المبارزة.. انعكاساتها في الأدب والفنون عبر القرون

ممارسة اختفت لكنها تلقي ضوءًا على تغير القيم الاجتماعية

جين أوستن  -  تشارلز ديكنز  -  بوشكين
جين أوستن - تشارلز ديكنز - بوشكين
TT

المبارزة.. انعكاساتها في الأدب والفنون عبر القرون

جين أوستن  -  تشارلز ديكنز  -  بوشكين
جين أوستن - تشارلز ديكنز - بوشكين

«إصابة: المبارزة في الأدب» عنوان كتاب صادر حديثا من تأليف جون لي (مطبعة جامعة هارفارد 253 صفحة).
والكتاب يندرج في باب «الدراسات الثقافية»، وهي مبحث حديث نسبيا يتحرك بين مجالات معرفية مختلفة ويضرب بسهم في نظرية الأدب ونقد ما بعد الكولونيالية ودراسات الجنوسة ونقد أنصار النزعة النسوية ودراسة العلامات (السميوطيقا)، فضلا عن التحليل النفسي من فرويد إلى لاكان والنظرية الاجتماعية الماركسية.
يتناول كتاب «المبارزة في الأدب» موضوعا طريفا يلقي الضوء على جانب لم يتلق حظه بعد من الدراسة رغم ما يلقيه من ضوء على تغير القيم الاجتماعية وانعكاساتها في الأدب والمسرح والفن التشكيلي عبر القرون.
إن كثيرا من الأعمال الأدبية تشتمل على مبارزات، ومن أمثلتها رواية الكاتبة الإنجليزية جين أوستن «العقل والحساسية» (1811)، حيث كانت المبارزة تعد بين السادة المهذبين وسيلة لرد الشرف واستعادة الكرامة. ودراسة جون لي تغطي الفترة من مطلع القرن السابع عشر إلى مطلع القرن العشرين في مختلف أنحاء أوروبا.
يقول لي وقد فوجئ بكثرة المبارزات في أدب هذه الفترة: «في البدء دهشت ثم ابتهجت وأخيرا كدت أصاب بالذعر من كثرة هذه المبارزات القصصية». إنها موجودة بوفرة في الأدب الإنجليزي والفرنسي والألماني.. وكما يلاحظ «لا تكاد توجد رواية بلا مبارزة في روسيا القرن التاسع عشر». ومن الطرائف التي يرويها أن الناقد الفرنسي سانت بوف مضى إلى مبارزة كان يمكن أن يفقد فيها حياته حاملا مظلة مخافة أن يصاب ببرد في الطريق!
كانت المبارزات من الناحية القانونية ممنوعة، ومن ثم كان المشاركون فيها يعدون متمردين - جديرين بالإعجاب - على قانون البلاد. وكانت عقوبتها في بعض البلدان تصل إلى الإعدام. وفي القرن السابع عشر عبر ملوك فرنسا وأخلاقيوها عن قلقهم من انتشار المبارزات (أتراها كانت تفريجا ضروريا عن طاقة العنف الكامنة في الإنسان؟). وفي القرن الثامن عشر حمل كاتب المقالات الإنجليزي ريتشارد ستيل على المبارزات، بل إنه ألف مسرحية قدمت على خشبة المسرح في 1722 تصور آثارها المأساوية، كما يقول جون ملان (John Mullan) أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الجامعة بلندن.
ومن رأي لي أن أقوى إدانة للمبارزات هي تلك التي ترد في رواية الروائي الإنجليزي صامويل ريتشاردسون «كلاريسا» (1748)، حيث تبدأ الرواية بمبارزة وتنتهي بمبارزة.
ومن روايات القرن الثامن عشر الأخرى التي تناولت هذا الموضوع رواية جان جاك روسو «جولي أو هيلواز الجديدة» (1761)، وفيها تفلح البطلة في أن تثني حبيبها سان برو عن الدخول في مبارزة. أما في رواية الكاتب الفرنسي كودرلودي لاكلو «العلاقات الخطرة» (1782) فإنه لا مفر للفيكونت دي فالمون من أن يدخل في مبارزة تكون فيها نهايته.
أنتج القرن الثامن عشر أيضا نوعا من المبارزات الهزلية أو الكوميدية، من أمثلتها مسرحية الكاتب الآيرلندي شريدان «الغرماء» (1775)، وهي أول مسرحية تقدم مبارزة بالمسدسات على خشبة المسرح. ويذكر لي أن شريدان ذاته خاض مبارزتين لكنه لا يذكر أسباب ذلك.
وفي القرن التاسع عشر نلتقي بـ«أمير شعراء المبارزات» وهو بوشكين صاحب الرواية المنظومة «يوجين أونيجين» (1825) ومحورها مبارزة بين بطل الرواية أونيجين وشاعر شاب مثالي يدعى لينسكي أونيجين بعد أن رآه يغازل خطيبته في حفلة راقصة. وقد قتل بوشكين ذاته - كما هو معروف - في مبارزة خاضها عام 1837 مع جورج دانتيه الذي شك بوشكين في أنه على علاقة غرامية بزوجته.
كان بوشكين مبارزا خبيرا، وقد ترجم روايته المذكورة أعلاه الأديب الفرنسي بروسبر مريميه إلى اللغة الفرنسية. ومريميه نفسه قد خرج سالما من مبارزة خاضها قبل أن يكتب رواية رومانسية عن المبارزة عنوانها «الإصيص الإتروسكي» (1830). ولا تخلو الرواية من سخرية من بطلها سان كلير الذي سعى إلى حتفه بظلفه لأنه صدق في حماقة حكاية كاذبة عن ماضي محبوبته.
ومن الأدباء الروس الذين لقوا مصرعهم فعلا في مبارزة بالمسدسات وذلك في عام 1841 الشاعر والروائي ميخائيل لرمنتوف صاحب رواية «بطل من زماننا» (1840).
وتتخذ المبارزة شكلا كوميديا في رواية الأديب الإنجليزي تشارلز ديكينز «أوراق بيكويك» (1836 - 1837). تكاد تختفي بعد ذلك من الأدب الإنجليزي لكنها تظل موجودة في الأدب الفرنسي والروسي. نحن نجدها في مسرحيات فيكتور هوغو ورواية ألكسندر دوما الأب «الفرسان الثلاثة» (1844) حيث ينخرط فيها آتوس وبورتوس وآراميس والغسقوني دارتنيان. وما زال هؤلاء الأربعة يتبارزون في الأفلام على شاشات التلفزيون حتى اليوم.
وفي مطلع القرن العشرين أخرج الأديب بولندي المولد إنجليزي اللغة جوزيف كونراد قصة عنوانها «المبارزة» (1908) كانت خاتمة ثلاثة قرون من المبارزات في الأدب والدراما. وتدور القصة في زمن الحروب النابليونية وهي مستوحاة من صدام حقيقي بين ضابطين فرنسيين.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».