كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

رحل عن عالم لم يعد يحتمل

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين
TT

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

كونديرا لم يكتب رواية مهمة بعد سقوط جدار برلين

في الحادي عشر من يوليو (تموز) 2023، توفي الروائي الكبير ميلان كونديرا عن سن تناهز 94 عاماً. وأخال أنه رحل غير آسف عن هذا العالم الغارق في الأزمات والحروب، وفي فضوى عارمة تهدد الحضارة الغربية، وأسسها ومبادئها وأنوراها التي عكستها جل رواياته، ومقالاته النقدية والفكرية التي تعكس ثقافته الفلسفية العميقة.

خلال السنوات الأخيرة كف ميلان كونديرا بعد أن شَغَلَ أحباء الرواية في جميع أنحاء العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، عن الكلام وعن الكتابة. لذلك لم نعد نسمع عنه شيئاً تقريباً. ولعلّ الشيخوخة فَعَلتْ فعْلها، أو لعله فضّل أن يخلد إلى الصمت مثلما يفعل الحكماء عند اقتراب أجلهم.

وعلى أي حال، يمكن أن نقول إن ميلان كونديرا لم يصدر أي رواية مُهمّة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الكتلة الاشتراكية بزعامة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي. وقد يعود ذلك إلى أنه ركز كل مواضيع جلّ رواياته على فضح وإدانة الحقبة الشيوعية، ورموزها. فلما انتفت تلك الحقبة، لم يعد يملك ما يثير الاهتمام. وحتى الروايات التي كتبها بلغة موليير لم تتخلص من تبعات الحقبة الستالينية. كما أن كبار النقاد الفرنسيين لم يعيروها اهتماماً كبيراً. بل إن الكاتب بيار أسولين كتب يقول بأن هذه الروايات تقدم الدليل على أن كونديرا أصبح «يكتب ويفكر سيّئًا».

لكن علينا أن نقرّ بأن كونديرا أنجز خلال العقود الثلاثة الأخيرة دراسات رائعة عن فن الرواية أصدرها في ثلاث كتب هي: «فن الرواية»، و«الوصايا المغدورة»، و«الستار». وهذه الكتب النظرية التي خصصها كونديرا لإبراز خفايا فن الرواية الأوروبية منذ الفرنسي رابليه والأسباني سارفانتس وحتى بروست وجميس جويس وموزيل وغومبروفيتش وفرانز كافكا، وهرمان بروخ، لم تؤكد فقط معرفته العميقة بأعمال هؤلاء، بل أظهرت اطلاعه الواسع على الموسيقى، وعلى الفلسفة، وعلى التاريخ الأوروبي في مراحله المختلفة. وفي هذه الكتب النظرية، حدد ميلان كونديرا مفهومه للرواية قائلاً: «الرواية تعلمنا أن نفهم حقائق الآخرين، والطبيعة المحدودة لحقيقتنا. وهي تعلمنا أن نفهم العالم كما لو أنه سؤال مُتعدد الأوجه. لهذا السبب كانت الرواية ولا تزال، معادية للآيديولوجيا، إذ إن الآيديولوجيا تقدم إلينا العالم من خلال وجهة نظر حقيقة واحدة. وهي تمثله لنا كما لو أنه تجسيد لهذه الحقيقة».

ويواصل كونديرا حديثه عن الرواية قائلاً: «إذا ما رفضت الرواية التقيّد بالآيديولوجيا السياسية في عصرنا، والمساهمة في التبسيطات الآيديولوجية التي باتت مبتذلة وثقيلة، فإن هذا لا يعني موقفاً حيادياً من جانبها، وإنما هو تحد إذ إن الرواية تُسْقط نظام القيم المتعارف عليه، والأسس الجاهزة، وتقوّضُ الأفكار السائدة».

وعلينا أن نشير إلى أن نجم ميلان كونديرا في مجال الرواية بدأ يسطع على المستوى العالمي بعد أن أصدر ثلاث روايات يدين فيها حياة أبناء وطنه في ظل الاستبداد والطغيان الشيوعي. وهذه الروايات هي «المزحة»، و«غراميات مضحكة»، و«الحياة في مكان آخر» التي أحرزت على جائزة «ميديسيس» الفرنسية المرموقة وذلك عام 1973. وعن هذه الرواية كتب يقول: «لقد اخترت العنوان من بيت لرامبو. (والحياة في مكان آخر) كان طلبة ثورة ربيع 68 قد كتبوها على حيطان باريس كواحد من الشعارات التي رفعوها في تلك الفترة. و(الحياة في مكان آخر) هي وهم من الأوهام الأبدية للشبيبة، ولأولئك الذين لم يتمكنوا من تجاوز الحدود الفاصلة بين سن الشباب وسن الكهولة. وهي تعبير عن الرغبة الجامحة في الدخول إلى مملكة الحياة الحقيقية. ومثل هذه الرغبة تتطلب أفعالاً من قبل الشبان الثوريين، ومن قبل الشعراء الشبان». ويواصل كونديرا حديثه عن روايته المذكورة قائلاً: «قبل أن أكتب هذه الرواية، قرأت الكثير من سير الشعراء. وجميعها كانت تكشف بشكل جلي عن غياب الأب القوي. لذا يمكن القول إن الشاعر يخرج من بيوت النساء. وهناك أمهات يُفرطن في حماية شاعرهن الشاب مثل والدة ألكسندر بلوك، أو ريلكه، أو أوسكار وايلد، أو والدة الشاعر التشيكي الثوري فولكر الذي كانت سيرته عوناً مهماً لي أثناء كتابة روايتي. وهناك أمهات باردات لكنهن ليس أقل حرصاً على حماية أبنائهن الشعراء من الأمهات اللاتي ذكرت. عندئذ ابتكرت هذا التعريف للشاعر: إنه شاب تقوده أمه. وهو يعرض نفسه على العالم الذي لا يعرف كيف يدخله».

وفي منفاه الفرنسي أصدر ميلان كونديرا روايتين حققتا له شهرة عالمية واسعة وهما: «كتاب الضحك والنسيان»، و«الكائن الذي لا تحتمل خفته». وتقوم أغلب الروايات المذكورة على كلمات أساسية مثل الجهل، والنسيان، والضحك، والخلود، والدوار... كما تقوم على الجمع بين الأحداث والأفكار والتأملات الميتافيزيقية والفلسفية العميقة. ويعني ذلك أن كونديرا تمرد على الأشكال المتعارف عليها، والسائدة في الرواية الأوروبية ليبتكر شكلاً جديداً مستوحى من روائيين سبقوه أمثال ديدرو، وفلوبير، وكافكا، وموزيل، وهرمان بروخ، وغومبروفيتش.

وفي الروايات التي كتبها في منفاه الفرنسي، يحضر المنفى بكل تجلياته ومعانيه الفلسفية العميقة. ففي «كائن لا تحتمل خفته»، هو يكتب: «الذي يعيش خارج بلده، يمشي في فضاء فارغ فوق الأرض تحت شبكة الحماية التي تمدها إلى كل كائن بشري، البلاد التي هي بلاده، حيث عائلته، وزملاؤه، وأصدقاؤه، وحيث يمكن أن يُفْهَمَ من دون أيّ مشقة في لغاته التي يعرفها منذ طفولته». وعندما يصل إلى البلد المُضيف، يشعر المهاجر بحنين جارف إلى وطنه لأنه خرج من حضن اللغة الأم ليجد نفسه في عالم غريب شبيه بالفراغ، بل بالعدم. وهذا الحنين حسب كونديرا «لا يوقظ ذكريات، بل هو يكتفي بنفسه، وبالمشاعر والأحاسيس التي يثيرها، غارقاً في آلامه وأوجاعه». وفي روايات المنفى، تجسد الشخصيات التي ابتكرها كونديرا خصوصيّات أولئك الذين فروا من الأنظمة الشمولية، وليس أوضاع المهاجرين الذين أجبرتهم ظروف اقتصادية أو تاريخية على ترك بلدانهم للعيش في بلدان آمن وغنية.

وفي خريف عام 2008، نشرت جريدة تشيكية واسعة الانتشار، مقالاً أشارت فيه إلا أنه تم العثور على وثيقة في أرشيف البوليس السياسي في الفترة الشيوعية تثبت أن ميلان كان مُخبراً سرياً. ففي عام 1950، وشى بصديق له كان قد فر من الجيش التشيكوسلوفاكي ليهاجر إلى الغرب. وقد حكم على ذلك الجندي بـ22 سنة سجناً أمضى منها 14 في ظروف شاقة للغاية. غير أن ميلان كونديرا نفى التهمة المذكورة نفياً قاطعاً متلقياً مساندة مطلقة من العديد من الشخصيات السياسية والأدبية من أمثال الرئيس التشيكي فاتيسلاف هافيل، وغابريال غارسيا ماركيز، وكارلوس فيونتاس، وخوان غويتوسولو، وأورهان باموق، وكوتزي، ونادين غوردماير، وسلمان رشدي وآخرين.

ويمكن القول إن كونديرا المتأثر بديدرو إلى درجة أنه يعد هذا الأخير معلماً له، لم يكتف برواية قصص حب رائعة، أو برسم صورة مرعبة عن الأنظمة الشيوعية الشمولية، بل هو تعدى كل ذلك ليساهم بشكل كبير في إحداث «ثورة» في مجال الكتابة الروائية. ورواياته ليست فقط قصصاً، وإنما هي أيضاً تحليل نقدي عميق للتاريخ والمجتمعات، وللنفس البشرية. لذلك وصفت بـ«الروايات الفكرية» تماماً مثلما هو الحال بالنسبة لروايات توماس مان، وهرمان بروخ، وروبرت موزيل. ويقول الكاتب الأمريكي ربشارد باور إنه بعد أن قرأ «كتاب الضحك والنسيان، و«كائن لا تحتمل خفته»، اتخذت الرواية لديه «وجهاً جديداً ومنعرجاً غير مسبوق». ويعود ذلك بحسب رأيه إلى أن كونديرا يحرص في كل أعماله على أن تكون القصص التي يرويها مشفوعة بتأملات فكرية وفلسفية عميقة. وأما الكاتب جوليان ريوس فيرى أن كونديرا يتحاور من خلال رواياته ودراساته النقدية مع سابقيه من الكلاسيكيين والمحدثين على حد السواء. وهو يخرجهم من أماكنهم المعتادة، ومن مخابئهم الأكاديمية لتحديد رؤيتنا للرواية الغربية. لذلك كان كونديرا على حق في استعمال عبارة «الرواية التي تفكر».

في الروايات التي كتبها في منفاه الفرنسي، يحضر المنفى بكل تجلياته ومعانيه الفلسفية العميقة


مقالات ذات صلة

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
ثقافة وفنون شاهد قبر من البحرين، يقابله شاهدان من تدمر

الفتى حامل الطير وعنقود العنب

يحتفظ متحف البحرين الوطني في المنامة بمجموعة كبيرة من شواهد القبور الأثرية المزينة بنقوش تصويرية آدمية، منها شاهد مميّز يمثّل فتى يحمل عصفوراً وعنقوداً من العنب

محمود الزيباوي
ثقافة وفنون غلاف الكتاب

الرواية الفلسطينية... ممارسات الاحتلال وآليات المقاومة

«أسئلة الرواية الفلسطينية» هو الكتاب الحادي عشر في النقد الروائي للشاعر والناقد سلمان زين الدين، وقد صدر مؤخّراً عن «مركز ليفانت للدراسات والنشر» في الإسكندرية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون ريما بالي

الكاتبة السورية ريما بالي: أُواجه الحرب بالخيال وقصص الحب

تهتم الكاتبة الروائية السورية ريما بالي بسردية بلادها ما بعد الحرب، وتوليها عناية خاصة من خلال أعمالها التي تتحدث فيها عادة عن مسقط رأسها «حلب» في سياقات مختلفة

منى أبو النصر (القاهرة)

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه
TT

لماذا جُنَّ نيتشه؟

نيتشه مع أمه
نيتشه مع أمه

أنْ تصل إلى قمة الشعر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كديكارت وكانط وهيغل، فهذا شيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنَّ نيتشه؟ من يعلم؟ أم أنه اقترب من السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟

في شهر مايو (أيار) من عام 1879 استقال نيتشه من جامعة بال بسويسرا بسبب أمراضه العديدة المتفاقمة على الرغم من أنه لم يكن قد تجاوز الخامسة والثلاثين عاماً: أي في عز الشباب. وقد اقتنعت الجامعة بظروفه وحيثياته وقبلت بأن تصرف له تقاعداً شهرياً متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غيار واحد فقط، طقمان وقميصان. وكفى الله المؤمنين شر القتال. بدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مشرداً على الطرقات والدروب. بدءاً من تلك اللحظة أصبح فيلسوفاً حقيقياً وكاتباً ضخماً لا يُشقُّ له غبار. لقد بقيت له عشر سنوات فقط لكي يعيش حياة الصحو. بعدئذ سوف يقلب في الجهة الأخرى من سفح الجنون. ولكن هذه السنوات العشر كانت كافية لكي يضع مؤلفاته الكبرى التي دوخت العالم منذ مائة وخمسين سنة حتى اليوم. بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم كله بوديانه السحيقة وغاباته العميقة مثل كتاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكراهات وظيفية مزعجة وتصحيح أوراق الطلاب؟ محال. هذه حياة لا تليق بفيلسوف بركاني زلزالي يكاد يتفجر تفجراً... نقول ذلك، بخاصة أنه كان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويعدّه «كالحمار» الذي يحمل أثقالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حتى سن التقاعد. هل هذه حياة؟ هل هذه فلسفة؟ على هذا النحو انطلقت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها.

كل كتاباتي ليست إلا انتصارات على ذاتي!

هذا ما كان يردده باستمرار. وهي بالفعل انتصارات على المرض والمخاطر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والراسخ في العقليات رسوخ الجبال. هنا تكمن الزلازل النيتشوية. أين أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لقد أمضاها في مدينة تورين الإيطالية الجبلية الساحرة وهناك شعر بالارتياح وباسترجاع الصحة والعافية إلى حد ما. لقد استقر فيها خريف عام 1888 وأظهر شهية هائلة للكتابة وتفجرت طاقاته الإبداعية في كل الاتجاهات. وما كان أحد يتوقع أنه سينهار بعد أربعة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشياء كانت تتراكم والانفجار الصاعق قد اقترب. نقول ذلك بخاصة أنه استطاع تأليف 5 كتب متلاحقة في ظرف 5 أشهر فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟

فلماذا الإعصار إذن؟ لماذا الانهيار بعد كل هذه الانتصارات التي حققها على ذاته وعلى أمراضه وأوجاعه؟ هل لأنه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هل الفلسفة تجنن إذا ما ذهبنا بها إلى نهاياتها، إلى أعماق أعماقها؟ هل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه الأرض؟ لا أحد يؤلف 5 كتب في 5 أشهر أو حتى 4. أم هل لأنه قال كل ما يمكن أن يقوله ووصل إلى ذروة الإبداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضاً؟ أم هل لأنه كان مصاباً بمرض السفلس (الزهري) الذي اعتراه منذ شبابه الأول في مواخير مدينة كولونيا عام 1966. أم أن تلك الغاوية الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الصاعق على المسيحية غالياً. ينبغي ألا ننسى أنها كانت دين آبائه وأجداده، وأن والده كان قساً بروتستانتياً وجده كذلك، وجد جده أيضاً.. إلخ. ومعلوم أن أمه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتقي ورع طيلة طفولته وشبابه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاته وأعماق أعماقه؟ ألم يدفع ثمن هذا الانقلاب باهظاً؟ يحق له بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى. يحق له أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهداه أحد كتبه قائلاً: إلى فولتير أحد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق له أن يستأصل العاطفة الدينية ذاتها. لا يحق له أن يستأصل أعظم ما أعطاه الدين المسيحي من قيم أخلاقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحب الآخرين (بين قوسين: وهي قيم موجودة في الإسلام أيضاً إذا ما فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمين الذين لا شفقة لديهم ولا رحمة، وإنما فقط طائفيات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور.

ما هي العلائم الأولى التي أرهصت بانهياره العقلي؟

تقول لنا الأخبار الموثقة ما فحواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلاني متماسك حتى آخر لحظة تقريباً من عام 1888. ولكن بعد ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بالعبارات العقلية المتماسكة أو التي ما زالت منطقية متماسكة. ابتدأت هذياناته غير المعروفة تظهر رويداً رويداً. ابتدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بموازاة ذلك تضخمت شخصيته وتحولت إلى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟

بعدئذ في 6 يناير (كانون الثاني) من عام 1889، أي بداية العام الجديد الذي شهد انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بوركهاردت أستاذ نيتشه والجيل كله رسالة هذيانية يقول فيها:

«الشيء الذي يخدش تواضعي وحيائي هو أنني أجسد في شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شهدت خلال الفترة الأخيرة جنازتي ودفني مرتين في المقبرة»... ما هذا الكلام؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟

عندما وصلت هذه الرسالة إلى بروفيسور سويسرا الكبير اتصل فوراً بأقرب صديق عزيز على قلب نيتشه: الدكتور فرانز أوفربيك وسلمه الرسالة قائلاً: لقد حصل شيء ما لنيتشه. حاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هرع الرجل وركب القطار فوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان.

يقول ما فحواه: عندما دخلت عليه الغرفة وجدته مستلقياً نصف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقة مكتوبة. فتقدمت نحوه لكي أسلم عليه ولكن ما إن رآني حتى انتصب فجأة على قدميه وهرع هو نحوي ورمى بنفسه بين أحضاني. لم يقل كلمة واحدة، لم يلفظ عبارة واحدة، فقط كان ينتحب بصوت عال والدموع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وترتجف وهو يردد كلمة واحدة هي: اسمي فقط. لكأنه يستغيث بي. لم تكن الحساسية البشرية قد انتهت فيه كلياً آنذاك. لم يكن عقله الجبار قد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته اللتين أشرفتا عليه حتى مات عام 1900. (بين قوسين: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحت تكتسح ألمانيا كلها من أولها إلى آخرها في حين أنه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حسابه الشخصي على الرغم من فقره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كالرعد القاصف السماء المكفهرة للبشرية الأوروبية. وأصبحت كتبه تباع بالملايين. بل وتحول كتابه «هكذا تكلم زرادشت» إلى إنجيل خامس كما يقال. وأقبلت عليه الشبيبة الألمانية تتشرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هناك أناس يولدون بعد موتهم. سوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا».

رسائل الجنون

سوف أتوقف فقط عند تلك البطاقة التي أرسلها إلى «كوزيما» زوجة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحراجات التي كانت تمنعه من البوح لها بعواطفه ومشاعره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الريفي ويمضي عدة أيام في ضيافتهم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة.

يقول لها في تلك الرسالة الجنونية:

«حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. من الخطأ اعتباري شخصاً عادياً كبقية الناس. لقد عشت طويلاً بين البشر وأعرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بين الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المقدوني وقيصر روما هما من تجلياتي أيضاً. وحتى الشاعر شكسبير واللورد فرانسيس بيكون تجسدا في شخصي. وكنت فولتير ونابليون وربما ريتشارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً.

ولكن هذه المرة أجيء كديونيسوس الظافر الذي سيجعل الأرض كلها كرة من نور وحفلة عيد. السماوات ذاتها أصبحت ترقص وتغني وتطلق الزغاريد ما إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب».