النيوزيلندي جورج نوكو يضع المحيط في قنينة

معرضه دار العالم ووصل إلى مدينة روان الفرنسية

من معرض «تقنين المحيط 2023» للفنان جورج نوكو (متحف روان)
من معرض «تقنين المحيط 2023» للفنان جورج نوكو (متحف روان)
TT

النيوزيلندي جورج نوكو يضع المحيط في قنينة

من معرض «تقنين المحيط 2023» للفنان جورج نوكو (متحف روان)
من معرض «تقنين المحيط 2023» للفنان جورج نوكو (متحف روان)

لا يدري زائر معرض جورج نوكو أين يدير وجهه. هل يتأمل العمل الفني العجيب المتوهج في القاعة أم يتفرج على الرسام الفيلسوف الذي جعل من جسده لوحة من الأوشام؟ نقوش تحمل رموزاً تخص قبائل الماوري الذين ينتمي إليهم من جهة والدته. والماوري هم السكان الأصليون لنيوزيلندا، حيث ولد قبل ستين عاماً. أما من جهة والده فإنه يحمل دماء ألمانية وأسكتلندية. هذا الخليط سمح له بأن يستقي أعماله من ثقافات متعددة. ولعل هذا هو السبب في وصف النقاد له بأنه رجل التناقضات. وهي ليست تهمة بل يراها ميزة سمحت له بالوقوف على مشارف عوالم متعاكسة، صاغت شخصيته التي هو عليها اليوم.
في مدينة روان الفرنسية، عاصمة مقاطعة النورماندي، يقيم جورج نوكو معرضه الجديد الذي يستمر حتى الخريف المقبل. وقد اختار للمعرض تسمية تشبهه في الغرابة: «تقنين المحيط 2023». إن المعنى لا يتعلق بالقوانين بل بالقناني. وهو دعوة للغطس في أعماق محيط مستقبليّ غير موجود سوى في مخيلة صاحبه. ولعل من الصعب إدراج العمل في خانة معينة من الأنواع التعبيرية لأنه يجمع ما بين النحت والتجهيز وفنون الضوء الكهربائي. عمل باهر يتغذى على البلاستيك. يخلق حيوانات رائعة مصحوبة بلوحات جدارية استلهمها الفنان من أساطير طفولته وسط السكان الأصليين للقارة النائية. جزيرة محاطة بمياه محيط تهدده، مثل كل بحار العالم، أخطار التلوث بنفايات البلاستيك.

الفنان جورج نوكو أحد الوجوه البارزة في المشهد الفني لقبائل الماوري (صفحة الفنان على تويتر)

يلفت جورج نوكو النظر بالوشم الذي يغطي وجهه وأطرافه ورقبته ويعطيه طابعاً من الخشونة وربما القسوة. لذلك فإن زائر المعرض يفاجأ عنما يسمع الفنان يتحدث بصوت هادئ وبكلام بالغ العذوبة. نعرف من الدليل أنه ولد عام 1964 في قرية أوماهو في نيوزيلندا ونشأ على ساحل جزيرة الشمال. وهو من قبيلة «نغاتي كاهونغونو». درس الفن وعلم الاجتماع في جامعة ماسي وتعمق في ثقافة السكان الأصليين قبل أن يتفرغ للعمل التشكيلي.
من نيوزيلندا انتقل نوكو، أواسط الثمانينات، إلى أوروبا ثم الولايات المتحدة وبلدان آسيا. وأخيراً استقر في فرنسا وأصبح، خلال السنوات العشرين الأخيرة، واحداً من الوجوه البارزة في المشهد الفني لقبائل الماوري. دخلت أعماله متاحف في نيويورك ولندن وكامبردج وأدنبرة وباريس وليدن وشتوتغارت وتايوان وفانكوفر وكانبيرا. وكان له حضور مهم في جناح نيوزيلندا ببينالي البندقية عام 2009.
«تقنين المحيط 2023»، عمله المعروض حالياً في متحف التاريخ الطبيعي في روان، تنقل قبل ذلك في أكثر من بلد ومدينة. وهو تركيب يشتمل على العديد من الهياكل الزجاجية التي تعيد تفسير الرسوم والطباعة الحجرية في القرن التاسع عشر. إن الهدف هو تقديم التحية لتلك النقوش والوحوش الأسطورية الموروثة من الثقافات القديمة ومنحها بعداً جديداً في عالم معاصر يعيش حالة اضطراب كامل. ولا يكتفي جورج نوكو بما أنجزته مخيلته ويداه، بل يدعو الجمهور إلى إكمال وحوشه الرائعة بمخلوقاتهم الخاصة. وهي ليست دعوة لفظية فحسب بل هناك ورشات مرافقة للمعرض، ومواد بلاستيكية ونباتية مختلفة موضوعة في متناول الزائرين، كباراً وأطفالاً، لتشكيلها وفق رؤية كل منهم.
هناك بُعد بيئي في أعمال جورج نوكو. وهو يعترف بأنه يبحث عن الجمال حتى في نفايات البلاستيك، تلك التي تلوث محيطنا. إنها نفايات لا بد من احترامها لأنها من أقدم العناصر في الطبيعة ومصنوعة من مكونات البترول، المادة المتجمعة تحت طبقات الأرض خلال عشرات الملايين من السنين، قبل أن يكتشفها الإنسان.
ينتشل الفنان تلك النفايات ويشتغل عليها، أو «يحنو عليها» حسب تعبيره، لتحويلها إلى منحوتات ذات قيمة. وهو يردد في كل أحاديثه فكرة أننا محاطون بأناس نحبهم وبأشخاص في محنة أو ضيق، ولا بد من أن نلتفت إليهم ونعتني بهم وأن تمتد يد العناية إلى ما حولنا من أشياء وأشجار في الطبيعة. والفنان يلبس هنا رداء الفيلسوف الذي يدعو إلى ضرورة فتح أعيننا على المجتمع الاستهلاكي والمبادرة للتصرف من أجل نفايات أقل، مثل تلك التي تنتهي في البحار.



هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
TT

هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)

تواجه فرنسا في الوقت الراهن تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، تتمثل في ارتفاع معدلات الدين العام وتزايد عدم الاستقرار السياسي، مما يهدد استقرارها الداخلي ويثير القلق بشأن انعكاسات هذه الأوضاع على منطقة اليورو بشكل عام. تأتي هذه الأزمات في وقت بالغ الأهمية، حيث يمر الاتحاد الأوروبي بفترة تحول حاسمة بعد تبعات الأزمة المالية العالمية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول قدرة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الاقتصادية المقبلة. في خضم هذه التطورات، تظل فرنسا محط الأنظار، إذ يتعرض نظامها السياسي للشلل بينما يتصاعد العجز المالي. فهل ستتمكن باريس من تجنب مصير الدول التي شهدت أزمات مالية مدمرة؟ وما الدروس التي يمكن لفرنسا الاستفادة منها لضمان استدامة الاستقرار الاقتصادي في المستقبل؟

تتجاوز ديون فرنسا اليوم 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة اقتراضها مؤخراً مستويات تفوق تلك التي سجلتها اليونان. ويوم الجمعة، توقعت «موديز» أن تكون المالية العامة لفرنسا أضعف بشكل ملموس خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بالسيناريو الأساسي الذي وضعته في أكتوبر (تشرين الأول) 2024. هذه المعطيات أثارت مخاوف متزايدة من أن تكون هذه الأوضاع الشرارة التي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في منطقة اليورو. ومع ذلك، عند مقارنة حالة الاتحاد الأوروبي في ذروة الأزمة المالية العالمية، حين كان يواجه خطر التفكك الكامل، مع الوضع الراهن، تتضح الفروق الجوهرية، حيث يظهر الوضع الحالي قدرة الاتحاد على الصمود بشكل أكبر بكثير، مما يعكس قوة أكثر استقراراً وصلابة في مواجهة التحديات الاقتصادية، وفق «رويترز».

وبعد انهيار حكومتها الهشة في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، توجد فرنسا حالياً في دائرة الضوء. فقد أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في يوليو (تموز) إلى انقسام الجمعية الوطنية، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد. وفي مسعى لتشكيل حكومة قادرة على استعادة الاستقرار، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي المخضرم ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء بعد الانتخابات، على أمل بناء إدارة مستدامة. لكن التوترات بين الحكومة والبرلمان اندلعت عندما دعا بارنييه إلى خفض الموازنة للحد من العجز المتوقع، والذي قد يصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد أدى هذا إلى تجمع أعضاء البرلمان من مختلف الأطياف السياسية لرفض الموازنة، وكان التصويت بحجب الثقة الذي أدى إلى إقالة بارنييه هو الأول من نوعه منذ عام 1962.

وأثناء تطور هذه الأحداث، ارتفعت عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات بشكل مؤقت إلى مستويات أعلى من نظيرتها اليونانية، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تصبح «اليونان الجديدة». ومع ذلك، إذا تم النظر إلى ما حدث في اليونان في عام 2012، عندما وصلت عوائد سنداتها لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 35 في المائة، يلاحظ أن الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. ففي الوقت الراهن، تقل عوائد السندات اليونانية عن 3 في المائة، مما يعني أن العوائد الفرنسية قد ارتفعت بأقل من 60 نقطة أساس خلال العام الماضي لتصل إلى مستويات مماثلة.

ومن خلال تحليل التغييرات في عوائد السندات في منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة، يتضح أن اليونان قد نجحت في تحسين وضعها المالي بشكل ملحوظ، في حين أن فرنسا شهدت تدهوراً طفيفاً نسبياً.

قصة التحول: اليونان

بعد أن اجتاحت الأزمة المالية العالمية أوروبا في أواخر العقد الأول من الألفية، تعرضت اليونان لمحنة مالية شديدة، حيث تكشفت حقيقة الوضع المالي للبلاد، وارتفعت تكاليف ديونها بشكل كبير. وفي إطار استجابة لهذه الأزمة، حصلت اليونان على حزم إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية. ونتيجة لذلك، دخلت اليونان في ركود اقتصادي طويل دام لعقد من الزمن، بينما تعرضت لعدة فترات من عدم الاستقرار السياسي.

لكن الحكومة الحالية التي تنتمي إلى التيار الوسطي - اليميني نجحت في استعادة بعض الاستقرار الاقتصادي، حيث تمكنت من تحقيق فائض أولي في الموازنة، وهو ما مكنها من تقليص عبء الديون الضخم. كما شهد الاقتصاد اليوناني نمواً بنسبة 2 في المائة العام الماضي، وهو ما يعد تحسناً ملموساً.

ورغم أن فرنسا قد تحتاج إلى جرعة من العلاج المالي ذاته، فإنها تبدأ من نقطة انطلاق أقوى بكثير من اليونان. فاقتصاد فرنسا أكثر تطوراً وتنوعاً، ويبلغ حجمه أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني. كما أكدت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال ريتنغ» قبل أسبوعين تصنيف فرنسا الائتماني، مع التوقعات بأن تواصل البلاد جهودها في تقليص العجز في الموازنة. وأشارت الوكالة إلى أن «فرنسا تظل اقتصاداً متوازناً، منفتحاً، غنياً، ومتنوعاً، مع تجمع محلي عميق من المدخرات الخاصة»، وهو ما يعزز موقفها المالي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنه حتى في حال قرر المستثمرون الدوليون سحب أموالهم - وهو ما لا يوجد أي مؤشر على حدوثه - فإن فرنسا تملك إمداداً كبيراً من الأموال المحلية، يُمكِّنها من سد الفجوة المالية المتزايدة.

فعل كل ما يلزم

على الرغم من أن منطقة اليورو لا تزال تشهد تطوراً غير مكتمل، فإنه من المهم الإشارة إلى كيفية تعزيز النظام المصرفي في المنطقة منذ الأزمة المالية العالمية. كما ينبغي تذكر كيف أثبت البنك المركزي الأوروبي مراراً استعداده وقدرته على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الأزمات المالية في المنطقة. إلا أن ذلك لا يعني أن صانعي السياسات في باريس أو العواصم الأوروبية الأخرى يشعرون بتفاؤل مطلق بشأن التوقعات الاقتصادية للاتحاد.

ففي العديد من الجوانب، تبدو التحديات الاقتصادية التي تواجه فرنسا أقل حدة، مقارنة بتلك التي تواجهها ألمانيا، التي تعرضت حكومتها هي الأخرى لهزة قوية مؤخراً. ويعاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من تداعيات سنوات طويلة من نقص الاستثمارات، حيث يواجه قطاعها الصناعي القوي سابقاً صعوبات حقيقية في التعافي. كما أن منطقة اليورو، التي شهدت تباطؤاً ملحوظاً في نمو إنتاجيتها، مقارنة بالولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، تواجه الآن تهديدات كبيرة بسبب الرسوم الجمركية التي قد تفرضها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب.

لكن هذه التهديدات التجارية قد تكون هي التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خطوة كبيرة أخرى في تطوره الاقتصادي. فالتاريخ يثبت أن الاتحاد يتخذ خطوات حاسمة عندما يُدفع إلى الزاوية. وفي وقت سابق، قدم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، خطة لإصلاحات اقتصادية طال انتظارها، داعياً إلى استثمار إضافي قدره 800 مليار يورو سنوياً من قبل الاتحاد الأوروبي.

وقد لاقت هذه الخطة دعماً واسعاً من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، حتى أن رئيس البنك المركزي الألماني، المعروف بتوجهاته المتشددة، دعا إلى تخفيف القيود على الإنفاق في ألمانيا. وإذا أسفرت الانتخابات في ألمانيا وفرنسا عن حكومات أقوى العام المقبل، فقد يُتذكر عام 2025 ليس بوصفه بداية لأزمة جديدة في منطقة اليورو، بل بوصفه عاماً شهدت فيه المنطقة اتخاذ خطوة كبيرة نحو تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.