تابعنا على مدار الأسبوعين الماضيين كيف نشأت وتطورت الحركة الوطنية في مصر بقيادة الجيش ممثلاً في الزعيم أحمد عرابي ورفاقه المصلحين إلى أن تجسدت بوجود برلمان منتخب بشكل حر مباشر تخضع له الوزارة. كذلك تابعنا كيف ظهر أول دستور ليبرالي حر في مصر عام 1882 يفصل بين السلطات ويضمن الكثير من الحريات. وبالفعل، بدأت مصر تخطو خطواتها الأولى نحو إقامة نظام سياسي متوازن خاصة بعدما انطلقت عملية الإصلاح القضائي وانتشر الإصلاح لينال الجيش ودور المصريين العاملين فيه، وذلك إلى أن بدأت المؤامرات البريطانية والفرنسية تحاك ضد هذه الحركة وعملية الإصلاح ذاتها، خاصة بعد توتر العلاقة بين الإصلاحيين والخديوي المصري الذي كان يحكم البلاد نيابة عن الدولة العثمانية من الناحية النظرية البحتة. كذلك تابعنا كيف انتهى الأمر باحتلال البريطانيين البلاد في سبتمبر (أيلول) 1882، وهو الاحتلال الذي دام حتى عام 1956.
حقيقة الأمر أن الثورة العرابية رغم امتدادها الزمني القصير في تاريخ مصر الحديث الذي يتخطى العام فإنها تحمل في طياتها الكثير من الحقائق والاستخلاصات والدروس. ولعلني أسوق هنا عددًا من النقاط التي أري فيها عبرًا نافعة لكل عصر وزمان وهي على النحو التالي:
أولاً: إن هذه الثورة تتنافى بوضوح مع الكثير من النظريات السياسية التي تدفعها بعض الدول في الحقبتين الأخيرتين والتي تنادي بضرورة فصل الجيش عن أي تطور سياسي في أي دولة، وهي ترى في التدخل السياسي للجيش كارثة على مستقبل الأمم. إن هذه الرؤية قد تكون مناسبة لبعض الدول لكنها غير مناسبة في دول أخرى ومن ثم هناك خطورة في تعميمها على إطلاقها. ذلك أن القوة الوحيدة التي كانت قادرة على تغيير الأوضاع في مصر إبان الثورة العرابية كان الجيش المصري، ولم يكن هناك أحزاب أو مجموعات فكرية/ سياسية قادرة على حمل لواء الحركة الوطنية بسبب التركيبة الأوتوقراطية للحكم المنفرد للخديوي والظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة في مصر. هنا كان تدخل الجيش أمرًا هامًا بل ومحمودًا. وعليه، يجب التسليم بأن نموذج الثورة العرابية يمثل في حقيقة الأمر ظاهرة هي الأولى من نوعها على الأقل في تاريخ الشرق الأوسط، وهي أن الجيش هو الذي أتى بالتغيير الليبرالي للبلاد، وهو الذي أتى بأول دستور يفصل بين السلطات وببرلمان منتخب انتخابًا حرًا وبحكومة تخضع لهذا البرلمان. والملاحظة الثانية هي أن الجيش تنازل عن الحكم طواعية وتفرقت قياداته من القاهرة إلى الأقاليم، بمن فيهم أحمد عرابي ذاته حتى لا يبدو الأمر كأنه «حكومة عسكرية»، وذلك على الرغم من التوتر الظاهر بين الحكومة الجديدة برئاسة شريف باشا من ناحية وأحمد عرابي والإصلاحيين العسكريين من ناحية أخرى. وهذه الظاهرة في تقديري تحتاج إلى الكثير من التأمل، ولا سيما، في العصر الحديث الذي تتجه فيه الأنظار إلى أن الدور السياسي والليبرالية يتناقضان في الدولة التي تأمل في الوصول إلى الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد.
ثانيًا: إن الثورة العرابية تمثل تناقضًا صريحًا واضحًا مع الدفع السياسي الحديث بأن «الديمقراطيات لا تحارب بعضها البعض» وهي النظرية التي تناولناها بالكثير من النقد في هذا الباب منذ ما يقرب من عامين. ما حدث هو أن مصر كانت تسير على ضرب الديمقراطية، حتى وإن كانت ديمقراطية وليدة ومحدودة التوجه والتفعيل. وهنا أعلنت بريطانيا «الديمقراطية» الحرب عليها تحت حجة الحفاظ على الأمن فيها، وهو ما يعكس بوضوح أن معايير السياسة الدولية لا تخضع للمجاملات الفكرية التي تسعى النظرية السياسية إلى تبنيها. هنا نحن أمام نموذج لدولة ديمقراطية حاربت دولة ديمقراطية ناشئة لأهداف وأطماع خاصة بها، وهو أمر يحتاج في تقديري لدراسة موسعة. ولكن الأغرب من ذلك هو الدور التاريخي التالي للاحتلال البريطاني لمصر حيث لعبت قوة الاحتلال «للدولة البريطانية الديمقراطية» دورًا هامًا في مساندة الحكم المطلق للبلاد وتجميعه في أيدي حليفها السياسي الخديوي توفيق، الذي بدوره ارتمى في أحضان البريطانيين للحفاظ على وضعيته وسلطاته. وهو ما يعكس بوضوح أن ناموس السياسة الدولية لا يعبأ كثيرًا بمصلحة الدولة الضعيفة أمام مصالح الدول الكبرى.
ثالثًا: إن محاولة تحميل الزعيم الوطني أحمد عرابي مسؤولية الاحتلال البريطاني لمصر يعتريه الكثير من الظلم لشخصه وللتاريخ المصري. مما لا شك فيه أن الجيش المصري لم يكن باستطاعته صد الاحتلال، وعلينا ألا ننسى أن «معاهدة لندن» التي قادت جهودا سنّتها بريطانيا نفسها في عام 1840، وضعت سقفًا لعدد الجيش بثمانية عشر ألفًا وقلمت أظافر الدولة المصرية الحديثة. ومن ثم، لم تنجح محاولات زيادة الجيش كثيرا إلا في استثناءات تاريخية محددة. كذلك فإن الجيش لم يكن محل اهتمام الحكومة الخديوية، وتقويته لم تكن أولوية إلا في أوقات محددة، ومن ثم لم يكن قادرًا على مواجهة قوات الاحتلال عندما جاءت لاحتلال البلاد. وهنا لا بد من تذكر أن بريطانيا كانت يومذاك تملك أقوى جيش في العالم، وكان لديها أيضًا أقوى أسطول عرفته البشرية حتى ذلك التاريخ. وبالتالي فمن الغبن أن يصار إلى إلقاء اللوم على عرابي ورفاقه، وتحميلهم مسؤولية هزيمة معركة «التل الكبير»، حتى وإن عكست ضعفًا في القيادة العسكرية لعرابي ورفاقه. عرابي والجيش المصري ما كانا ندين حقيقيين في الأساس للجنرال البريطاني وولزلي والقوة التي كانت تحت إمرته. ثم إن الجيش المصري كان ينقصه التسليح والخبرة لمواجهة أقوى جيش في العالم.. فكيف إذن كانت الدولة المصرية في حالة تقشف كبير.
رابعًا: هناك سؤال حائر تتداوله بعض المصادر التاريخية إلى اليوم. هل كانت هناك علاقة سببية بين حركة عرابي ورفاقه والاحتلال البريطاني للبلاد؟ حقيقة الأمر أن كل المؤشرات تشير إلى أن الاحتلال البريطاني لمصر كان آتيًا لا محالة. ذلك أن مصر كانت رقعة استراتيجية حيوية لبريطانيا، خاصة بعد شق قناة السويس، وهي أول من اغتنم الفرصة للحصول على أسهم القناة. كما أن فكرة احتلال مصر كانت موجودة منذ جلاء الحملة الفرنسية عن مصر عام 1801، وهي الفكرة التي تجسدت عمليًا في 1807 من خلال ما هو معروف بـ«حملة ماكنزي فريزر» التي هزمها المصريون. أيضًا كانت بريطانيا هي الدولة التي قادت التوجه الدولي لتقويض الدولة المصرية الفتية في عهد محمد علي وانتهت بالصدام العسكري مع مصر في 1840 من خلال تحالف دولي كانت بريطانيا أساسه. بالتالي فإن هناك من التأكيدات التي تعكس أن الاحتلال كان مسألة وقت لا غير مهما طال أمد انتظار لندن. واستطرادًا، فإن تحميل الثورة العرابية مسؤولية الاحتلال يمثل إجحافًا كبيرًا، وظلمًا للحقيقة. إذ لم يكن من مصلحة بريطانيا أصلاً نجاح الحركة الليبرالية في مصر، وذلك مع كل التحفظات الراجحة لمحدودية القدرات الدبلوماسية لأحمد عرابي ورفاقه وضعفهم في إدارة الدفة السياسية للعلاقات مع الدول الغربية - خاصة بريطانيا - وهو أمر لا خلاف عليه. سلوك عرابي ورفاقه لم يدفع حقًا لاحتلال البلاد كما روّج البعض. ومن ثم فإن إلباسه مسؤولية احتلال البلاد أمر منافٍ للحقيقة لكنه قد يكون مفهومًا.
رابعًا: اتصالاً بما سبق، يبدو من النموذج المصري في 1882 وعدد من النماذج الأخرى أن أفضل ذريعة للتدخل الدولي في شؤون الدولة المستهدفة هي الثورات الداخلية فيها. وتقديري أن هذا يرجع لعدد من الأسباب، على رأسها أن الحالة الثورية تصيب الدولة بنقص المناعة السياسية والعسكرية أمام التدخل الخارجي، خاصة التدخل العسكري. هذا أمر مفهوم، فالثورات يمكن اعتبارها نوعًا من التدخل الجراحي لإصلاح أي نظام سياسي، ومن البديهي أن يكون بعدها النظام ضعيفًا وواهنًا إلى أن يستعيد عافيته، ومن ثم يسهل التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية. الثورة العرابية خير دليل على ذلك، فمصر كانت خلال العام السابق للاحتلال تعاني من ضعف في مؤسسات الدولة، وتنتابها حال من الغموض الداخلي وهي تحتضن تغيرًا نسبيًا في مفهوم شرعية الحكم في البلاد. وهذا فتح المجال أمام التدخلات الأجنبية في الشأن المصري، لا سيما، وأن عملاء الدول الأجنبية كانوا موجودين بكثافة وكثرة وعلى رأسهم القناصل.
خامسًا: أيضًا، اتصالاً بما سبق. من البديهي أن تبحث القوى الخارجية الكبرى الساعية إلى التدخل في شؤون الدول الأقل قوة عن مبرّر يغطي أهدافها وأطماعها، ولا يوجد مبرّر أفضل من المشكلات الداخلية والرغبة في إصلاح الوضع الداخلي بهذه الدولة. حالة مصر في 1882 لم تخرج عن هذا النطاق كثيرًا، فأوضاعها الداخلية كانت مرتبكة بسبب الخلاف بين قوى الإصلاح وقوى الحكم المطلق للخديوي. وعندما نحكم على مثل هذه الحالات فإنه لا يجوز للبصر أن يزيغ عن الهدف ليتمحوَر حول المبرر أو الذريعة، فما من دولة تحتل دولة أخرى أو توجه لها الضربات العسكرية إلا وكان لها أهدافها المسبقة والتي تنتظر الذرائع المناسبة لتنفيذ ذلك. في الوقت الذي تظاهرت فيه بريطانيا برغبتها في حل المسألة المصرية سياسيًا، كما حدث في المؤتمر الدولي الذي انعقد في الآستانة (إسطنبول)، فإنها كانت تجهز لاحتلال البلاد. إن الدخول في صدامات عسكرية يحتاج لتجهيزات وخطط وحشد عسكري لتنفيذها، وكان من الواضح أن بريطانيا كانت عاقدة العزم على الاحتلال وتجهز له.
هذه مجرد نقاط تحليلية مرتبطة بهذه الفترة التاريخية لمصر، التي تعكس في التقدير الكثير من الحقائق السياسية التي أعتقد أنها لا تزال سارية إلى يومنا هذا.
من التاريخ : تأملات سياسية في الثورة العرابية
من التاريخ : تأملات سياسية في الثورة العرابية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة