استوقفني طويلاً استفسار لأحد القراء سألني فيه عن سبب استخدامي لجملة في خاتمة المقال السابق حول افتتاح قناة السويس الجديدة التي قلت فيها عن هذا الافتتاح الثاني بأنه «يمثل لكثيرين من المصريين مصالحة مع العناء التاريخي، ودواءً حقيقيًا لمرارة واحدة من أصعب الفترات التاريخية في حياة مصر الحديثة».. وعندما تطرقت للأسباب التي دفعتني لصياغة هذه الجملة، سألني بغتة.. «وهل التاريخ المصري الحديث مأساوي لهذه الدرجة التي تحتاج لمثل إنجاز القناة الثانية للتهوين على المصريين آثار التاريخ؟»، والواقع أنني لم أجد إجابة فورية لحاجتي للتأمل قبل الإجابة عن هذا السؤال المركب تاريخيًا والوعر سياسيا، فوعدته بالرد في هذا الأسبوع على هذا السؤال.
بدأ التاريخ المصري الحديث مع تاريخ قدوم الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798 التي يعتبرها الكثير الخط الفارق بين ماض مظلم الشكل والمضمون تحت وطأة الحكم العثماني الفاسد ومستقبل أكثر استنارة رغم تربص القوى المختلفة بعدما أصبحت مصر رقعة جغرافية-سياسية هامة للأوروبيين وفاعلا أساسيا في السياسة الدولية، وقد بدأ التاريخ رحلته مع مصر في ظل هذه الظروف الصعبة التي احتاجت فيها لحملة استعمارية للاستفاقة من الغيبوبة العثمانية التي يمكن أن تكون أحلك فترة زمنية دامت أكثر من مائة وواحد وثمانين عامًا تخلفت فيها مصر تخلفًا تامًا، ولكن مع جلاء الحملة الفرنسية ودخول مصر في حرب أهلية ممتدة انتهت بسيطرة الضابط الألباني-العثماني محمد علي على الحكم في البلاد وإخضاعها لعملية تطوير إجباري شملت أواصر الدولة وبناء أول جيش وطني في المنطقة بدأ يناطح في السياسة الدولية، وأصبح لمصر دورها الدولي منذ دخولها كطرف مباشر في حرب الاستقلال اليونانية، وفي مناسبتين الأولى في 1827 والثانية في 1840 دخلت مصر في صدام عسكري مباشر مع أغلبية القوى الدولية التي سعت لتحجيم دورها خاصة بريطانيا، فجاءت معاهدة لندن 1840م. لتقلم أظافر مصر سياسيا من خلال إعادتها إلى حدودها الطبيعية مضافًا إليها والسودان، وفي القطاع العسكري تم وضع سقف لحجم الجيش المصري بثمانية عشر ألفًا فقط، وهو بالكاد يحافظ على الأمن الخارجي والحدود، ومنذ ذلك الوقت كُتب على مصر أن تواجه سلسلة من الأحداث الدرامية الحزينة في مجملها والتراجيدية في بعضها، فمثل هذه المحطات توالت على المصريين ويمكن رصدها في أهم ما يلي:
أولاً: كان اتفاق شق قناة السويس في واقع الأمر خديعة سياسية-اقتصادية على النحو الذي أوردناه في المقال السابق، فبدلاً من أن تتحول هذه القناة إلى أداة لرفعة شأن الدولة ودفع السيولة المالية لها، تحولت إلى نقمة مالية ممثلة في الدين المتراكم، ثم أداة للتدخل الخارجي وصل من خلاله الهوان إلى وجود مراقبين على وزارة المالية المصرية أحدهما بريطاني والثاني فرنسي، فكانت النتيجة الطبيعية هو التدخل الأجنبي لخلع الخديوي إسماعيل المستنير وتعيين الخديوي توفيق الخانع حاكمًا على مصر.
ثانيًا: وارتباطًا بالوقفة الحزينة السابقة دخل المصريون في مواجهة لتحسين وضعهم التاريخي والمستقبلي على حد سواء من خلال تفعيل الدور الوطني لهم خاصة في الجيش والذي تعمدت القوى الخارجية بموافقة الحكام الفعليين لمحاولة وقف ترقي العنصر المصري ومنعه من تولي الرتب القيادية، فضلاً عن استمرار تحجيم هذا الجيش من حيث العدد وفقًا لاتفاقية لندن والتي سعى الخديوي إسماعيل في مناسبات كثيرة لزيادته رغم مقاومة القوى الدولية، وعند هذا الحد اندلع ما هو معروف بالثورة العرابية التي رفعت الحركة الوطنية إلى أعلى درجاتها منذ 1805م. ولكن التدخل الخارجي خاصة البريطاني كان لكل هذه الحركات بالمرصاد، ورغم بعض النجاح المبدئي لهذه الحركة فإن المؤامرة بين بريطانيا والنظام السياسي القائم في مصر أدت إلى احتلال البلاد بعد معركة «التل الكبير» في عام 1882 والتي وقف فيها أبناء النيل في مواجهة أكبر قوة عسكرية وثبتوا مؤقتًا ولكن بالخبرة والخديعة انتصر الإنجليز في هذه المعركة والتي سنخصص لها مقالاً منفصلاً فيما بعد، وتم نفي القادة المصريين من أمثال أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي الملقب بـ«رب السيف والقلم»، وبهذا تحولت مصر من قوة دولية وإقليمية إلى مستعمرة بريطانية في خسوف سياسي لا يتناسب ومسيرتها التاريخية منذ استقلالها الفعلي، وهنا خيم الحزن على المحروسة مرة أخرى.
ثالثا: لم تكن المرحلة التالية أسعد حالاً بالنسبة للمصريين التواقين للاستقلال، فلقد اندلعت الحركة الوطنية ما بين مصطفي كامل ومحمد فريد ومن بعدهما سعد زغلول إلى أن نالت البلاد الاستقلال النوعي بتصريح 28 فبراير (شباط) 1922 الذي ألغى الحماية البريطانية عن مصر وأعلن استقلالها بعيدًا سالخًا إياها عن الدولة العثمانية، ولكنه أبقى للحكومة البريطانية السيطرة الفعلية على البلاد من خلال النفوذ البريطاني على السلطان أو بالدخول في التحالفات السياسية لضرب الحركة الوطنية ممثلة في حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول ومن بعده مصطفي النحاس فضلاً عن إتلاف قواعد اللعبة الديمقراطية التي نشأت عقب الاستقلال رغم تشدق بريطانيا بالليبرالية، وذلك إضافة إلى الحق في الدفاع عن مصر، وهكذا تهون المبادئ أمام المصالح في السياسة الدولية!
رابعًا: دخلت مصر في أربع حروب متتالية لتحرير فلسطين الأولى في 1948 ثم صمدت أمام العدوان الثلاثي في 1956 ثم تلقت نكسة 1967 فاستعادت الكرامة في حرب 1973. فأربع حروب في أقل من ربع قرن إنما هي المحن متجسدة، فالحروب تضع بثقلها على الشعوب في شتى المناحي تبدأ بالموت وتنتهي بالدمار والخراب، ومع ذلك تحملت مصر وبقت على ما هي عليه لتطوي مراحل حزينة متعددة في تاريخها الحديث بحرب أكتوبر (تشرين الأول) المجيدة.
إزاء كل هذه الوقفات الهامة في تاريخ مصر الحديث والمعاصر أعتقد أن الإجابة عن السؤال المطروح هي أن تاريخ مصر الحديث والمعاصر إنما لديه الكثير من الصفحات والوقفات الحزينة أكثر من السعيدة، ولكن مثل هذه الوقفات الصعبة هي التي تصهر الشعوب وتبني المجتمعات على أسس الوطنية والانتماء، ولعل في هذا ما قد يبرر سبب الفرحة المصرية العارمة بالقناة الجديدة وما تمثله من اشتياق لطي الصفحات الصعبة في تاريخ هذا الشعب من الاستقلال للحروب للثورات، ولعل في افتتاح هذه القناة ما يمثل صدى الزمن ورده على أبيات شعر «رب السيف والقلم» وهو في مثواه الأخير عندما عبر عن آلامه وآلام شعب مصر بعد النفي والاحتلال فقال
وهوَّن الخطبَ عندي أنَّني رجل
لاَقٍ مِنَ الدَّهْرِ مَا كُلُّ امرئٍ لاَقِي
يا قَلبُ صَبرًا جَميلاً، إنَّهُ قَدَرٌ
يَجرِي عَلى المَرءُ مِنْ أسرٍ وإطلاقِ
لا بُدَّ لِلضيقِ بَعدَ اليأسِ من فَرَجٍ
وكُلُّ داجِيةٍ يَومًا لإشراقِ