«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر

فضّل الروائي أجواءً شعريّة لا سرديّة ليقدم شهادة عن طبيعة حكم صدام حسين

«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر
TT

«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر

«حقائق الحياة الصغيرة»... أننا نعيش في الزمان الخطر وفي المكان الخطر

ربما كان الاستيطيقا (علم الجمال) أصعب العلوم، ولا يعرف أحدنا الجواب عن هذا السؤال: متى يُعدّ العمل أدباً؛ أي فنّاً يشكّل السحر والحياة كيانه وقائمته؟ «إنّ كتاباً يعجبني يشبه امرأةً وقعتُ في حبّها»، لا أتذكّر من قال هذا، هناك سحرٌ يشدّنا إلى الكتاب يشبه غواية المرأة، وكلما تعمّق الكاتب في الأدب، فقد ارتباطه بالواقع، وصارت علاقته بأرضين وسماء مرّ بها آخرون ولم يرَها أحد غيره، ومهمّة الأديب هي نقل تفاصيل العالم الجديد إلى القارئ، وهذا جزء من الجواب بالطبع وليس كلّه...

لعالم اللغة مهدي المخزومي عبارة يحفظها القلب أوّل ما تقع عليها العين: «إذا أردتَ أن تكون مُعاصِراً، فاسكُنْ في القديم»، وأنا أسير على هذا الخطّ منذ زمن طويل، فأقرأ الأدب القديم وأعيد القراءة، ويحصل أحياناً أن ترَدني مؤلّفات عن طريق الإهداء، أو يفوز كاتب بإحدى الجوائز، أو يلمع اسم أحدٍ آخر، وأقول عندها لنجرّب حظّنا مع الجديد في عالم الكتابة؛ في ما يخصّ الكتب المؤلّفة بلغتنا لا تصمد معي أغلب هذه المؤلفات طويلاً، ويكون مصيرها أنها تُركنَ جانباً، ثم تُهمل.

قرأت رواية «حقائق الحياة الصغيرة» للأديب البصريّ لؤي حمزة عباس في جلسة واحدة، لطلاوة وسحر اللغة، وللجوّ الحميم الذي يسود جلّ الصفحات. وهو يُقدم على تأليف الرّواية، كانت لديه رغبة شديدة في تقديم موعظة مفادها أننا نعيش في الزمان الخطر، وفي المكان الخطر، وأن هلاكنا محتوم؛ لأن القتلة يعربدون بكامل قيافتهم داخلَ الوطن، ويطالون الجميع دون استثناء، وليس هذا فحسب؛ بل إن القتيل يمكنه أن يكون قاتلاً ذات يوم. عندما يصير الفرق بين الخير والشرّ معدوماً، تتلوّن الأرض بالرّمادي القاتم والفاتح، وكذلك السّماء. إن الشّعور بالوجود أمرٌ غامض جدّاً، وإذا كنت من سكّان هذه البقعة من الأرض، يكون الأمر أعقد؛ لأنه لا شيء يوجد غير ضوء النجوم في السماء العُليا، وبريق عيون الجرذان في الأرض السُّفلى، وبين هذين النورين نعيش في عتمة متأصّلة وتمتدّ كأنما إلى الأبديّة. هذا ملخّص رواية «حقائق الحياة الصغيرة» الصادرة في العام الماضي عن «دار المتوسّط». ربما اختار الكاتب قلماً مجعّداً ليكتب به عن هذا الزمن المجعّد، من أجل أن يقول لنا روايته بهذه الصورة... كلّ فصل منها لا يتجاوز الصفحة في الغالب، وتبدو الصفحات مثل رسائل شخصيّة إلى القارئ. رغم الوجع الحامي الذي نتلمّسه في الحروف، فإن الحميميّة في اللّغة المستعملة خفّفت كثيراً من الألم الذي يكابده من يطّلع عليها.

يعيش بطل الرواية خارج المجتمع البصري (نسبة إلى البصرة مدينة المؤلف) مثل راءٍ أو شامان، ينظر إلى كلّ شيء من أعلى وأسفل ومن جميع الجهات، ولديه ذاكرة تسجّل كلّ شيء، وتنقله إلى فصول قصيرة تتكوّن منها الرواية، وتبلغ 82 فصلاً، كلّ منها ينقل لنا صفحة من ذاكرة الرائي الشامان. في البدء نراه صبيّاً جالساً عند حديقة المنزل، يقترب منه جرذ ليلحس أصابع قدميه، فيثيره لسان الحيوان «الرقيق فائق الاحمرار وهو يمسّ الجلد»، ويكتشف الصبيّ عندها حَظوة للجرذ في نفسه، وأخذ «يسحب شهيقاً طويلاً، يملأ صدره بهواء الحديقة... ويتملّى خرزات عينَي الجرذ، وتُبهجه فصوصها الدقيقة اللامعة». يدخل هذا الحيوان في حياة الراوي أخاً وصديقاً وحبيباً، وما يشبه الوالي، يشكو له همّه وغضبه من كلّ ما يدور حوله، وكأن شيئاً من الرقّة والانسجام والعذوبة في لقاء «الحسناء والوحش» في المسلسل الشهير، تنتقل إلى قصّة البطل هنا مع جرذه.إن استعادة الحرب العراقيّة - الإيرانيّة تحتاج إلى مساحة واسعة من الصمت، واختار المؤلّف أن يؤطّر صمتنا بزينة لا تقاوم من الشعر والنثر. الفصول قصيرة للغاية، أقلّ من مائة كلمة أو أكثر بقليل، ومع هذا تنقل صوراً في أزمان مختلفة وأماكن كثيرة، المدرسة والبيت والجامع والنهر وساحة المعركة، وفضّل الكاتب أجواءً شعريّة لا سرديّة في تقديم شهادة تاريخيّة عن تلك الحرب. لا يوجد تتابع في الأحداث، والكاتب لا يقدّم لنا تقنيّة جديدة في العمل الروائي، وإنما يقدم تصوّراً جديداً لها، فهو يشرح طبيعة سلطة الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، الذي «كان يتخلّل حياة العراقيّين كما يتخلّل الخيط خرز المسبحة». الدعاية الواسعة التي شملته في الثمانينات اضطرّت الصبيّ الذي صار شابّاً إلى اللجوء لمنقذه الوحيد من هذه التفاهة الكونيّة؛ وهو الجرذ. يحاول الجميع تقليد الرئيس في ما يقول ويرتدي ويفعل. معاون المدرسة يرتدي بدلة «على عادة الرفاق الحزبيّين ورجال الأمن، كلّ حركة منه تهتف بالرغبة الراسخة في أن يبدوَ شبيها بالرئيس». يُلقي خطاباً في ساحة المدرسة، ولم يكن اليوم يوم رفع العلم، و«الطلّاب يصفّقون كلّما ذُكر الرئيسُ القائد أو جيشُنا البطل، ولم تكن كلمته تحتوي شيئاً غيرهما تقريباً». بسبب الكذب والتزوير الشّديدَين، يلوذ الشابّ بعالم الجرذان الواضح والبسيط. أيّ جمال في هذا اليقين؟! وعندما يكتشف صدام حسين حبّ البطل وقربَه من عالم الجرذان، ولأنّ الرئيس كان شغوفاً بأن يحرم كلّ عراقيّ من أيّ شيء يُدخل البهجةَ إلى قلبه؛ فهو يرى جرذاً يعبر مهبط الطائرات حيث كان يقف مع وزير دفاعه، و«سحب مسدسه (البراونينغ) على نحو مباغت، وأطلق رصاصة واحدة في تصويبة دقيقة، قطعت الذيل، ورمت به بعيداً عن الجرذ الذي مرّ بسرعة خاطفة». لم يقتل الرئيسُ الحيوان، وترك في بدنه علامة تدلّ على أن جهازه الحكومي يرى كلّ شيء مهما صغُرَ، وفي دقّة التصويب هنا إشارة إلى الإمعان في القسوة إلى درجة تبلغ الشّعوذة، كأنه كان يقوم بدور

أن تكون جرذاً... هو الحلّ الذي يقترحه الكاتب للبقاء بعيداً عن عينَي صدام حسين والرؤساء السابقين ومعاونيهم وشرطتهم السريّة والعلنيّة... وكذلك للنجاة من أهوال الحروب

الشامان الضدّ، فهو يصيد البعير والحِمْل والحاديَ، وأراد أن يُطلِعَ الفتى على دقّة السلطة الجبّارة في اصطياد أيّ فكرة وإن دقّت لمن يعارض طريقته في الحكم.

لا يريد المؤلف إعلان قصده جهاراً، وتُسرد الأحداث بعينٍ ترى ولا تتدخّل في المجرى، ويكون الهمّ السياسي عندها معبَّراً عنه بإخفاء مقصود يرتفع به العمل إلى مرتبة الفنّ الرّفيع. يكشف الراوي عن سبب تعلّقه بالجرذ: «لكلّ منّا حياة سابقة عاشها بهيئة أخرى، فكان طائراً أو نمراً...»، الجرذُ إذن هو قرينه الذي اختار أن يفنى فيه، محاولاً الهرب من بطش السلطة في «أنفاق طويلة معتمة، حفرها أسلافه الجرذان، لا يتعب ولا يملّ، يركض عابراً من مدينة إلى أخرى». إن العذاب فينا يمتدّ إلى الماضي السحيق، وأن تكون جرذاً فهو الحلّ الذي يقترحه الكاتب للبقاء بعيداً عن عينَيْ الرئيس الحالي، والرؤساء السابقين، ومعاونيهم وشرطتهم السريّة والعلنيّة، وكذلك للنجاة من أهوال الحروب التي لا تنتهي في هذه الأرض: «في هدأة الفجر، يسمع أصوات القذائف البعيدة تدور بها الريح في سماء البصرة، تنزل بأصدائها المزلزلة إلى الشوارع الخالية». إن آلة الحرب توزّع الموت وأفكار الدمار على الجميع في قِسمة عادلة، وفي النّتيجة تنتقل الرّوح المجرمة لدى الرئيس صدّام حسين للسُّكنى في صدور الجماهير التي تُبَثّ عليهم صوَرُه وخطبه والأناشيد التي تعدّت المليون، فها هم الصبيان في المدرسة يعذّبون القطط ويقضون عليها بطرق يريد الروائي أن ينقل لنا بواسطتها ما كان يجري في مطامير أبنية السلطة للمعارضين للرئيس، وتتوزّع العنجهيّة والوحشيّة والرثاثة في طرق العيش على الجميع بالتساوي، فلا يفلت منها أحد، حتى الصبيّ فهو ابن البلد، ولقاح زهراته من شتلاته في أرضها الواسعة حتماً، وفي المشهد الأخير يقوم بالإجهاز على الجرذ؛ قرينِه وصديقِه وأخيه، لأنه لا مصير لمن كان يعيش في عراق صدّام حسين غير أن تسير خطواته على هذه السّكّة.


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».