مسيرة العلاقات الثقافية السعودية ـ الروسية منذ مطلع القرن العشرين

الأواصر الثقافية التي ربطت روسيا بالعرب ولغتهم وديانتهم بدأت عمليًا في أواخر القرن السابع عشر

الملك عبد العزيز
الملك عبد العزيز
TT

مسيرة العلاقات الثقافية السعودية ـ الروسية منذ مطلع القرن العشرين

الملك عبد العزيز
الملك عبد العزيز

بدأت فكرة هذا الموضوع قبل نحو خمسة عشر عامًا، في فعالية ثقافية أُقيمت في موسكو بمناسبة مرور سبعين عامًا على زيارة الأمير (الملك) فيصل بن عبد العزيز وزير الخارجية السعودي آنذاك إلى الاتحاد السوفياتي وبعض دول أوروبا، والتي قام بها قُبيل إعلان توحيد السعودية (1932) وبعد ثلاث سنوات من تعيينه وزيرا للخارجية في عهد والده المؤسس الملك عبد العزيز، وهذا الموضوع - الذي يحصره العنوان بإطار زمني محدد وهو مطلع القرن العشرين المنصرم، وبإطار مكاني يسمى جغرافيًا روسيا الاتحادية حاليًا - قد يُحلّق متجاوزًا حدّيه الزماني والمكاني، حيث يصعب الالتزام بدقة ببداية القرن الماضي في مثل هذا الموضوع، كما يصعب التفريق بين روسيا اليوم والاتحاد السوفياتي بالأمس.
إن أول ما سجلته العلاقات الروسية السعودية سياسيا، هو تلك الاتصالات المبكّرة بين الروس من جهة والإمام عبد الرحمن وابنه الأمير (الملك) عبد العزيز في الكويت في مطلع القرن العشرين من جهة أخرى، حيث تشير الوثائق التي عُثر عليها في العقود القليلة الماضية إلى مراسلات ولقاءات جرت في الكويت وبوشهر قُبيل استرداد الرياض وبُعيد ذلك، كانت تهدف إلى الحصول على دعم من الروس لاستعادة الحكم، وكان الروس فيها يتمنّعون حينًا مداراة للنفوذ البريطاني، بينما كانوا في أحيان أخرى على العكس من ذلك يرغبون في ما يتيح لهم إقامة علاقات وديّة مع إمارات الجزيرة العربية، وكان آخر تلك الاتصالات رسالة مكتوبة بتاريخ 30 أبريل (نيسان) 1904 مفادها أن عبد العزيز أتى إلى الكويت عام 1903 أي بعد استعادة الرياض بعام واحد، وأنه التقى بالقنصل الروسي وبقائد عسكري فرنسي كانا موجودين في الكويت حينها، حيث عرضا الحماية على المناطق التي يسيطر عليها ابن سعود، إلا أنه رفض العرض.
على أن الأرشيف الدبلوماسي لتاريخ بلاد الحرمين الشريفين، يسجل بأن روسيا القيصرية، كانت تقيم لها قنصلية في جدة منذ عام 1892 وأن روسيا السوفياتية كانت أول حكومة اعترفت بسلطة الملك عبد العزيز على الحجاز (16 - 2 - 1926) وأنها رفعت تمثيلها الدبلوماسي عام 1929 إلى مفوّضية (بمثابة سفارة) اهتمت بشؤون الحج وبتنمية العلاقات السياسية وبرعاية المصالح الاقتصادية وزيادة حجم التبادل التجاري، مما أعطى دليلاً قويًا على أهمية بلاد الحرمين الشريفين في نظر الروس، وعلى قِـدم التواصل بين البلدين، وتدل الوثائق على أن العلاقات التي ربطت بين الدولتين قد حكمتها المصداقية والشفافية، ومثّـلت مكاسب سياسية لروسيا وجدت فيها بريطانيا منافسة كبيرة لها حاولت مرارًا تعطيلها.
ويذكر التاريخ الدبلوماسي لفترة ما قبل الحكم السعودي اسم الأمير لُطف الله الذي كان يمثّـل الحجاز في عهد الهاشميين (الأشراف) في موسكو في بداية علاقاتهما، أما بالنسبة للممثّـلين الروس فإن أبرزهم اثنان، اهتم الأول منهما وهو كريم حكيموف بتطوير الصلات الدينية والثقافية، بينما اهتم الثاني وهو نذير توراكلوف بتنمية العلاقات التجارية، وقد تناولت المراجع اللقاءات المتكررة التي كان هذان المسؤولان يجريانها مع الرسميين السعوديين وعلى رأسهم الملك عبد العزيز، ولأن كريم حكيموف عاش حقبة انتقال الحكم في الحجاز من الهاشميين إلى السعوديين (1925) فقد أسهم في تأسيس العلاقات مع الدولة الجديدة، وصار عميدًا للسلك الدبلوماسي في جدة، وهو مسلم من أصل تتري يجيد الفارسية والتركية إلى جانب لغته الأصلية الروسية، وقد عاد وزيرا مفوضًا في المفوّضية الروسية في الحجاز مرة أخرى (22 - 2 - 1936) لكن فترة إقامته الثانية لم تدم طويلاً، إذ استدعي في غضون عامين وقُفلت المفوضية في عهد ستالين (11 - 1 - 1938) وكان مصير الإعدام في انتظاره، وقد تزامن قفل الممثلية مع غلق الكثير من الممثليّات السوفياتية الأخرى في أنحاء العالم بما فيها اليمن، ويقول أحد التعليقات إن السوفيات لم ينجحوا في تحقيق مكاسب كبيرة من وراء تلك المفوضية وإن ترشيد الإنفاق كان أحد الأسباب.
ومن بين الدبلوماسيين الروس الذين عملوا في جدة في تلك الفترة ولم يرد لهما ذكر كاف في الكتابات المتأخرة؛ الكاتب مويس مارلوفيتش اكسلو الذي يُذكر أنه كتب مقالات مؤيّدة للملك عبد العزيز لا ندري أين نشرت، والطبيب سيتبكوف الذي - خشية على نفسه - استقر في الحجاز بعد إغلاق المفوضية وعمل في أحد المستشفيات بجدة.
ولقد تتوّج اعتراف موسكو بالحكم السعودي الجديد في الحجاز، بالزيارة التاريخية الرائدة التي قام بها الأمير فيصل ــ بوصفه وزيرا للخارجية ونائب الملك في الحجاز ــ إلى موسكو بعد سبع سنوات (مايو/ أيار 1932) طالبًا دعمًا سياسيا واقتصاديا وعسكريًا لبلاده التي كانت على وشك إعلان توحيدها جغرافيًا وسياسيا، تحت اسمها الحالي (المملكة العربية السعودية) في العام نفسه، وتحدثت الكتابات التي صدرت في الذكرى السبعين لتلك الزيارة عن تفاصيل واسعة عنها وعمّا دار فيها، حيث أبانت الكتابات أنها لم تكن مجرد مجاملة بروتوكولية، وإن لم تحقق كثيرًا مما استهدفه الوفد السعودي بل والروسي من مطالب، لكن حضور الأمير فيصل ذي الخمسة والعشرين عامًا حظي بحفاوة بالغة على كل المستويات.
وكان مما سجله تاريخ العلاقات الجيّدة بين البلدين في الثلث الأول من القرن الماضي، مشاركة روسيا السوفياتية في المؤتمر الإسلامي العالمي الأول المنعقد في مكة المكرمة عام 1926 بشخص العلامة موسى جار الله (من قازان) وبشخصيّات إسلامية بارزة من مناطق أخرى، وتذكر المراجع أن تلك المشاركة جاءت من موسكو بهدف تعزيز مركز الملك عبد العزيز لقيادة العالم الإسلامي في مقابل جهات منافسة تدعمها بريطانيا وفرنسا.
وتذكر المراجع السعودية والروسية بالتقدير إسهام روسيا في عام 1934 في توفير وسائل الاتصال اللاسلكي، عندما كانت البلاد السعودية تفتقر إلى أدناها ولا تمتلك المال لشرائها، إذ أهدت موسكو (20) محطة لاسلكية إلى السعودية تم توزيعها في أرجاء البلاد، وكان لتلك الهدية دلالاتها الودية والاقتصادية (جريدة أم القرى، العدد 499 لسنة 1934).
لكن القارئ للعلاقات الروسية السعودية سرعان ما يستحضر تلك الفترة المعتمة التي أطبقت عليها إبان الحقبة الشيوعية ودامت أكثر من نصف قرن، لم يكن المجتمع السعودي في معظمها، يتذكر من روسيا سوى ما كانت تختزنه ذاكرته عن علماء مسلمين أفذاذ ينتمون إلى مدن روسية أو سوفياتية التبعية، حيث حالت السياسة طيلة خمسين عامًا ونيّفًا، دون أن تتصل بلاد البخاري والترمذي والخوارزمي وابن سينا مع بلاد الحرمين الشريفين، مع أن صلتهما لم تنقطع طيلة القرون التي سبقت وكانت الشعوب فيها - رغم بُعدها الجغرافي - على أعلى ما تكون الأفئدة قربًا ووثوقًا، وكان الحاج من طشقند وداغستان (محج قلعة) ودربند وقازان والشيشان وتترستان واستراخان وسمرقند وخوارزم وبخارى يمشي شهورًا، راجلاً أو ممتطيًا دابّته، ليأوي إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، يقيم فيهما ردحًا من الزمن أو يمضي بقية عمره، يعلّم فيهما ويتعلّم، ويتبادل فيهما ثقافته، لأنه يرتبط معهما برباط روحي إيماني وثيق.
وكانت روسيا في الثلاثينات، أقرضت الحكومة السعودية بعض احتياجاتها من المنتجات البترولية والحبوب والسكر، لكنها سرعان ما توقفت في الأربعينات، اللهم إلا ما تسرّب من أنواع السيارات الروسية رخيصة الثمن (موسكوفيتش) كانت تصل إلى السعودية مباشرة أو عبر وسيط ثالث، وقد أسهمت ظروف الحرب العالمية الثانية وما خلّفتها من تداعيات سياسية وآثار عقدية وفكرية وانكماش في الاقتصاد العالمي، في تراجع هذا التواصل المادي والثقافي بين آسيا الوسطى والجزيرة العربية، حتى أصبح الحجاج من الاتحاد السوفياتي يعدّون بالمئات بعد أن كانوا يعدّون بالآلاف.
وهكذا شهد القرن الماضي أشكالاً متفاوتة من الصلات السياسية والثقافية والاقتصادية، تراوحت بين دفء وبرود، وامتداد وانكماش، وكانت العلاقات بين البلدين مسرحًا تتنازعه منافسات الدول الكبرى وبخاصة بريطانيا، التي ما انفكّت تعمل على إضعاف العلاقات الوديّة في مجملها بين السعودية والاتحاد السوفياتي، وهو الذي رغم نزعته الآيديولوجية لم يتدخّل - كما تذكر الوثائق - في المسار الديني الذي كانت تنتهجه السعودية.
ولعل من أفضل من درس تأثيرات الحج والعوامل الدينية الإسلامية في المجتمع الروسي، وانعكاساتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية - وبخاصة بعد ضم الشيشان وداغستان وتترستان وأوزبكستان وقازاقستان وقرغيستان وتركمانستان وأذربيجان إلى روسيا (1898) وزيادة أعداد المسلمين الخاضعين للإمبراطورية الروسية - هو ما كتبه الضابط الروسي عبد العزيز دولتشين المولود عام 1861 وكان يتحدث العربية والفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية، والذي قام برحلة غير معلنة للحج عام 1898 حيث قدّم رواية وصفيّة شملت رحلات الحج من روسيا في تلك الفترة (نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين) وغطّت مظاهر الروابط التاريخية بين شعوب آسيا الوسطى وبلاد الحرمين الشريفين، وقد صدر الكتاب مؤخّرًا بعنوان «الحج قبل مائة سنة: الرحلة السرية للضابط الروسي عبد العزيز دولتشين إلى مكة المكرمة 1898 - 1899 الصراع الدولي على الجزيرة العربية والعالم الإسلامي» قدّم فيه سردًا لتاريخ الإسلام السياسي في روسيا، وبدايات الاهتمام بظاهرة تنامي الروح الدينية في الأقاليم الخاضعة لها، وإنشاء المساجد والمراكز الدينية ونشر الكتب، وترجمات معاني القرآن الكريم، وهو ما دعا القيادة السياسية الروسية إلى جمع المعلومات عن دور الإسلام في الحياة الاجتماعية والسياسية للسكان المسلمين في روسيا ومن ثمّ إيفاد دولتشين، فلقد اكتسب الحج أهمية خاصة بالنسبة روسيا لأنه كان سبيلاً لتسرب مختلف المذاهب الإسلامية إلى روسيا، كما وجدت القيادة الروسية في دراسة التجمّع في الحج آنذاك وسيلة لمعرفة التوجّهات السياسية وكسب تأييد المعسكرات المتضادّة الممثلة فيه، كما انتقلت بواسطة الحج بعض العبادات والطرائق والأفكار والعادات الدينية، فضلاً عن انتقال الكتب والمطبوعات الإسلامية المؤثّـرة، ووصف هذا الكتاب الذي نشره يفيم ريزفان (بيروت 1944ط 3 ثم أعيدت طباعته حديثًا في لبنان) الدروب الرئيسية للحج الروسي، وتكاليفه، وأعداده، وفئاته، والمدد التي يستغرقها، والجاليات المستقرة في الحجاز من روسيا، والأوضاع الصحية بين الحجاج، ومأكولاتهم ووسائل مواصلاتهم، والمخاطر والابتزازات التي يتعرضون لها في طريقهم، ثم تحدث عن تأثير الحج على المسلمين القادمين من روسيا وتأثيرهم في الحجاز والدوافع التي تدفعهم للحج، وذكر الكتاب أن عدد الحجاج القادمين من روسيا في نهاية القرن التاسع عشر بلغ نحو (3500) من أصل ما يقرب من إجمالي مائة ألف حاج من أنحاء العالم الإسلامي، كما ذكر أسماء مطوّفين من أصول بخارية يتولون أمر الحجاج القادمين من روسيا، وقدم الكتاب إحصائيات توضح تناقص أعداد الحج من روسيا، حيث أصبح يقاس بالمئات، بشكل لا يتناسب مع مجمل عدد المسلمين في روسيا.
وبلغ من اهتمام الروس بالدراسات المتصلة بالإسلام والمسلمين أن قاموا منذ عام 1910 بترجمة أبرز كتب الرحالة والمستشرقين، مثل ذلك الكتاب الذي ألّفه الرحالة الهولندي سنوك هورخرونيه عن وصف مكة المكرمة عام 1885 وكذلك كتاب رالي «مكة المكرمة في أوصاف الأوروبيين» وبالإضافة إلى كتاب دولتشين هذا، هناك كتاب قديم نادر طبع في روسيا بالعربية قبل مائة وخمسة عشر عامًا يحكي (أخبار التتار والبلغار) للشيخ الرمزي، وكان من أبرز ما تضمّنه قائمة بعلماء روسيا من ذوي العلاقة ببلاد الحرمين الشريفين مطلع القرن الماضي.
وبمناسبة الحديث عن الهجرات إلى الحجاز، يثبت عدد من المؤرخين والرحالة والمستشرقين، أن مهاجرين ومجاورين من شعوب وسط آسيا ومن يطلق عليهم مصطلح البخارية أو قديمًا (الموسكوف) كانوا موجودين في الحجاز قبل القرن التاسع عشر، وأصبحوا جزءًا من بنية الحياة الاجتماعية اليومية المكيّة والمدنيّة جنبًا إلى جنب مع هجرات أخرى ؛ مصرية وتركية وجاويّة وهندية وأفريقية.
كانت هجرة جاليات وسط آسيا قد تمت على ثلاث مراحل، بدأت بوادرها في سنة 1885 ثم في مطلع القرن العشرين (في حدود عام 1917) عند قيام الثورة البلشفية، وبلغت حدتها في سنة 1933 حيث وفدت مئات من التركستانيين (ومنها الطاشكندي، والقوقندي، والمرغلاني، والإنديجاني) وكان من بين هذه الجاليات علماء وحرفيون نقلوا معهم معارفهم وثقافاتهم، وبينما تذكر الدراسات أن بعض تلك الهجرات كانت من كبار السن والمنقطعين عن أقاربهم، فإن أعدادًا منهم كانوا صغار السن من أبناء العلماء والتجار، حتى إن أغلبهم مرّ في أفغانستان وباكستان للتزوّد ببعض العلوم، وقد أكرم الملك عبد العزيز وفادتهم، وربما يكون هو الذي اختار الطائف مقرًا لإقامة معظمهم، حتى أن حيًا كاملاً في الطائف (الشرقية) يسمّى باسمهم، وكان من أبرز آثار الطوائف القادرة من هذه الجاليات، جهودها الجماعية في إقامة الأربطة والأوقاف التي يعود تاريخ بعضها في مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى ما يزيد على مائتي عام، وقد سميت هذه الأربطة الخيرية ــ التي كانت توقف على إسكان الحجاج وطلبة العلم وتغذيتهم أحيانًا ــ سميت بأسماء مدن تميّز تلك الجاليات (كالقستي والسمرقندي والقوقندي والأنديجاني والنمنكاني) وقد تُـلحق بها مدارس لتحفيظ القرآن الكريم والسنة النبوية، مع استخدامها لإقامة المناسبات الدينية والولائم الخيرية وإطعام المحتاجين، ونظرًا لانقطاع الصلة المباشرة لمعظم تلك الجاليات المهاجرة مع مواطنهم الأصلية، ولما يتطلبه الاندماج في المجتمع الحجازي، فإن البعض يرى في علاقته بالمجتمع الأصلي علاقة رمزية، ويسعى للتأكيد على هويته السعودية وحذف ما يشير إلى جذوره القومية والحرص على التزاوج مع الأسر المحلية، أسوة بالجاليات المهاجرة الأخرى، ويتركز نشاط معظم تلك الجاليات في التجارة وفتح المطاعم، حيث نجحت في إشاعة مأكولات معينة أصبحت مع السنوات جزءًا من الوجبات الوطنية، كما انخرط جزء منهم في الوظائف الحكومية عامة وفي التخصصات الأمنية بخاصة، والتحق أبناؤها بدراسات الشريعة والطب والهندسة والمكتبات على وجه الخصوص.
ولا يكتمل الحديث عن الصلات الثقافية بين روسيا وبلاد الحرمين الشريفين، دون التطرق إلى دور ثقافة الاستشراق، وإلى جهود الرحالة والمؤرخين وكتاباتهم، فبرغم أهمية الاستشراق الروسي الذي ألّفت عنه الكتب وكتب عنه الكثير من الأبحاث، ورغم كثرة المستشرقين والرحالة الروس، مع أن القليل منهم زار الأراضي المقدسة لأسباب دينية، لكن القاسم المشترك الأهم في كثير من الدراسات الاستشراقية الروسية الاهتمام بتحليل الروابط الدينية بين روسيا وبلاد الحرمين الشريفين، وبتأثير الحج على أساس أنه أحد دوافع الرحلات، وأحد أبرز مظاهر التديّن للمسلمين، كما عنيت بترجمات معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري وعيون الكتب الإسلامية والعربية، وتعيد بعض تلك الدراسات تاريخ بدء اهتمام أهل المشرق العربي بالروس إلى العصر العباسي الأول، عندما توغّل التجار العرب في الأراضي الروسية لأغراض التجارة وحب الاستطلاع، وبادلهم التجار الروس ذلك بقصد التجارة أو الحج، ثم زادت الروابط وثوقًا بعد سقوط الإمبراطورية المغولية، وما تبع ذلك من توغّل روسيا في آسيا الوسطى الغنية بالمعارف وبالثقافة العربية والإسلامية والكتب والمخطوطات من آثار البيروني والفارابي والرازي وابن سينا وغيرهم، فربط الإسلام بينها وبين العرب، بعد أن أصبح فيها نحو (25) مليونا من المسلمين في آسيا والقوقاز، وما يزال أحفادهم يتحدثون العربية إلى اليوم.
كانت الأواصر الثقافية التي ربطت روسيا بالعرب ولغتهم وديانتهم، بدأت عمليًا في أواخر القرن السابع عشر، عندما قامت الدوائر العلمية الروسية بترجمة الكثير من الكتابات والمصادر الأوروبية، ثم كان انفتاح القيصر بطرس الأول على الثقافتين الغربية والشرقية، ورغبته في التعرف على الإسلام، فصار الاهتمام بالإسلام يأخذ منحى علميًا بدأه المستشرق الروسي (كانتمير) الذي تناول ظروف النشأة التاريخية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أقام أول مطبعة عربية في روسيا، وقد شهد مطلع القرن الثامن عشر أول ترجمة روسية لمعاني القرآن الكريم (1716) وكان قرار القيصر بتأسيس قسم خاص لدراسة الحضارة العربية والإسلامية في أكاديمية العلوم الروسية، ومن ثم إيفاد بعثات لدراسة اللغة العربية مفتاحًا حقيقيًا لانتشار متحدثيها في الدوائر العلمية والرسمية الروسية، بعد أن تعمّقوا في عالم الشرق وثقافته وديانته.
وهكذا كانت صلات الحج والروابط الدينية بين مسلمي آسيا الوسطى وبلاد الحرمين خصوصًا والمشرق عمومًا، أحد حوافز نشاط الاستشراق والاهتمام السياسي الروسي، ويكفي أن يُشار إلى الدراسة التي أنجزها فاسيلييف (الثاني) عن تاريخ السعودية (موسكو، دار التقدم 1986) واعتمدت كثيرًا على التراث الاستشراقي في محاولته لفهم الخلفية الثقافية لتاريخ شعب الجزيرة العربية.
وشهدت الأعوام الخمسة والعشرون الماضية منذ أن عادت العلاقات السياسية إلى صافي طبيعتها القديمة، عددًا من الندوات والفعاليات والمؤلفات والأطروحات العلمية والمنح الدراسية ومراكز الدراسات والزيارات الرسمية المتبادلة التي تعزز من وديّة العلاقة وتزيدها حميمية، مشيرًا في هذا الصدد إلى عشرات الكتب التي أصدرها الداعية والرحّالة السعودي الشيخ محمد ناصر العبودي عن روسيا بخاصة وعن بلاد ما وراء النهر وآسيا الوسطى بعامة، وإلى كتاب «العلاقات السعودية السوفياتية والسعودية الروسية 1926 - 1997» لعلي محمد الشهري الصادر عام 2001 معتمدًا على أرشيف السياسة الخارجية الروسية للاتحاد السوفياتي، وإلى كتاب «العلاقات السعودية الروسية في ضوء المتغيّرات الإقليمية والدولية 1926 - 2004» للدكتور ماجد التركي (2004) وهي دراسة علميّة مجازة من قسم العلوم السياسية بجامعة موسكو، وإلى بحث حديث بعنوان «العلاقات السعودية السوفياتية بين عامي 1926 و1938» للدارسة هبة السبيعي من قسم التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض، وإن إقامة هذا الملتقى الثقافي بمناسبة اليوم الوطني السعودي والمصادف لمرور ربع قرن على استئناف العلاقات السعودية الروسية، هي فرصة تشيّد من جديد جسرًا ثقافيًا مع منطقة طالما أسدت للحضارة الإسلامية كنوزًا من المعارف والمخطوطات وأسهم مفكروها وعلماؤها في خدمة التراث العربي والإسلامي، ومناسبة تمدّ ذراعًا من التواصل لتعزيز الاحترام المتبادل والشراكة الثنائية المتكافئة.

* إعلامي وباحث سعودي



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.