عودة الرواية الروسية بلكنة أميركية

غزو العالم المعاصر بقوة العولمة في رواية «الفارسي» لألكسندر إليشيفسكي

عودة الرواية الروسية بلكنة أميركية
TT

عودة الرواية الروسية بلكنة أميركية

عودة الرواية الروسية بلكنة أميركية

لطالما تساءلت عما حدث للروايات الروسية الكثيفة التي احتوت على شخصيات درامية كثيرة بما يكفي لملء سيبيريا؟ حسنا، لم تترك عقود الثورة، والإرهاب، والحرب، والأحداث شبه الفوضوية، سوى بعض الوقت للروائيين الروس لإنتاج مثل هذه المجلدات الضخمة. والآن، مع ذلك، قد تعود الرواية الروسية الضخمة والثرية مع رواية «الفارسي» الرائعة للمؤلف ألكسندر إليشيفسكي.
ورغم أن رواية إليشيفسكي جاءت في 610 صفحات، فإنها لا تزال أقصر من رواية «آنا كارنينا» للمؤلف تولستوي بـ500 صفحة، ناهيكم برواية «الحرب والسلام». ومع ذلك، تقوم رواية «الفارسي» على الطموح نفسه: الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من العالم ضمن حدود الخطوط العريضة.
ومن الصعب تحديد ما تدور حوله رواية «الفارسي» تماما، مثل صعوبة وجود توصيف موجز لـ«الحرب والسلام». فإذا كانت «الحرب والسلام» تتحدث عن غزو نابليون لروسيا، فإن رواية إليشيفسكي تدور حول غزو العالم المعاصر بواسطة قوة أكثر بأسا: العولمة. ومثلما أثّر توغل نابليون على حياة الملايين حتى في القرى النائية، فإن العولمة تشكل وتعيد تشكيل حياة البشرية جمعاء تقريبا، وليس دائما للأفضل.
تعد رواية إليشيفسكي في جزء منها سيرة ذاتية؛ فبطلها «إيليا دوبنوف» – شاب من أصول عرقية روسية مولود في مدينة سومجيت النفطية في أذربيجان السوفياتية آنذاك، وهو خريج أكاديمية علمية مرموقة في الاتحاد السوفياتي - انقلبت حياته رأسا على عقب بسقوط الإمبراطورية السوفياتية وانتهاء الشيوعية، وفجأة وجد نفسه بلا جذور، وأصبح مواطنا من العالم في عصر يعيش مئات الملايين فيه كبدو عالميين، يسافرون ويعملون في أي مكان يجدون فرصة للعيش فيه. ومع ذلك، بعد أن حصل على أكثر من فرصة للكسب وارتكب أكثر من أمر محظور، تعاظم لديه شعور الحنين لـ«الهوية» و«الجذور» بشكل لا يحتمل. فهو يريد أن يصبح إنسانا، وليس مجرد شخص ما، وأن ينتمي لمكان محدد، وليس لأي مكان يوجد به؛ في معظم الحالات فنادق فاخرة وكازينوهات جذابة.
وبعد أن اغتنم الفرصة للعمل في شركة نفط متعددة الجنسيات في أذربيجان المستقلة حديثا، يعود إيليا إلى موطنه الأصلي، ويجدد الاتصال بصديق طفولته هاشم.
بيد أن هاشم الذي وجده لم يعد اللاجئ الخجول المذعور الذي فر من وطنه المجاور إيران بعد استيلاء الملالي على السلطة في طهران. امتص هاشم صدمة هروبه من إرهاب الملالي، وربما الأكثر أهمية، حرر نفسه من نزعة الحنين إلى الماضي، ومن شعور المنهزمين في التاريخ.. فقد وُلد من جديد مواطنا في الكون، وراء ولما بعد مستوى الدول القومية وحتى النظام العالمي نفسه. ويتناقض إحساسه بانتمائه لـ«شيء أكبر بكثير من أي شيء يمكن تصوره» بشكل صارخ مع - ما يبدو - طموحه الضيق: وهو إنقاذ آخر ما تبقى من طيور «الحبارى» التي يصطادها بواسطة الصقور من أجل المتعة. إيليا يريد استخدام العلوم والتكنولوجيا لترويض الطبيعة، بينما يبحث هاشم عن الشعر والموسيقى لمواءمة حياة الإنسان مع الطبيعة.
وفي هذه الازدواجية التي تعيد إلى الذاكرة رواية «الجبل السحري» للمؤلف توماس مان، يمثل إيليا الجانب المادي من الوجود، بينما يعبر هاشم عن الجانب الروحي. ويتم عرض الانقسام «الشرقي - الغربي» التقليدي نموذجا للصراع الإبداعي.
يتصادم هذان الصديقان ويتنازعان، ثم يتواطئان في مؤامرة تمنح للوجود معناه، ويجدان - كل منهما في طريقه – صعوبة في التعايش مع ذلك الوجود.
ومع ذلك، وحتى لا نتصور أن رواية إليشيفسكي تتحدث ببساطة عن صداقة غريبة، علينا الإشارة إلى أن رواية «الفارسي» تتطور عبر نسيج أعظم بكثير. وفي الحقيقة، قد يقول شخص ما إن الرواية تناقش كل شيء، أيا كان ما يدور ببالك، مثل: هل تريد أن تعرف كيف جمّع روكفلر ثروته من النفط في باكو؟ هل أنت مهتم بدراسة الصقور بتنوعها المدهش؟ هل أنت مهتم بمعرفة كيف خدع المصرفيون والبنوك الجنس البشري بأكمله؟ وماذا عن قصة لرحلة خيالية إلى أذربيجان بواسطة أسامة بن لادن لاصطياد طائر «الحبارى»؟
تضم رواية «الفارسي» عدة قصص ضمن سردها الرئيسي، تتراوح بين الإرهاب الستاليني، وعمليات التجسس النازية في الشرق الأوسط، ناهيك بذكر علاقة غرامية بين فتاة أذرية في سن المراهقة ومهندس نفط أميركي مسن.
وتمتلئ تلك الرواية كذلك بظلال قاتمة جدا، بما في ذلك الكوارث البيئية، والإرهاب، والانهيار الاقتصادي، والنزوح الجماعي للاجئين عبر القارات، وقدر مزداد من التهكم من قدرة الإنسان حتى على إدراك وضعه المأساوي.
لكن تكمن الثيمة الضمنية في رواية إليشيفسكي في أننا نعيش في عالم تؤثر فيه كل حادثة – حتى لو كان رفيف فراشة في بيرو – على حياة كل شخص في جميع أنحاء العالم.
رغم ذلك.. فإن من الخطأ اعتبار إليشيفسكي تولستوي آخر مزج المعلم الكبير في الرواية الروسية الضخمة والثرية سرده ببعض المقالات والمقالات المصغرة عن الغضب من الملاحظات الفلسفية بشأن الإيمان، والحب، والسلوك الأخلاقي، وحتى تنظيم الحياة الريفية. أخذ بعض المحررين كل هذه المقالات من تولستوي لإنتاج نسخ موجزة عن «الحرب والسلام» أو «آنا كارنينا» دون إزعاج كثير من القراء.
ومع ذلك، لا يعد إليشيفسكي كاتب مقالات، ويتخلل انتقاله من موضوع لآخر شكل من أشكال القصص القصيرة والحكايات المناسبة لحديث تناول العشاء. وبهذا يقترب أسلوبه من شهرزاد في «ألف ليلة وليلة» أكثر من اقترابه من تولستوي. وحتى إذا كنت تميل إلى تخطي الانحرافات عن الموضوع للعودة إلى القصة الرئيسية، فإنك لن تستطيع فعل ذلك، لأن القصة الفرعية هي تقريبا أسرة مثل القصة الرئيسية. والأسوأ من ذلك أنك لو تخطيت الحكاية الفرعية، قد تجد لاحقا أنها كانت جانبا مهما للسرد بشكل عام.
يخلق النثر الشعري لإليشيفسكي مناخا موسيقيا يستخدم الإمكانات الغنائية في اللغة الروسية بأقصى حد.. وهي تبدو جميلة، ومربكة، ومزعجة، وغريبة، وفي النهاية ممتعة، عند قراءتها.



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لواحدة من أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذا العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى أن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفعالية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني وتستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقة تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسنح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

ومن جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين من أن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق كمكان لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».