انفتاح على ثقافة الآخر أم غزو ثقافي؟

النوادي الأدبية الأجنبية تكتسح الجامعات في الكويت

من فعاليات نادي الأدب الياباني
من فعاليات نادي الأدب الياباني
TT

انفتاح على ثقافة الآخر أم غزو ثقافي؟

من فعاليات نادي الأدب الياباني
من فعاليات نادي الأدب الياباني

من حيث المبدأ، يتوجب علينا أن نبارك الفكرة، ولكن موضوعيًا، لا يمنع من أن نوجه الأسئلة الفضولية إلى مجموعات من طلبة الجامعات في دولة الكويت أسس أصحابها عددًا من النوادي الأدبية الأجنبية، أي التي تهتم بالآداب الأجنبية كالإنجليزية وحتى اليابانية وغيرها. يحدث ذلك في جامعات عربية، وبالمقابل، هناك نادٍ للأدب العربي في جامعة أميركية.
يأتي ذلك في الوقت الذي بدأت فيه الجامعات في مختلف أرجاء الوطن العربي بفقدان دورها التثقيفي، والاكتفاء بالدور التعليمي، ولكن أعداد من الطلبة ومنذ السنوات الأولى في الجامعة أدخلوا ظاهرة جديدة ومهمة على الحرم الجامعي في الكويت، تتمثل في تأسيس نوادٍ أدبية.
طبيعة هذه النوادي أنها تتألف من الجنسين معًا، وإن كان للذكور النصيب الأوفر فيها، بحكم أن هناك جلسات ثقافية تعقد خارج نطاق المنهج التعليمي، وقد يضطر الطلبة المشاركون في هذه النوادي الأدبية أن يمضوا فيها وقتًا خارج أوقات المحاضرات ولكن في داخل الحرم الجامعي الرصين، وهذا قد لا يناسب الكثير من أهالي الفتيات.
في الجامعة العربية المفتوحة، بدا الاهتمام كبيرًا بالنوادي الأدبية، فهناك ثلاثة منها، واحد يعنى بالأدب الإنجليزي، والثاني بالأدب الياباني، والثالث اسمه نادي «ضاد» وهو يعنى بشتى أنواع الأدب، وفي الجامعة الأميركية يوجد نادي الأدب العربي، وبذلك يتحقق نوع من التوازن.
ولكن الأسئلة الفضولية التي أثرناها حول النوادي المعنية بالآداب الأجنبية: «هل هو انبهار بثقافة الآخر وبالتالي فقدان الثقة والدهشة بالآداب العربية؟ وهل لوسائل الاتصال الحديثة أثر ودور في اتجاه الشباب من طلبة الجامعة لفضاءات الآخر وإهمال أدبهم العربي الذي ربما يكون أولى بالمناقشة قبل الانطلاق إلى ثقافة الآخر، على مبدأ أعرف نفسك أولاً، أم أن الأمر طبيعي من قبل هؤلاء الشباب الذين يرون أن ثقافة العصر هي نوافذ غير مغلقة ومن حقهم الاطلاع ومناقشة أي أدب بغض النظر عن جنسيته؟».
هذه الأسئلة توجهت بها إلى عدد من طلبة الجامعة الذين أسسوا نوادي أجنبية، وطلبت منهم ألا يضعوا وشاحًا على إجاباتهم، بل أن يكونوا صرحاء بما يكفي لسبر غور هذه التساؤلات.

نقاش ثقافي

رانية النص، طالبة من مؤسسي نادي الأدب الياباني، وهو أدب نادر تداوله في الوطن العربي بأسره، فكيف لطلبة جامعيين أن يلتفتوا إليه في الوقت الذي يفتقده كبار المثقفين، تقول رانية: المقصد - في رأيي - من تأسيس النوادي الأجنبية هو جمع المهتمين بها ليشاركوا بمعرفاتهم ويطرحوا وجهات نظرهم مع زملائهم في النادي، والنتيجة المتوقعة هي نقاش متوازن حيادي يفحص ويحلل الثقافة المدروسة. ومن أفضل النقاشات التي يمكن عقدها في نادٍ أجنبي هي تلك التي تعقد مع أبناء الثقافة تلك ومقارنتها مباشرة مع ثقافتنا نحن (العربية والإسلامية).
وتضيف رانية التي تتكلم بعض اللغة اليابانية وترجمت القليل منها: الأمر هو أنه بهذه الطريقة يمكن للغريب أن يطرح سؤالا أو وجهًا للمقارنة قد يدفعني لتساؤلاتٍ وبحوثات متعمقة في ثقافتي لأقارنها بالثقافة المناظرة وهذا الأمر عن تجربة قد فتحت عيني وعرفتني إلى كلتا الثقافتين وجعلت مني أكثر مسؤولية في جمع وتحليل المعلومات والحقائق بدقة وحيادية لاستنباط الدروس المستفادة من الثقافة الجديدة أو تسليط الضوء وتقدير الجيد في ثقافتي.
وعما إذا كان لوسائل الاتصالات الحديثة والإنترنت بشكل عام دور في هذا الإقبال على تأسيس النوادي الأجنبية، توافق رانية النص: «لا شك في ذلك، فوسائل التواصل الحديثة سهلت الوصول إلى الكثير من الإجابات التي يوفرها أبناء الثقافات الأخرى، رغم ذلك تجب الإشارة إلى أن المعلومات يجب أن تناقش وتحلل فمن الخطأ تقبلها كما هي».
وتختتم رأيها بأنها تعتبر وسائل الاتصال الحديثة غيرت نمطية الإعلام الذي كان مهيمنًا، فتقول: عموما الدلائل كثيرة في دور وسائل التواصل التي أتاحت للأفراد أن يخالفوا الإعلام وما يبثه من صور نمطية نسبها إلى شعوب وثقافات معينة، والتي مكنت أبناء هذه الشعوب من حل عقد كثيرة وإزالة اللبس والشبهات حولهم ومن ثم خلق الفرصة للطرف الآخر (الشعوب الأخرى) لكي يرى ويقارن ما كان معتقدا به وما يسرد ويشرح له على لسان أبناء الشعب أنفسهم.

الكتاب الأجنبي

أما زميلها محمود منير عبد الرحمن، فيرى أن بعضهم يرى فعلاً بالآداب الأجنبية أنها الأفضل، ويقول إن وجود نادٍ أجنبي ثقافي في أي جامعة أصبح أمرًا أساسيا، وهناك نسبة كبيرة من الشباب يرون حاليا أن الثقافة الأدبية الأجنبية أفضل من العربية والعكس صحيح.
ولكنه يستدرك: الموضوع هنا ليس انبهارا بثقافة جديدة ولا خطوة جديدة على الانفتاح حيث إننا منذ زمن الاحتلالات والاستقلالات العربية أصبح هنالك انفتاح ثقافي واسع. وفقد عدد منهم حب القراءة للكتب العربية بحجة شبابية صريحة ألا وهي «الكتاب لا يحمسني على قراءته». ويضيف بجرأة: الكتاب العربي فقد مكانته عند الشباب العرب، فالكتاب الأجنبي يتم تجسيده في أفلام سينمائية، ويتم تغيير شكله كل فترة، ما يساعد على نشره على أوسع نطاق في معارض عربية حتى.
وفيما يخص دور التكنولوجيا بالنسبة للتكنولوجيا والإنترنت، يقول: أنا كطالب جامعي أرى أن وسائل التواصل الحديثة لها دور في قلة الاهتمام بالكتب وذلك للأسباب الآتية: خلاصة الكتاب تجدها في محركات البحث والمواقع الإلكترونية، وثانيا، الكتاب غير الكامل ككتب pdf file تجدها بنسبة كبيرة في بعض الأحيان غير كاملة وهي قابلة للتحميل على الأجهزة وهذا الشيء مفيد وسيئ بنفس الوقت. مفيد في توفير الوقت وسيئ أنك قد تحصل على الكتاب غير كامل وتأخذ منه معلومات غير كاملة لعدم وجود الصفحات كاملة.

تساؤلات

أما ياسمين يوسف عمران إحدى المؤسسات لنادي الأدب الإنجليزي، فهي تجيب بتساؤل يخامره حماس الشباب وشكّه أيضًا، فتتساءل أولاً: «هل تشكل الثقافات الأجنبية خطرا على جيل الشباب في وقتنا الحالي؟ فنحن شباب اليوم ولَبِنات الغد وصناع المستقبل. هل بتنا منقادين حقا نحو الثقافات الأخرى متناسين هويتنا الأصلية؟ تلك التساؤلات راودتني، خصوصا أنني طالبة جامعية أنتمي لأكثر من ثلاثة نوادٍ تتحدث لغة دون العربية، بالإضافة لمحور دراستي في الثقافة واللغة والأدب الإنجليزي»!
وتجيب ياسمين بنفسها عن هذا التساؤل: بعد تفكير عميق وجدت أنني لا أنقاد كل الانقياد لتلك الثقافات فأنا لم أفقد يوما ثقتي بثقافتي العربية. بل إنني أرى في عضويتي هدفا أسمى وهو الانفتاح لغرض أعمق، وهو تحسين صورتي كطالبة عربية مثقفة تمثل وتحمل الهوية العربية كتاج مرصع بالأحجار الكريمة من لغة وتاريخ وحضارة وأدب وشعر. فكيف السبيل لذلك إن لم نحاول الوصول للآخر لنفهمه ومن ثم تسخير وسائل الاتصال الحديثة لتؤدي دورها في الاتصال والتواصل فقد خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف.
وتضيف ياسمين: ربما الأغلبية حولوا وتحولوا ثم انساقوا في ثقافة الآخر دون تفكر أو تعقل؛ لذلك أعتبر نفسي شمعة تضيء الطريق نحو حوار ثقافي متحضر وتعاون بين الحضارات لنسمو بكل ما هو خير ونحقق غاية خلقنا وهي إعمار الأرض.
وتختتم برأي ترى في الضد إيجابية: كلما اطلعت أكثر على ثقافة الآخر كلما تعلقت وأحببت أكثر هويتي العربية فهي كانت وما زالت مهد الحضارات والأديان وأتمنى من كل شباب الغد أن يحافظوا على كنزهم الثمين.



الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة
TT

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

الحمادي: الكاتب مسكون بهواجس لا تُخرِسها الكتابة

يُولي الكاتب والروائي الكويتي عبد الوهاب الحمادي التاريخ اهتماماً كبيراً فيُعيد تشكيل أسئلته وغرائبه في عالمه الأدبي، منقباً داخله عن الحكايات الناقصة وأصوات الهامش الغائبة، وهو ما يمكن استجلاؤه بوضوح في روايته الأحدث «سنة القطط السمان»، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» بالقاهرة. وكان قد صدر له من قبل عدد من الأعمال منها «دروب أندلسية»، و«الطير الأبابيل»، ورواية «لا تقصص رؤياك»، التي وصلت للقائمة الطويلة لجائزة «البوكر» العربية عام 2015.

هنا حوار معه حول روايته الجديدة واهتمامه بالتاريخ وأدب الرحلة:

> تُلازم بطل «سنة القطط السمان» نبرة تأنيب ومراجعة ذاتية مُتصلة، هل وجدت أن استخدام ضمير المخاطب يُعزز تلك النبرة النقدية في صوت البطل؟

- اعتماد الراوي المخاطب للتعبير عن البطل، كان خياراً صعباً، ترددت كثيراً قبل اعتماده لمعرفتي أن القارئ قد لا يستسيغه، لكن بعد أن جرى نهر الكتابة وتشكلت الشخصيات والمواقف وتعقّدت الحبكة، وجدت أن ضمير المخاطب استطاع تكوين شخصية خاصة بالبطل، وأكسبه حضوراً خاصاً، ذلك، بالإضافة إلى الراوي العليم وكل الأدوات السردية التي استخدمتها محاولاً إيصال ما أريده. ثم عاد الخوف من انطباعات القراء بعد صدور الرواية، وسرعان ما تبدد الخوف بعد ظهور المقالات المتعددة من القراء والنقاد التي أكرموني بها.

> بطل الرواية (مساعد) دائماً ما يصطحب معه «القاموس»... تبدو علاقته باللغة مهجوسة بالمراجعة بالتصويب فهو «يصحح كلمات أصحابه»، فلا تبدو اللغة مجرد أداة عمله مترجماً، ولكنها أوسع من هذا. حدثنا عن تلك الآصرة اللغوية.

- اللغة بطبيعتها انتماء وهُوية وانسجام مع محيط واسع، هل كان البطل يبحث عن انتماء عبر تصحيح كلمات أصحابه؟ أو إرجاعه كلمات إلى أصولها؟ ربما والإجابة الأكيدة عند القارئ لا شك. لكنها التقاطة جميلة منكِ، ومُعبرة، عن مساعد، بطل العمل الذي صرّح في أحد الفصول بأن الزمان لو كان هانئاً لألَّف قاموساً يتتبع فيه أصول الكلمات. القاموس قصة غرام بين الشخصية الرئيسة والكلمات ويحمله أغلب الرواية، قاموس يتوسّط لغتين، العربية والإنجليزية، كأنما هو نقطة تلاقي الشرق بالغرب.

> أود الاقتراب من تشريح العمل لخريطة المجتمع الكويتي والمعتمد البريطاني والوافدين، ما بين مسرح «سوق الخبازين» وساحة المسجد ومكتب المعتمد البريطاني. حدثنا عن عنايتك بالترسيم المكاني في الرواية لرصد الحالة الكويتية في ثلاثينات القرن الماضي.

- لن أقول جديداً إن قلت إن صورة الخليج في الذهنية العربية أقرب لصورة نمطية، قد تتفوق في أحيان كثيرة على الصورة النمطية الغربية تجاه العرب. وأسباب هذه النظرة طويلة ومتجذرة ولن أخوض فيها حفاظاً على الوقت والمساحة، لكن أجدني دونما وعي أصف ما كان آنذاك من مكان وأناس وأحداث، لتثبيت صورة مُغايرة عمّا يرد لأذهان من عنيت في أوّل الإجابة... هل أكتبها لهم ولهذا الغرض؟ بالطبع لا، ففي المقام الأول وصف المكان أداة من أدوات الكتابة تُغني العمل عبر التفاعلات مع شخصياته، ولولا خصوصية المكان لن تكون الشخصيات نفسها والعكس قد يكون صحيحاً، إذ كما أسلفت العلاقة تبادلية، وهو ما يصنع خصوصية مكان ما وخصوصية شخصياته، ومما ساعدني في ذلك، انغماسي في قراءة كتب تاريخ المنطقة بشكل عام والكويت بشكل خاص، وأفادتني كتب مثل: «معالم مدينة الكويت القديمة» الذي صدر حديثاً عن مركز البحوث والدراسات، وإصدار آخر هو «الأسواق القديمة في الكويت»، بالإضافة إلى مراسلات المعتمد البريطاني آنذاك. وفي النهاية مشاورة الأصدقاء الضليعين في تاريخ المنطقة وتفاصيله.

> تتكشف ملامح شخصيات الرواية وأصواتها من المسافة التي تفصلهم من «الهندستاني»، ورغم أن الحدث المركزي في الرواية كان دائراً حول اللغط بشأن مطعمه، فإن حضوره ظلّ على مسافة، لماذا لم تمنحه صوتاً في الرواية؟

- في بداية كتابتي للرواية كان صوت الهندستاني حاضراً في الذهن والكتابة، ثم تقلّص ليكون مبثوثاً بصوته بين الفصول يتحدّث إلى (مساعد)، إلى أن اتخذت قراراً بحجبه كشخصية إلا على لسان الجميع، هل كنت أريده أن يكون أرضية للقصة تحرك الشخصيات والأحداث وفقاً لتفاعلاتها؟ ربما، لكنني فعلت ما أحسست أنه سيفيد الرواية ويجعل الحدث مركّزاً والأفكار متضافرة.

> استخدمت التقويم الزمني المحلي الكويتي «سنة الطفحة»، «سنة الهدامة»... كيف شكّلت تلك السنوات المتراوحة بين القحط والثروة لديك محطات تحريك لأحداث الرواية؟

- من المعروف أن العرب مثل كثير من الأمم تحفظ تاريخها بتسمية الأيام والأعوام، وأشهرها عام الفيل في التاريخ الإسلامي، الذي سبق زمن البعثة النبوية بقليل. واستطاع ذلك النهج عند المؤرخين والعامة أن يستمر وصولاً للعصر الحالي، عندما نقول عام أو سنة الاحتلال العراقي أو الغزو، سنة النكبة، سنة النكسة، سنة الكورونا إلى آخره. لذلك كنت محظوظاً عندما كانت لحظة الحدث الأساس في الرواية، حادثة المطعم، سنة مفصلية في تاريخ الكويت الحديث، لحظة بين بوار تجارة اللؤلؤ وإرهاصة اكتشاف النفط، وما لحقه من تبدّل نمط التجارة الكويتية تبدّلاً جذرياً، مما انعكس على طموحات الشباب المتعلم آنذاك، وما صاحبه من ثورة في وسائل المواصلات كالسيارة والطائرة والسفن الحديثة وهبوب رياح انتشار الطباعة في المنطقة، وبالتالي توفّر المجلات والكتب وارتفاع سقف الطموحات مما يجر الطموح والرغبة في التوسع، وبالتالي قد يجر الطمع. وهذا هو سياق فهم «مساعد» خلال أحداث الرواية، وربما ينطبق ذلك على أغلب الشخصيات التي وصفتها إحدى المقالات بمصطلح «الداروينية الاجتماعية».

> في «لا تقصص رؤياك» رسمت ملامح عنصرية داخل المجتمع الكويتي، ولكنها كانت تدور في زمن أحدث من «سنة القطط السمان». هل برأيك يظل الكاتب مسكوناً بأسئلة دائماً يبحث عنها عبر مشروعه حتى لو تنقّل بين الأزمنة الروائية؟

- سؤال رائع، بالفعل، يظل الكاتب في ظني مسكوناً بهواجس لا تُخرسها الكتابة، قد تخفف منها قليلاً، لكنها ما تلبث أن تتوهّج وتندلع في حريق وتبدأ كتابة جديدة. الأزمنة والأمكنة والشخصيات مجرد أعذار لكتابة الأسئلة المؤرقة والهموم الشخصية والعامة وأنصاف الإجابات على هيئة رواية.

> في روايتِك «ولا غالِب» تعرضت لحدث احتلال العراق للكويت عبر مدّ خيوط سردية مُتخيّلة تتواشج مع زمن سقوط الأندلس، هل كنت تبحث في عمق تلك الهزيمة التاريخية عن مرتكز لفهم فجيعة احتلال بلادك التي شهدتها في سنواتك المبكرة؟

- صحيح، كنت أفعل ما يمكّنني من فهم فجيعة هي الأقوى ليست في حياتي أو في تاريخ بلدي، بل هي الأكبر - برأيي - في المنطقة العربية، وتفوق برأيي النكسة، إذ إن حرب الأيام الستة كما تسمى في الغرب، كانت بين عدو واضح المعالم، ونظام عربي واضح، ولم تكن حرباً عربية - عربية، بل لا أجازف كثيراً إن سميتها: الحرب الأهلية العربية، حرب تبارت فيها الأنظمة والشعوب في الاستقطاب (مع أو ضد) والتعبير عن كل مخزونات المشاعر المتراكمة تجاه الآخر. في «ولا غالب» حاولت عبر الشخصيات الكويتية والمرشد الفلسطيني، واستغلال الحشد الأميركي لغزو العراق في عام القصة أواخر 2002. واختيار غرناطة الأندلس لتكون مكان الحدث، غرناطة الحاضر والماضي عبر التاريخ البديل، أن تشتعل المقارنة الفكرية بين القناعات، وجعل القارئ يناظرها عبر مفاهيمه ويجادل أفكاره كما فعلت أنا قبله أثناء الكتابة.

> تحتفظ كتب عبد الله عنان وشكيب أرسلان بمكانة خاصة لديك، حتى أنك أشرت لهما في مقدمة كتابك «دروب أندلسية». ما ملامح هذا «الهوى» الخاص الذي تتنسمه في تلك الكتابة المتراوحة بين الرحلة والتاريخ؟

- عندي هوى وهوس بالتاريخ القديم والحديث، وشغفت بالكتب التاريخية وأدين لها بالكثير، إذ لا يجاري مكانتها في نفسي شيء، وبالتالي إن جئنا للتاريخ الأندلسي سيكون لعنان تحديداً عامل فكري كبير مؤثر في نفسي، إذ، كيف استطاع ذلك المحامي غير المتخصص في التاريخ أن يراكم مجلدات تلك الموسوعة التي لم يجاوزها أحد منذ سبعين عاماً؟ كيف ترجم ونقل وقارن وحلل بذكاء نادر؟ وذلك انعكس في ذائقتي على صعيد الرواية قراءة وكتابة، ولا أخفي بالطبع تأثري بمسار وكتابات أمين معلوف بالدرجة الأولى ومن ثم غازي القصيبي، والطيب صالح، وفواز حداد، وبالطبع التجلي الروائي الأكبر عربياً وحتى عالمياً وهو نجيب محفوظ، صاحب الأثر الأهم في قناعاتي تجاه الحياة والكتابة.

> أنت مُحِب للسفر، هل ترافقك بين مشاهد المدن ومرافئها قصيدة «المدينة» لكفافيس، التي صدّرت بها روايتك الأخيرة، وما تعريفك الخاص لـ«المدينة التي تُلاحقك» بتعبير الشاعر اليوناني الراحل؟

- تطور السفر بالنسبة لي من خلال القراءة والكتابة، وتبعها تحويل كتابي الأول «دروب أندلسية» إلى رحلة تطوف إسبانيا، كان انبثاق تدشين مرحلة الرحلات الجماعية المهتمة باكتشاف العالم، عبر التعرف على تاريخه ومجتمعاته وحضاراته، وكنت محظوظاً مرّة أخرى لأن هذه الرحلات زادت معرفتي بالناس في البلدان المختلفة، بالإضافة لخبرات التعامل مع المشتركين المتحدرين من بلدان عدّة، كل ذلك منحني معرفة لا تشترى بمال ولا تعلّم في المدارس. وعندما واجهت قصيدة كفافيس وعدت إليها، وجدت أنها معبرة عن بطل رواية «سنة القطط السمان»، لكنها، ولأعترف، معبّرة عني في أحد معانيها، كما هي الحال في قصيدة محمود درويش «لا شيء يعجبني»، التي كانت تنافس كفافيس في تصدير الرواية حتى تفوقت قصيدة شاعر الإسكندرية وتصدّرت أولى عتبات النص الروائي. وسؤالي لكِ وللقراء: ألسنا كلنا ذلك الموجوع بمدينته؟ عندما وصفنا كفافيس: وما دمت قد خربت حياتك هنا، في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما كنت في الوجود!