ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟

توفر كتب الأطفال أداة قيّمة للحفاظ على المواقف الأخلاقية

ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟
TT

ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟

ماذا أقرأ لطفلي حين يشتعل العالم؟

في مايو (أيار) الماضي، وجّهت أنا وزوجي الدعوة إلى صديق فلسطيني لحضور عشاء نقيمه بمناسبة عيد الشبات، وعندما سألَنا ما ينبغي له أن يجلبه معه، طلبت منه كتاباً عن وطنه كي يقرأه ابننا البالغ 7 سنوات. ولأن صديقنا هذا شديد الكرم، ولم يكن واثقاً من مستوى القراءة لدى ابننا؛ فقد جاء إلينا حاملاً مجموعة من الكتب حول أطفال فلسطينيين وتجاربهم، تنوعت ما بين كتب مصورة وأخرى مقسّمة على أربعة مجلدات، تشبه الروايات التي يقرأها طلاب المرحلة الإعدادية.

في أعقاب ما ارتكبته «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) وما تبعه من أسابيع من العنف في غزة، وجدت نفسي منجذبة إلى هذه الكتب.

توفر كتب الأطفال التي تطرح الحقائق بأسلوب بسيط، أداة قيّمة للحفاظ على المواقف الأخلاقية، خصوصاً في خضم دوامة من الحزن والغضب. ويمكن لهذه الكتب، ببساطتها وشجاعتها، أن تمنح المجتمعات التي تعاني الاستقطاب إمكانية للاطلاع على قصص الجانب الآخر، بما يذكّرنا بإنسانيتنا المشتركة، وكذلك مصلحتنا المشتركة في إيجاد سبيل نحو التعايش السلمي.

في الكتب التي قرأتُها مع ابني، رأيت أن مؤلّفي كتب الأطفال الفلسطينيين اليوم يفعلون شيئاً سبق أن عاينته خلال بحث لي حول أدب الأطفال اليديشي الذي أنتج القرن الماضي؛ ألا وهو السعي الدؤوب لمعاونة الأطفال على استخراج معنى منطقي من العالم الذي يستعدون لوراثته، مع العمل في الوقت ذاته على الكتابة عن عالم أفضل.

ويعتمد الأدب اليديشي الذي درسته على كتب ودوريات صدرت ما بين عامي 1900 و1970 في أربع قارات، في ظل أنظمة سياسية متنوعة، بينها الاشتراكية، والشيوعية، والصهيونية واليديشية الخالصة. وجرت كتابة الأعمال التي درستها على أيدي مجموعة من المعلمين والكتّاب أصحاب الثقافة العالية ومؤلفين معنيين بأدب الأطفال. ونجح هؤلاء الكتّاب في بناء عوالم خيالية مثيرة لقرائهم تمكّنهم من الهرب من الواقع إليها والطموح لإعادة. وفي الوقت ذاته، تحثّهم على تحمّل ومحاولة علاج المشكلات الاجتماعية القائمة بالعالم الواقعي، مثل التفاوت في الدخول والعنف المستمر المعادي للسامية.

وصف الكتاب اليديشيون منذ قرن مضى أعياد شبات ساحرة، وحكاماً غريبي الأطوار وأحداثاً سعيدة وأخرى حزينة، مرّت بتاريخ اليهود الأشكينازي وأثرت على هويتهم، مع عدم إغفال القصص الدرامية العادية التي يعيشها الأطفال داخل حياتهم اليومية؛ بمعنى مختلف الأفراح والأحزان التي يعايشها الأطفال بمختلف أرجاء العالم والثقافات.

وتشدد القصص اليديشية على السبل التي يمكن للأطفال من خلالها التصرف على نحو أخلاقي، ودفع ثقافتهم قدماً. وبدلاً عن تعزيز المشاعر الوطنية التقليدية، تتبع هذه الأعمال الميل العام الذي يتسم به الأدب والفن والأفلام اليديشية نحو استكشاف كيف يمكن لثقافة توصيف أمة ما ورسم ملامحها.

ويبدي أدب الأطفال اليديشي اهتماماً بحضارات بعيدة، ويسعى لأن يطرح على قرائه، ما سبق وأن وصفته المعلمة إيميلي ستايل بـ«النافذة والمرآة»: أي انعكاسات تجاربهم على تجارب آخرين. على مدار عقود وعبر محيطات، اعتمد هؤلاء الكتاب على قصصهم لتحويل «الكائنات الغريبة» إلى فئات إنسانية أخلاقية قادرة على التعاطف مع غيرها.

ويعدّ الأدب السردي القائم على الخيال أداة فاعلة لنقل معاناة الآخرين وخلق التعاطف معهم؛ الأمر الذي ينطبق على أدب الأطفال. لذلك؛ فإن البالغين الذي يفشلون في إدراك مدى خطورة دور الأعمال الأدبية، أو يحاولون تقييدها أو حظرها، فإنهم بذلك يتورطون في الاستخفاف بعملية يتعلم الأطفال من خلالها كيفية التعلم والشعور، وبالتالي يقوّضون قدرتهم على التأثير على المستقبل.

يجابه جيل كامل من الإسرائيليين والفلسطينيين، فضلاً على أولئك الذين يهتمون بمصيرهم في الخارج، الآن مزيداً من خطر فقدان الثقة في إمكانية السلام. وفي خضم هذه اللحظة الحرجة، يمكن لكتب الأطفال أن تساعد عبر سبيلين مهمين: أولاً: أنها تقيم عالماً، حيث يمكننا أن يعاين بعضنا ألم بعض، وكذلك خوفنا، وفرحنا.

حقائق

يجابه جيل كامل من الإسرائيليين والفلسطينيين فضلاً على أولئك الذين يهتمون بمصيرهم في الخارج الآن مزيداً من خطر فقدان الثقة في إمكانية السلام

في كتاب «أسرار سيتي» بقلم ناعومي شهاب ناي (يتناول بأسلوب لطيف وشعري زيارة فتاة أميركية- فلسطينية لجدتها وأبناء عمومتها الذين يعيشون «على الجانب الآخر من الأرض») تمتزج النغمة المستمرة من الشوق بمشاعر البهجة للالتقاء بالعائلة. في كتاب هانا مشبيك «الوطن: أحلام أبي بفلسطين»، يعيد أب فلسطيني صياغة ذكريات شبابه في البلدة القديمة في القدس، لتتحول إلى قصص ما قبل النوم لبناته.

كما تدور أحداث فيلم «الصبي والجدار» للمخرجة أمل بشارة، إنتاج عام 2005، بالقرب جغرافياً من الصراع، وتقدم نظرة شاملة لجدار الفصل الذي جرى بناؤه في الضفة الغربية.

وثمة كتاب ملوّن باللغتين الإنجليزية والعربية، جرى تأليفه بالتعاون مع الأطفال الذين يعيشون في مخيم عايدة للاجئين، قرب بيت لحم، ويعكس بطبيعة الحال ارتباكهم وألمهم في ظل احتلال لا ينتهي - وينقل ذلك ببراعة إلى القراء.

هذه هي نوعية الأعمال التي أودّ أن يطلع عليها طفلي. كما أريد في الوقت ذاته من العائلات غير اليهودية أن تقرأ الكتب التي تمثل إنسانيتنا الكاملة، في كل ضعفنا وفرحنا اليهودي.

وكما لاحظت الناقدة الثقافية مارجوري إنغال، فإن موضوعات المحارق النازية ممثلة بشكل زائد بين الكتب المتعلقة باليهود الصادرة عن الناشرين الأميركيين الرئيسيين، في حين يشعر كثير من مؤلفي كتب الأطفال وأمناء المكتبات اليهود بأن ثمة نقصاً واضحاً في الأعمال التي تصور الحياة اليهودية اليومية في إسرائيل. من جانبي، أتمنى أن يحظى القراء الأميركيون باطلاع أوسع على صور الازدهار اليهودي، بما في ذلك في إسرائيل، كما في كتاب غانيس هيشتر بعنوان «فتاة المغامرة: دابي ديغز في إسرائيل». أتمنى أن يجري النظر إلينا في كمالنا وتعقيدنا، وأن نرى الآخرين بالطريقة نفسها، وهذا جزء مما يمكن أن تقدمه كتب الأطفال.

علاوة على ذلك، يعزز أدب الأطفال أكثر من مجرد الوعي الأساسي بأوجه التشابه والاختلاف في إنسانيتنا المشتركة، وإنما يستحضر عالمياً حيث يمكننا أن نتخيل -معاً- شيئاً أفضل مما نحن عليه الآن. على سبيل المثال، يخاطب فيلم «دانيال وإسماعيل» للمخرج خوان بابلو إغليسياس، الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و6 سنوات، ويحكي قصة صبيين، أحدهما فلسطيني والآخر يهودي، يتغلبان على اعتراضات والديهما لتكوين صداقة داخل ملعب كرة القدم. وتعترف حبكة الفيلم ببراعة بأن الجيل الجديد سيتعين عليه معرفة كيفية صنع السلام، وأنه يمكن للأطفال أن يرشدونا نحو طريق السلام.

في الحقيقة، مثل هذه الكتب وفيرة وجذابة. وجرى إبداعها بالأساس بهدف صياغة عالم أفضل ودفعه إلى الوجود: والآن يجب علينا استغلالها لقراءة عالم أفضل والعمل على خلقه. وفي حين أن هذه الحكايات مهمة من أجل القرّاء الصغار، فإنها مهمة كذلك لنا نحن البالغين.

الحقيقة، أن من يتابع الأخبار منا ويتملكه اليأس يحتاج إلى هذه القصص، بلطفها وشراستها الأخلاقية. أسباب الكرب تتراكم في أكياس الجثث، وأرواحنا تتحطم بسبب عجز الأغلبيات الديمقراطية، على ما يبدو، عن محاسبة قادتها والمطالبة بالكرامة والسلامة والسلام للجميع بمختلف أنحاء المنطقة.

أدب الأطفال لا يستطيع حل هذه المشكلات بالتأكيد؛ لكنه يخلق ساحة للحلم، وحصناً أساسياً للأمل العقلاني. ومن دون الأمل لن يتحقق أي أمر جيد.

 

* أستاذة الثقافة والأدب اليديشي ومديرة معهد «تام» للدراسات اليهودية التابع لجامعة إيموري


مقالات ذات صلة

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

يوميات الشرق إقبال واسع على كتب الفانتازيا العربية في معرض جدة للكتاب (الشرق الأوسط)

كاتبان عربيان يُعيدان تعريف الفانتازيا من جدة إلى السويد

ما بين جدة واستوكهولم، تتشكّل ملامح فانتازيا عربية جديدة، لا تهرب من الواقع، بل تعود إليه مُحمّلة بالأسئلة...

أسماء الغابري (جدة)
كتب ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي.

أليكسس كو (نيويورك)
كتب هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

هدى سويد توثِّق ذكريات الحرب اللبنانية بروح أدبية

في كتابها الجديد «عزف على أوتار مدينة»، تعود الكاتبة اللبنانية- الإيطالية هدى سويد إلى واحدة من أكثر المراحل قسوة في تاريخ لبنان.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
كتب «الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

«الخروج من الظل»... تفكيك فكرة الرجولة وشخصيات متمردة

ينصب التمرد غالباً على سلطة اجتماعية تتشبث بأعراف وتقاليد ومفاهيم تحاصر المرأة وتحد من حريتها.

رشا أحمد (القاهرة)
يوميات الشرق من ندوة حوارية بعنوان «دور الجمعيات المهنية في تنمية الصناعة الثقافية» (جدة للكتاب)

الجمعيات المهنية ترسم ملامح صناعة ثقافية منظَّمة بالسعودية

كيف تتحوَّل الثقافة من نشاط قائم على الموهبة والاجتهاد الشخصي إلى صناعة منظَّمة؟

أسماء الغابري (جدة)

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).