارد عن روايات وودز وسترينغر وغيرهما من كُتّاب أدب الشارع، عمّا يقال عن روايات المسلم، وجذبها آلاف من الشباب إلى الكتاب والقراءة، وإلى معارض الكتب، وإثارتها الاختلاف والجدل، والانقسام ما بين مادحٍ وقادح.

لكن رغم التشابه بين تجارب وودز وسترينغر والمسلم، يتميز الأخير بأن في وطنه جائزة (جائزة القلم الذهبي) خصصت ستةُ من مساراتها الثمانية للقص الشعبي. قد لا يفوز في الدورة الأولى، ولا في الثانية، ولا الثالثة، ولا الرابعة. وقد لا يفوز بها أبداً. لكنه سيظل الكاتب مثير الجدل، وجاذب الحشود لمعارض الكتب.

ترُى هل سيعزز المسلم التشابه بينه والروائيتين الأميركيتين من ناحية رفض الناشرين في البدايات وجاذبية أعمالهم السردية بتأسيس دار لنشر القص الشعبي، أو هل أقول «الأدب الأكثر تأثيراً»، إذا كان بالإمكان اكتشاف مدى قدرة كتاب على التأثير قبل النشر، وبعده بدون أجهزة وآليات رصد خاصة ومعايير؟

ناقد وكاتب سعودي