صالحة عبيد: استقلالية المرأة جسرها نحو الإبداع وحرية التعبير

الروائية الإماراتية تقول إن الشارقة «منحتها الذاكرة»

الروائية الإماراتية صالحة عبيد
الروائية الإماراتية صالحة عبيد
TT

صالحة عبيد: استقلالية المرأة جسرها نحو الإبداع وحرية التعبير

الروائية الإماراتية صالحة عبيد
الروائية الإماراتية صالحة عبيد

نشرت الكاتبة الإماراتية صالحة عبيد (مواليد 1988) لحد الآن ثلاث مجموعات قصصية قصيرة وروايتين، أول مجموعة قصصية لها حملت عنوان: «زهايمر» (2010) وترجمت إلى الألمانية، تلتها مجموعتها القصصية: «ساعي السعادة» (2012) و«خصلة بيضاء بشكل ضمني» (2015) التي فازت بجائزة العويس للإبداع (2016) وأصدرت رواية «آيباد... الحياة على طريقة زوربا» (2014). كما فازت عن مجمل أعمالها بجائزة الإمارات للشباب في فئة الكتابة الإبداعية عام 2017، وفي عام 2018 نشرت روايتها الثانية: «لعلها مزحة».

هنا حوار معها:

* ماذا منحتكِ الشارقة؟

- بادئ ذي بدء، فإن أول ما منحته لي إمارة الشارقة هو الذاكرة، التي منها يبدأ كل شيء ويتماهى من كل تفاصيل الحياة، ورغم التطور العمراني السريع في سنوات الطفرة في الخليج عموماً والإمارات بشكل خاص، فإن هناك أجزاءً كثيرة من إمارة الشارقة التي تحركت فيها في طفولتي، ولا زلت أتحرك فيها اليوم على امتداد العمر والتجربة، متصلة بخيط واضح بذاكرة والدي وجدتي، أتذكر كيف أن والدي كان يخبرنا عن تحركاته بمحاذاة الميناء وبحر الشارقة، الذي لا زال موجوداً كما هو تقريباً، ثم وصفه للشارقة القديمة التي حافظت على أجزاء مهمة من بعدها الجغرافي والعمراني بفضل الانتباه لضرورة الترميم للهدم عبوراً إلى النهضة الحضارية، بأساس راسخ هو هوية المكان، هي مدينتي الآمنة على الذاكرة كما أحب أن أسميها في بعدها ذاك، وأتمنى أن تستمر بذلك دون أن تنساق للتمدن الفج فجأة، بل أن تحافظ على نسقها الرصين الهادئ، الذي يحيل بدوره إلى مشروع الشارقة الثقافي التراكمي والهادئ الذي بدأ منذ ثمانينيات القرن الماضي، الذي بدوره منحني وإن بشكل غير مباشر، تلك الرغبة التأملية الهادئة في الملاحظة والرصد، باعتبار أن السارد هو ملاحظ هادئ بالدرجة الأولى وخلف الكواليس للتفاصيل، يراكمها بعداً بعد آخر لكي يصنع الحكاية التي تحاول أن تشرح الواقع وتبني عليه المخيلة إلى آخر ما تقتضيه العملية الإبداعية السردية.

* كتبتِ مقالاً بعنوان: «غرفة فيرجينيا وبرقع سلمى»، تتحدثين عن إبداع المرأة في الخليج والإمارات تحديداً، كيف ترين هذا الإبداع؟

- لا أعرف إن كنتُ شخصاً مؤهلاً للتقييم في حقيقة الأمر، لكن كل ما أعبّر عنه هو مجموعة من التأملات الخاصة من قراءات وملاحظات بين المحلي القريب والآخر البعيد، وكما ذكرت في المقالة التأملية، فإنه في الوقت الذي كانت «فيرجينيا وولف» تنادي لاستقلالية المرأة بالمعنى الحرفي سكناً ومادة، الأمر الذي سيكون جسراً معنوياً لاحقاً لاستقلاليتها الإبداعية وحريتها في التعبير، فإن الأمر شكّل مفارقة مختلفة نسبياً في الخليج وفي الإمارات بشكل خاص، فمع التطور النهضوي وحضور المرأة في الفضاء العام، وجدت الكثير من الأسماء التي اتجهت للتعبير الإبداعي بأسماء مستعارة، عبرت بجرأة في بعض الجوانب عما تبتغيه المرأة كإنسانة بالدرجة الأولى في هذه المجتمعات المتسارعة في نموها في مرحلة ما بعد الطفرة، والتزمت بعض النماذج منها بشكل خلاب بين الفكرة وقوتها، وبين الالتزام بالشروط السردية للنص الحديث، واللغة الجديدة.

* هل كان التواري خلف أسماء مستعارة سببه مطالبات معينة، أو الهروب من الرقابة مثلاً؟

- لم تكن الحكاية هي مجرد حكاية موجهة للمناداة بحق ما... لاحقاً، زاد عدد السيدات الكاتبات، وهناك أصوات جميلة اليوم وفارقة يكتبن بأسمائهن الصريحة وأنجزن إبداعياً على مستوى الشعر والسرد والتشكيل، لكن هذا التزايد العددي مقابل الندرة والتواري خلف الأسماء المستعارة سابقاً، رافقه شيءٌ من المهادنة في الطرح والتعبير، وهو أمر لا أستطيع أن أستثني نفسي منه في بعض الجوانب، لعلها التركيبة الاجتماعية والرقابة الاجتماعية فيها، التي تمارس رغم الاستقلالية والحضور في الفضاء العام شكلاً من أشكال الرقابة المستمرة والمضمنة في اللاوعي الأنثوي للمرأة الخليجية والإماراتية.

* روايتك «لعلها مزحة» بدت وكأنه نسج حوار بين جيلين في الإمارات... رغم حداثة التجربة في الدولة فإنها تمرُّ بسرعة مما يضاعف المسافة بين الأجيال... كيف تعمل الرواية على تجسير هذه المسافة؟

- أظنها ستبقى موجودة دائماً بسبب الوضع الخاص الذي مرَّ به الخليج وشبه الجزيرة العربية عموماً، قفزات سريعة بعد الطفرة، هذه القفزات خلقت فجوات كبيرة على المستوى الاجتماعي بين الأجيال، أسئلة كثيرة ومتشعبّة بلا إجابات ولعل الإجابات لم تكن لتوجد يوماً، ومن هنا لعلها خصوصية هذا المجتمع اليوم ولربما يبقى الأدب كغيره من الفنون مجرد محاولات لتجسير تلك الفجوة ما أمكن، من خلال ما تعرضه من أنسنّة لتلك الأسئلة وتبعاتها وتلك المراحل بين الأجيال من خلال أسماء شخوص وحكايات تحاكي المراحل وتبتكر إجابات محتملة، وحواراً من الممكن أن ينتقل من عالم المخيلة إلى أرض الواقع.

* في مقال لك بعنوان «ينتابنا هلع جلجامش»، تقولين إن «جلجامش في هلعه القديم كان خائفاً من عدم قدرته على السيطرة على مصيره»، و«نحن نرفض نهاية جلجامش (...) فالخوف هو الدافع الأكبر لكل ما نفعل»... أليس الخوف هو قيد المبدع وسجن الإبداع؟

- الخوف هو شعور، والمشاعر الإنسانية هي أكثر الأشياء هشاشة، ما يأتي بعد هذا الشعور هو الفارق وهو رد الفعل، الإنسان كائن عاقل يتميز بقدرة الوعي والتفكير والتحليل، ومن هنا أظن أن الشعور بالخوف في المكون الإنساني، هو الذي أتى بردة الفعل الأولى لصنع الحضارة، الحضارة الحديثة اليوم، التي هي محاولتنا للوصول للخلود في رحلة جلجامش التي لم نقتنع بأنها انتهت، وكيف كان الأمر ليكون لو أن جلجامش قد شعر بالخوف من موت إنكيدوا ومن مصير يشبهه فذهب في تلك الرحلة العظيمة، التي نحن بشكلٍ أو بآخر نتاجها اليوم، الخوف هو محفز، ما يأتي بعده هو نتاج الوعي الخاص إما أن يكون خوفك سجنك أو أن يكون جسرك نحو محاولات النجاة، المحاولات التي يأتي الإبداع ليشكل طريقها الإنساني الخاص والأكثر جسارة منذ أن أدرك الإنسان قدرته الخاصة على الخلق بدوره.

* مجموعتك القصصية «زهايمر» التي صدرت عام 2010 وترجمت للألمانية، كثيرون وجدوها تجربة مختلفة لأنها تحكي صعوبة موت الذاكرة وضياعها... ما الرسالة التي تضمنتها هذه المجموعة؟

- لا أؤمن بفكرة أن تكون لكل عمل ما رسالة واضحة وظاهرة، وإلا فما قيمة الشراكة الإبداعية بين السارد والمتلقي التي يكون أحد أهم شروطها ترك بوابات التأويل مشرعة، وبالعودة لـ«زهايمر»، فإنها تقنياً كانت المحاولات الأولى لفتاة العشرينات لمحاولة بناء عالم قصصي وشخوص يحاكي ما قرأته في عالم السرد الذي تحبه، من الذاكرة وعنها، ولعله الأمر الذي جعل كثيراً من القصص تشترك بشكل ضمني في ثيمة الذاكرة، وفاءً للذاكرة الإنسانية.

* روايتك «دائرة التوابل» ثمة ارتباط بين بطلة الرواية (شيريهان)، المهمومة بالروائح البشرية وبطل رواية (العطر) جان باتيست غرونوي، الذي يقوده نفوره من الروائح البشرية لتصنيع عطر للسيطرة على البشر، لأن «من يسيطر على الروائح يسيطر على قلوب الناس» هل ترين ترابطاً بين الروايتين؟

- عدا الرائحة، لا يوجد هناك تقاطع، وإلا لاكتفينا برواية واحدة فقط عن الكراهية ورواية واحدة عن الحب وقصة منفردة عن البحر وغيرها، ولعل زوسيكد في العطر، جعل الرائحة أقوى حضوراً وأبرز ثيمتها بشكل أكبر، في حين أن الرائحة في عوالم «شما» و«شيريهان» كانت أكثر مواربة، في عالم كان الوقع الأكبر فيه حاضراً وموجهاً نحو ثيمتي الغضب والموت والدائرة التي لا تكسر بينهما... وهو مجرد تأويل واحد من مجموعة مخرجات قد يجدها المتلقي بعد أن يقرأ العمل.

* ما رمزية حضور الخليفة العباسي عبد الله بن المعتز في هذه الرواية، وهو شاعر تسلم السلطة ليوم وليلة فقط؟

- كنتُ مأخوذة لفترة بحكاية ابن المعتز على المستوى الشخصي، فتنتني المفارقة الكامنة في أنه في اللحظة التي تخلى فيها عن الشعر واختار السلطة، فإنه كان يختار موته، وأنه رغم كل الدم الذي أحيط به ورغم كل محاولات التخلص منه بقي ناجياً في حضرة الشعر والفتنة وعوالم الغواية، حتى أتت السلطة فقتلته، وعلى المستوى الروائي، حضوره كان مهماً لتأصيل فكرة الغضب التاريخي المستعر والمقيم في تراثنا العربي، الذي لم يبتر، حتى في أزمنة اليوم الحديثة، لعله سر غضبنا المتواري، الذي لا نجد له تفسيراً في مجتمعاتنا اليوم، المتصارعة والمشتعلة والمقتتلة، والصارخة على الدوام.



محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
TT

محاولة يائسة لترميم منزل مهدم

صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي
صورة المنزل الذي هدمه القصف الإسرائيلي

حين كتبت في الصيف الفائت عن البيوت التي لم تعد ملاذاً لساكنيها، والتي تبحث عبثاً عمن يعصمها من هول الحروب وحممها المتساقطة، لم تكن المواجهة مع العدو في لبنان قد تحولت إلى منازلة مفتوحة ومنعدمة الضوابط والمعايير. وإذا كان المنزل الذي وُلدتُ فيه مع الأشقاء والشقيقات لم يصب حتى ذلك الحين بأذى مباشر، فقد بدت الكتابة عن المنازل المهدمة أشبه بالتعويذة التي يلجأ إليها اليائسون للتزود بحبال نجاة واهية، كما بدت من بعض وجوهها تضليلاً للكوابيس المستولدة من هواجس الفقدان، شبيهة بالمناديل الحمراء التي يستخدمها المصارعون في الحلبات، لصرف الثيران عن هدفها الحقيقي.

على أن خوفي المتعاظم من فقدان المنزل العائلي الذي ولدت تحت سقفه القديم بُعيد منتصف القرن الفائت، لم يكن ضرباً من القلق المرَضي أو الفوبيا المجردة؛ بل كانت تسنده باستمرار مجريات المواجهة الدائمة مع العدو، وهو الذي نال في كل حرب سلفتْ حصته من التصدع ونصيبه من الدمار. صحيح أن قريتي زبقين التي أنتمي إليها بالولادة والنشأة، لا تقع على الخط المتاخم للحدود الفلسطينية الشمالية، ولكن الصحيح أيضاً هو أن المسافة الفاصلة بين القرية الواقعة إلى الجنوب الشرقي من مدينة صور، والمطلة من الأعلى على المتوسط، لا تتجاوز الكيلومترات العشرة، بما يجعلها في المرمى الأشد هولاً للنيران الإسرائيلية المتجددة مع كل حرب.

وإذا كانت للجمال تكلفته الباهظة، ولكل نعمة نقمتها المقابلة، فقد كان على زبقين أن تدفع الضريبتين معاً، ضريبة جمالها الأخاذ، وهي المترعة بالأودية والأشجار والتفتح المشمس للأيام، والمحاطة بأرخبيل الينابيع المتحدرة من أعالي الجليل الفلسطيني، والضريبة الموازية لجغرافيا الأعالي التي تجعلها مثاراً لاهتمام العدو، ودريئة نموذجية لتسديد غضبه وأحقاده. ولأن منزل العائلة هو الأعلى بين بيوت القرية، فقد كان عليه مع كل حرب تقع، أن يتلقى النصيب الأوفر من القذائف، بحيث أخذت المواجهة غير المتكافئة بين مواقع العدو وطائراته المغيرة، وبين جدران المنزل العزلاء، طابع المواجهة الثنائية والصراع «الشخصي».

والآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات، أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي، وأشعر أن في ذلك البيت الذي نشأت بين جنباته، نوعاً من حبل السرة الغامض الذي يربطني على الدوام بنواتي الأولى، ويحوِّل كتابتي برمتها إلى تحلُّق دائم حول أطيافه وأصدائه وظلاله التي لا تغرب. أقول ذلك وأنا أحاول أن أنتشل من بين الأنقاض، أطياف النسخة الأولى من المنزل الذي ولدتُ وترعرعت لسنوات سبع تحت سقفه الطيني، قبل أن يستبدل به أبي نسخة إسمنتية أخرى تتواءم مع تطلبات ذريته الآخذة في التكاثر في أواخر خمسينات القرن المنصرم. ولعل أكثر ما أتذكره من ملامح العالم القديم، هو الحضور الضدي لأشيائه وكائناته. ففي حين كانت الشموس تسلط على أديم النهارات كل ما أوتيتْه من سطوع، فتضيء بشكل مبهر ملاعب الماضي وفراشات الحقول، وأزهار البابونج المنتشرة على سطح الحياة الطيني، تكفلت الليالي الأشد حلكة بتوفير مؤونتي من الأشباح؛ حيث الموجودات لم تكن تكف في ضوء السراج الخافت، عن مضاعفة أحجامها الأصلية وظلالها المتراقصة على الجدران. وفي حين أن شجرة الدراق المزروعة في فناء المنزل الخارجي، هي أكثر ما أتذكره من حواضر النباتات، فإن الأصوات المختلفة لحشرات الليل وعواء حيواناته الأليفة والبرية، كانا يختلطان بأزيز الرصاص الذي يخترق بشكل غامض ستائر الظلمات، والذي عرفت فيما بعد أنه رصاص المواجهات المتقطعة التي كانت تشهدها جرود الجنوب، بين رجال الدرك وبين الطفار المطلوبين للعدالة والخارجين على القانون.

وإذا كانت النسخة الأولى من البيت قد تعرضت للإزالة لأسباب تتعلق بضيق مساحته وهشاشة سقفه الطيني وتزايد أفراد العائلة، فإن النسخة الثانية التي تعرضت للقصف الإسرائيلي الشرس على القرية عام 2006، هي التي ترك تعرُّضها للإزالة والهدم، أبلغ ندوب النفس وأكثرها مضاضة وعمقاً، فذلك المنزل الإسمنتي على تواضعه وقلة حجراته، هو الذي احتضن على امتداد أربعة عقود، كل فصول الطفولة والصبا وبدايات الكهولة. صحيح أنني نأيت عن البيت، تلميذاً في مدارس صور، وطالباً جامعياً في بيروت، ومن ثم مقيماً بين ظهرانيها في فترة لاحقة، ولكنني لم أكف عن العودة إليه في مواسم الصيف وأيام العطل المتعاقبة، بما جعله خزاناً للذكريات، تتراوح دائرته بين تفتح الشرايين وقصص الحب الأولى وأعراض الكتابة المبكرة، والطقوس الدورية المتعاقبة لمواسم التبغ.

ومع وصول المدة الزمنية الفاصلة بين هدم البيت وإعادة بنائه إلى حدود السنتين، فإن أبي المثخن بآلام النزوح والفقد، لم يعد قادراً آنذاك على احتمال بقائه في مدينة صور أكثر من شهور قليلة، ليقرر بعدها العودة مع أمي إلى القرية، والإقامة في أحد المنازل القريبة، بانتظار اكتمال بيته الجديد. وقد ألح الوالد المتعب على أخي الأصغر بالإقامة في الطابق العلوي للمنزل، لكي يخفف عنه وطأة المرض وأوزار الشيخوخة، قبل أن يقضي سنواته الأخيرة محاطاً بأبنائه وأحفاده وعلب أدويته وأضغاث ماضيه.

الآن وأنا أقف على ركام المنزل الذي أسقطته للمرة الثانية صواريخ الطائرات... أتلفت بشغاف القلب باتجاه الماضي

كان على أمي بعد ذلك أن تتولى وحيدة زمام الأمور، وهي التي تصغر أبي بعقد من الزمن، ولذلك لم يكن يشغلها في السنوات التي أعقبت غيابه أكثر من تمثيل دوره بالذات، كما لو أنها كانت تحاول من خلال التماهي مع زوجها الراحل، إقناع نفسها بأنها وجهه الآخر وامتداده الرمزي في المكان والمكانة والدور، وأنها قادرة على تعويضنا كل ما خسرناه من مشاعر الرعاية والأمان وصفاء الدهر. وهو ما بدت تعبيراته جلية تماماً من خلال تحويل شرفة المنزل الذي ضاعفت مقتنياته وتفننت في تجميله وزينت جدرانه باللوحات، إلى مسرح دائم للقائها بمن تحب من أفراد عائلتها وجيرانها الأقربين.

غير أن أي كتابة عن المنزل المهدم، لا يمكن أن تستقيم دون الإشارة إلى ازدحام محيطه وزواياه بأصناف كثيرة من النباتات والورود التي كانت تتعهدها أمي بالعناية والحدب، بحيث كان مرور يديها على تراب الأحواض، كافياً بحد ذاته لأن تنهض من تلقائها شتلات الحبق وسيقان المردكوش وأقلام الزهور. ومع أن الأمراض المتفاقمة لم تكف عن مداهمتها بشكل مطرد إثر رحيل الأب، فإن تعلقها بالنباتات لم يتراجع منسوبه بأي وجه؛ بل إنها على العكس من ذلك، راحت توسع دائرة مملكتها النباتية لتطول منزلاً قديماً مجاوراً لبيت العائلة، كانت قد أقنعت أبي بشرائه، قبل أن تُحوِّل واجهته الأمامية بشكل تدريجي إلى جدارية من الورود، بات يقصدها الكثيرون في وقت لاحق، بهدف التقاط الصور أو المتعة البصرية المجردة. في أواخر سبتمبر (أيلول) من عام 2023، وقبيل اندلاع «طوفان الأقصى» بأيام قليلة، رحلت أمي عن هذا العالم، إثر مغالبة قاسية مع مرض سرطان الدم. وبعدها بعام كامل كان البيت ذو الطوابق الثلاثة، ومعه حائط الورود المجاور، يتعرضان للانهيار تحت القصف الذي لا يرحم لطيران العدو. ومع أنها لم تكن على يقين كامل بأن المملكة الصغيرة التي رعتها بالأهداب وحبة القلب، ستؤول بعد غيابها إلى ركام محقق، فقد بدا رحيلها عن تسعة وثمانين عاماً، بمثابة استباق داخلي غامض للكارثة القادمة، ونوعاً من عقدٍ رضائي بينها وبين الموت. أما البيت المخلع الذي بقرت الصواريخ جدرانه وأحشاءه، فما زال ينكمش على نفسه، متحصناً بما تبقى له من مدَّخرات المقاومة، قبل أن يوقِّع بأكثر أنواع الدموع صلابة وكبرياء على وثيقة استسلامه.