مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي

ظهوره الإعلامي المكثف وأسلوبه الفظ سلّطا الضوء على صِداميته

مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي
TT

مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي

مات غايتز... النائب الجمهوري اليميني المتشدّد الذي تخصّص في تعطيل الكونغرس الأميركي

دخل النائب الجمهوري ماثيو غايتز، أخيراً، التاريخ السياسي الأميركي بعدما صار أول عضو في الكونغرس يطيح رئيس مجلس النواب. في الواقع، ما كان من المتصوّر أن يتمكن شخص واحد من إنجاز هذه المهمة، إلا أن إقالة كيفن مكارثي هزّت، ليس فقط صورة الحزب الجمهوري، بل ودور المؤسسة التشريعية الأهم في أميركا أيضاً. واليوم يرى عدد كبير من المراقبين والباحثين في شؤون السياسة الداخلية الأميركية، أن ما حصل لم يكن ليحصل، لو لم يسمح تدهور المقاييس السياسية، وطغيان المصالح الشخصية، وتصاعد الخطاب الشعبوي على ضفتي الانقسام السياسي الأميركي، بظهور شخصيات من النوع الذي يمثله غايتز. والحال، أن إقالة مكارثي لم تدمر فقط طموحه السياسي فحسب، بل أربكت كذلك واشنطن، وأغرقت مجلس النواب مجدداً في الفوضى. وها هم الجمهوريون يواجهون صعوبة في التوافق على مَن يريدون أن يتولى رئاسته.

بعد إقالة كيفن مكارثي، رئيس مجلس النواب الأميركي السابق من منصبه، اتهم الأخير النائب مات (ماثيو) غايتز بأنه عارضه لغايات شخصية انتقامية، أبرزها امتناعه عن إغلاق قضية قيد التحقيق من قِبل لجنة الأخلاقيات بمجلس النواب، في مزاعم سوء السلوك الجنسي، وتعاطي المخدرات غير المشروعة، وإساءة استخدام أموال حملته الانتخابية. وهذا التحقيق كان فُتح بحق غايتز، عندما كان مجلس النواب تحت سيطرة الديمقراطيين، ولكن أعيد فتحه هذه السنة في ظل رئاسة مكارثي.

يقول البعض: إن إعادة فتح هذا التحقيق بموافقة من رئيس المجلس نفسه، قد تكون من بين أدوات الضغط التي ربما حاول مكارثي تحصين نفسه بها في مواجهة غايتز، الذي قاد 15 جلسة تصويت في يناير (كانون الثاني) الماضي، للموافقة على تسلمه منصب رئاسة المجلس، وهذا بعدما قدم له تنازلات لم يكن غايتز نفسه يتصورها، على حد قوله. ولعل التنازل الأكبر الذي قدّمه مكارثي لغايتز، وخشي من استخدامه ضده - كما حدث بالفعل - هو منح عضو واحد فقط الحق في طرح اقتراح عزل رئيس المجلس؛ وهو ما ضرب القاعدة التي كانت تمنح مجلس النواب الاستقرار على مدى أجيال وعقود سابقة.

غايتز نفى هذه الاتهامات، وأصرّ على أن أهدافه آيديولوجية بحتة. وشرح، من ثم، أن هدفه الأساسي المعلن هو تحقيق التوازن في موازنة البلاد وخفض العجز، الذي يبلغ حالياً نحو 33.5 تريليون دولار. وأردف: «أنا هنا للقتال من أجل ناخبي... أنا هنا للتأكد من أن أميركا ليست على طريق الخراب المالي». لكن مكارثي نفى صحة هذا الكلام بشدة قائلاً: «لا... لم يكن الأمر يتعلق بالإنفاق. كان كله يتعلق بجذب الانتباه».

عصيان ناجح

بالنسبة لغايتز، حقق «عصيانه» نجاحاً باهراً؛ إذ أزاح خصمه السياسي من السلطة وحوّل نفسه، وهو العضو الصغير نسبياً في الكونغرس، إلى «ثائر» يمكن الاعتماد عليه في مواجهة المؤسسة السياسية التقليدية في واشنطن. بيد أنه في المقابل، تحوّل إلى نائب شبه معزول ومنبوذ، حتى بين زملائه الجمهوريين الذين طردوه من صفوفهم في المجلس خلال جلسة إقالة مكارثي.

من هو غايتز؟

بدأ ماثيو لويس غايتز (من مواليد 7 مايو/أيار 1982)، حياته السياسية في ولاية فلوريدا، متتبعاً خطى والده الثريّ، دون غايتز، عضو مجلس شيوخ الولاية السابق لعقود من الزمن. وبفضل نشاطه داخل الحزب الجمهوري صار يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه من أشد المؤيدين لسياسات اليمين المتشدد في كل القضايا الداخلية والخارجية، بما فيها معارضته مواصلة تمويل أوكرانيا في حربها ضد روسيا، وتأييده القوي للرئيس السابق دونالد ترمب.

نشأ غايتز في مدينة فورت والتون بيتش الصغيرة، بشمال غرب فلوريدا. وحصل على درجة البكالوريوس في الآداب من جامعة ولاية فلوريدا في العاصمة تالاهاسي، ثم درس وتخرج في معهد الحقوق بكلية ويليام وماري العريقة في ولاية فيرجينيا (وهي ثاني أقدم جامعات أميركا بعد هارفارد)، ومن ثم، عمل لفترة وجيزة في مكتب محاماة خاص، قبل ترشحه لأحد مقاعد مجلس نواب ولاية فلوريدا.

خلال السنوات الست التي أمضاها غايتز - الملقب في حينه بـ«بيبي غايتز» - عضواً في مجلس نواب فلوريدا، بين 2010 و2016، بنى غايتز سمعته، مثل والده، كمشرّع جاد. وحقاً، أبرم صفقات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وصوّت إلى جانب الديمقراطيين لإزالة الحظر المفروض على تبنّي زواج المثليين، وأقنع والده بفعل الشيء نفسه. إلا أنه في المقابل، دعم سلسلة من التشريعات اليمينية اللافتة، بما فيها مشروع قانون من شأنه التعجيل بإعدام السجناء المحكوم عليهم بالإعدام في فلوريدا.

الطريق إلى واشنطن

في عام 2016، حوّل السياسي الشاب أنظاره إلى واشنطن، ونجح في الترشح لمقعد في مجلس النواب الأميركي، وفاز به عن منطقة الكونغرس الأولى في فلوريدا، معقل الجمهوريين. ولقد أُعيد انتخابه في أعوام 2018 و2020 و2022.

كانت أيامه الأولى في مجلس النواب الأميركي بطيئة وقليلة الفاعلية. وقال غايتز لصحيفة «نيويورك تايمز» في مقابلة عام 2019 عن الأشهر الأولى له في الكونغرس الأميركي: «سأنهي أيامي المنهكة... إذا لم تتمكن من التأثير على نتيجة ما في هذه المدينة، فأنت شخص إضافي في الفيلم، وأنا لا أريد أن أفعل ذلك».

لذا؛ وجد غايتز، الذي يتمتع بالذكاء الإعلامي والقدرة على جذب الانتباه، بحسب عارفيه، جمهوراً أوسع ضمن «العلامة السياسية» للرئيس (آنذاك) دونالد ترمب، نجحت شعبويته المنمقة بجعله محبوباً عند ترمب ودائرته. وسرعان ما أتبع ذلك بسياسة ظهور واسعة على قنوات الكابلات والعناوين الإعلامية الرئيسة، التي سلطت الضوء على تحركات غايتز - الواثقة والمثيرة للجدل - بشكل متزايد في واشنطن.

في عام 2018، أحضر معه أحد اليمينيين المُنكرين المحرقة اليهودية (الهولوكوست) ضيفاً لحضور خطاب حالة الاتحاد السنوي الذي يلقيه الرئيس الأميركي. ثم حضر حدثاً في عام 2020 حين قال: إن المجموعة اليمينية المتطرفة «براود بويز» (الأولاد الفخورون) التي يتعرّض أفرادها لمحاكمات قضائية، يوفّرون الأمن.

وبعد ذلك، حاول غايتز طرد اثنين من الآباء الذين فقدوا أولادهم في حادث إطلاق نار جماعي وقع عام 2018 - في مدرسة مارغوري ستونمان دوغلاس الثانوية في فلوريدا - من جلسة استماع في مجلس النواب، وذلك بعد مهاجمتهما مشروع قرار قدمه غايتز، يتيح لسكان فلوريدا الحائزين تصاريح أسلحة مخفية بحملها علانية في الأماكن العامة.

شبّه اليسار بالإرهاب

ويوم 1 يونيو (حزيران) 2020، إبان الاحتجاجات التي اجتاحت أميركا إثر مقتل المواطن الأسود جورج فلويد، حاول اليمينيون - ومنهم غايتز - تحميل منظمة «أنتيفا»، وهي مجموعة يسارية متشددة، مسؤولية أعمال العنف التي اندلعت. وغرّد غايتز قائلاً «الآن بعدما أصبحنا نرى (أنتيفا) بوضوح كإرهابيين، هل يمكننا ملاحقتهم كما نفعل مع أولئك في الشرق الأوسط؟»، إلا أن «تويتر» (إكس اليوم) حذفت التغريدة، عادّةً إياها «انتهاكاً لقواعده المتعلقة بتمجيد العنف». مع هذا، عدّ غايتز ذلك «وسام شرف»، متهماً المنصة بدعم «أنتيفا»، وطالب مرة أخرى «الحكومة بمطاردتها».

هذا النهج الفظ أكسبه مجموعة متزايدة من النقّاد، الذين يصفونه بأنه «وقح يبحث دائماً عن الأضواء». وعلّق وايت أيريس، الخبير الاستراتيجي الجمهوري، عليه بالقول: «مات غايتز لا يهتم البتّة بإحداث فارق كمشرّع... إنه لن يترك أي أثر على الإطلاق في التاريخ التشريعي للولايات المتحدة، لكنني أعتقد أنه يستمتع بفتح المعارك والحصول على الشهرة».

مع هذا، بدا أن ابتعاد غايتز عن «المؤسسة السياسية» أدى إلى تزايد شعبيته في ولايته فلوريدا، المتجهة سياسياً إلى اليمين باطراد؛ إذ فاز بإعادة انتخابه العام الماضي بفارق 35 نقطة. وفي تصريح لكريستيان زيغلر، رئيس الحزب الجمهوري في فلوريدا، رأى «أن الشعب الأميركي يشعر الآن بالإحباط بسبب الفشل في التوصل إلى نتائج من الكونغرس... وبالتالي، صار مات أحد متنفساتهم للتعبير عن هذا الإحباط»!

أبرز النواب المكروهين

في أي حال، ظل الجدل يلاحق غايتز، لا سيما بعدما فُتح تحقيق لوزارة العدل ضده في ربيع عام 2021، بزعم إقامته علاقة جنسية مع فتاة قاصر عمرها 17 سنة، كان قد دفع ثمن عبورها حدود الولاية، وهو ما قد يصل إلى تهمة الاتجار بالجنس.

غايتز، من جهته، نفى أي ذنب، وأعلن في فبراير (شباط) من هذا العام، أن وزارة العدل أغلقت القضية من دون توجيه أي اتهامات إليه، غير أنها القضية ذاتها التي أُعيد فتحها أعلاه، من قِبل لجنة الأخلاقيات بمجلس النواب.

وبسرعة ساعدت الفضيحة في تأكيد سمعة غايتز كأحد أعضاء الكونغرس الأكثر مكروهية على نطاق واسع وبشكل علني. وفي تعليق قاسٍ قال غاريت غريفز، النائب الجمهوري عن ولاية لويزيانا، خلال الأسبوع الماضي لموقع «سيمافور» إنه يعتقد «أن مات سيكون ديكتاتوراً عظيماً في دولة أرخبيلية صغيرة في المحيط الهادي أو شيء من هذا القبيل... وربما تكون هذه هي الخطوة التالية الأفضل بالنسبة له». لكن كثيرين ممن يعرفونه، بمن فيهم كريستيان زيغلر، أشادوا به لـ«غرائزه السياسية الذكية واتصالاته المتخصصة». وقال رئيس الحزب في فلوريدا: «ثمة عدد قليل من الأشخاص الذين أتهيّب مناقشتهم، ومات غايتز واحد منهم... إنه أحد أكثر الأعضاء مهارة». بينما قال سياسي آخر: «آخر ما يهتم به مات هو الطبقة السياسية».

والحقيقة، أنه على الرغم من الجدل المحتدم حول شعبيته في مجلس النواب، جرى تسليم غايتز سلطة كبيرة بعد انتخابات التجديد النصفي لعام 2022، التي أفضت إلى حصول الحزب الجمهوري على غالبية ضئيلة جداً في مجلس النواب، وإخفاقه بتحقيق انتصارات كاسحة في عموم البلاد.

في ضوء هذا الوضع، صار الحزب الجمهوري في حاجة إلى صوت كل عضو تقريباً في كتلة غايتز اليمينية المتشددة، «تجمع الحرية»؛ من أجل تمرير التشريعات من الحاجة إلى دعم الديمقراطيين. وبالفعل، استخدم غايتز هذه السلطة على الفور، حين قاد ما عدّ «حملة إذلال» لمكارثي، قبل الموافقة على أن يصبح رئيساً للمجلس.

هدفه حاكمية فلوريدا

من ناحية أخرى، على الرغم من ادعاءات غايتز بأن دوافعه آيديولوجية في مواجهة «انحطاط المؤسسة التقليدية»، فإن منتقديه يعتقدون أن أسبابه مختلفة. إذ قال الخبير الاستراتيجي الجمهوري، رون بونجين: «أعتقد أن لديه طموحاً خالصاً. إن هدفه النهائي منصب حاكم ولاية فلوريدا»، مردداً التكهنات المتزايدة بأنه سيرشح نفسه لمنصب الحاكم في عام 2026. وهنا نشير إلى أن الحاكم الحالي رون ديسانتيس، المرشح الرئاسي الجمهوري الذي يحتل المرتبة الثانية في تفضيلات الترشيح بعد دونالد ترمب، ما عاد يحق له الترشح لمنصب الحاكم، وفق القانون. وبالتالي، يضيف بونجين: «يدرك غايتز أنه يستطيع إيقاف كل شيء وتسليط الضوء عليه من أجل الاهتمام الوطني وجمع الأموال من أجل تعزيز جهوده السياسية للوصول إلى منصب أعلى... إنه التفسير العقلاني الوحيد».

مع ذلك، ينفي غايتز خططه للترشح لمنصب الحاكم. لكن قيادته الحملة لإقالة مكارثي بدت مربحة له، لكونها أدت إلى إطلاق جولة جديدة له لجمع التبرعات. أما عن ادعاءات غايتز الآيديولوجية فجاءت في بيان قال فيه: إن دوافع مشاجراته السياسية الرفيعة المستوى كانت دائماً الدفاع عن «الإنسان العادي». وتابع: «أنا لا أخشى الوقوف بوجه جماعات الضغط والمصالح الخاصة، ولن يساورني الخوف أبداً»، ثم استطرد: «إذا كان هذا يعني أنني سأواجه معارك صعبة، وصيحات استهجان، فليكن... هذا يعني أنني أؤدي عملي كما يجب».

أخيراً، مهما كان طموح مات غايتز النهائي، فإن المعركة المستمرة داخل الحزب الجمهوري لاختيار بديل لمكارثي، وتحقيق الاستقرار بعد أسابيع من الفوضى، وهنا من غير المرجّح أن يرضى غايتز دور اللاعب الصغير.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».