هي رحلة في أروقة الفن الأصيل، وليست مجرد زيارة لقصر أثري أو نموذج فريد لعمارة العصر المملوكي في مصر؛ إذ يحتضن قصر «الأمير بشتاك» بالقاهرة، نافذة للإبداع تمثل متعة حقيقية لزائريه وهي «بيت الغناء العربي» الذي يقدم أصواتاً تصدح بكنوز الموسيقى العربية وروائعها.
فرغم أنك أثناء إقامتك في مصر تستطيع أن تشبع شغفك بالغناء والطرب في أماكن أخرى لها قيمة ثقافية رفيعة مثل دار الأوبرا ومعهد «الموسيقى العربية» و«مسرح الجمهورية» فإنك هنا في قصر بشتاك ستشعر أن الأمر مختلف، وأن المتعة تتجاوز الحدود المألوفة؛ حيث تجتمع ثنائية الموسيقى والحضارة، ويتضافر الغناء والتاريخ.
العلاقة بين الموسيقى والمزارات الأثرية في مصر ليست جديدة، وربما حين تتجول في قصر بشتاك قبل حضورك لإحدى الحفلات، قد تستدعي الذاكرة رسومات المقابر والمعابد التي تظهر مجموعة متنوعة من الآلات سواء في الوسط الديني أو في الحياة اليومية، وحتماً إذا رافقك في الزيارة أحد المرشدين السياحيين فإنه سيربط بين هذا القصر والتاريخ الموسيقي المصري.
في زيارتي الأخيرة لـ«بيت الغناء العربي» بادرني المرشد السياحي أحمد عبد السميح بقوله: «الموسيقى كانت جزءاً من الحضارة المصرية القديمة، وكثير من الموتى كانوا يدفنون مع بعض الآلات، وهو ما يؤكد أن الموسيقى شكلت جانباً أساسياً من الحياة اليومية، فضلاً عن الطقوس الدينية»، ولذلك يعد عبد السميح هذا المركز الثقافي المتخصص في الغناء «وجهة سياحية للتراث الموسيقي العربي ووسيلة حيوية لإنقاذه من الاندثار».
يتيح القصر الاطلاع على تجربة استغلال البيوت الأثرية التي تزخر بها القاهرة التاريخية بعد ترميمها، وإعادة تأهيلها، لتتحول هذه المنطقة إلى وجهة مميزة للسياحة الثقافية، يساهم في تحقيقها «بيت الغناء العربي» الذي يعمل من خلال حفلاته وورشه الفنية على حفظ الهوية الفنية والارتقاء بحدود التذوق الموسيقي لدى زائريه.
يستمتع الزائرون للبيت بأروع ألوان التأليف الموسيقي الغنائي، عبر برنامج شهري دسم من الحفلات؛ فما بين القصيدة والموال والموشح والدور والطقطوقة والإنشاد الديني، وأغاني الطرب لأشهر الفنانين يتزودون بنفحات فنية تأخذهم تثري الوجدان.
يقدم بيت الغناء عازفين وأصواتاً جديدة تتمتع بقدر عالٍ من الموهبة والاحتراف، يصدحون بروائع الموسيقى العربية، ففي حفلاته يمكنك أن تستعيد روائع أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وعبد الحليم حافظ ونجاة وفايزة أحمد ووردة ومحمد فوزي، ووديع الصافي وفيروز، وغيرهم وتستعيد إحساسك بكلمات وألحان سيد درويش والشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي والقصبجي وبليغ حمدي وسيد مكاوي.
كل ما عليك قبل زيارتك له أن تطلع على برنامج حفلاته على موقع «صندوق التنمية الثقافية» الذي يتبعه القصر، وستكون أكثر سعادة إذا صادف ذلك إقامة حفل خاص يحتفل من خلاله بذكرى أحد رموز الغناء، أو أن تصادف زيارتك موعد إقامة «صالون مقامات»، الذي يتم تنظيمه شهرياً.
وأنصحك أن تسأل داخل «بيت الغناء العربي» عن مكان الورش التي يقيمها للحفاظ على التراث الموسيقي والتي تتيح الدراسة الموسيقية على يد كبار الفنانين للأجيال الشابة؛ فحين تتوجه لها ستلتقي بقوالب غناء وآلات موسيقية شرقية أوشكت على الاندثار، أما إذا كنت من عشاق الفن التشكيلي، فإنك ستسعد بزيارة الغاليري المتخصص في استضافة المعارض الفنية.
ربما سيدهشك من وجود هذا الزخم الفني في إحدى المناطق الشعبية العتيقة وهي «درب قرمز»، ولم يكن ذلك مصادفة؛ حيث أرادت وزارة الثقافة المصرية تقديم الغناء العربي التراثي بصيغ تقربه من الجمهور العادي، بحيث يخرج عن كونه غناء منعزلاً أو حكراً للسميعة والصفوة إلى دائرة أكثر اتساعاً لرفع الذائقة الفنية.
لا تنس قبل مغادرتك المكان التوجه للمكتبة التي تضم كتباً ومراجع نادرة وقيمة في مجال الموسيقى والغناء العربي، وأرى أيضاً أن المرور على منفذ بيع الإصدارات الغنائية والموسيقية بالبيت قد يكون أمراً مهماً بالنسبة لك إذا كنت ترغب في اقتناء بعض الإصدارات المتعلقة بالموسيقى العربية المسموعة والمرئية.
ومن سحر الموسيقى إلى عبق التاريخ يأخذك القصر الذي وصفه المقريزي بأنه «من أعظم مباني القاهرة»، وهو يقع في شارع المعز لدين الله الفاطمي بمنطقة النحاسين بجوار سبيل الأمير عبد الرحمن كتخدا، بناه الأمير سيف الدين بشتاك الناصري على جزء من «أرض القصر الكبير الشرقي» وهو أحد القصور الفاطمية الرائعة، في الفترة ما بين 1334 - 1339م.
يستثير القصر خيالك حين تتجول داخله، فتدور الكثير من التساؤلات وتنسج العديد من الحكايات حوله وحول صاحبه، لا سيما حين يسرد عليك المسؤولون بعض القصص المرتبطة به، ومنها أن ما ذكره المقريزي أن «بشتاك لم يعش في هذا القصر رغم جماله، وأن صدره كان ينقبض عندما ينزل فيه، حتى كرهه وباعه إلى زوجة الأمير بكتمر الساقي».
ستروقك للغاية القاعة الرئيسية للقصر التي يتصل بها سلم صاعد يتقدمها سطح مكشوف وتتكون من 4 إيوانات، دور وقاعة وسطح مغطى بالرخام في أشكال هندسية رائعة، وتزدان بأسقف خشبية يتدلى منها وحدات إضاءة بديعة الشكل، كما ستتوقف طويلاً أمام الإيوان الشرقي الذي يمتاز بمشربياته الخشبية الكثيرة، وترغب في التلصص على حكايات النساء اللاتي كن يجتمعن بغرف الحرملك بالدور الثالث المندثر.
يتراوح سعر تذاكر حفلات «بيت الغناء العربي» ما بين سعر 65 و100 جنيه (الدولار يعادل نحو 31 جنيهاً مصرياً)، ويمكنك الوصول إليه بسهولة من منطقة وسط المدينة حيث يقع بحي الجمالية.