إذا كانت طبيعة الإنسان تثير السؤال الصعب عن كينونته وماهيته، فإن مسيرته على الأرض تطرح السؤال الأصعب حول مآله ومصيره، حيث يتداخل مفهوم «الشرط الإنساني» مع مفهوم «القدر الإلهي» دون أن يتماهى هذا مع ذاك أو يذوب فيه. إن شخصاً عاش في هذا العالم سلفاً أو لا يزال، لا بد أنه قد صادف أو لا يزال يصادف ملابسات حياة تختلف كثيراً أو قليلاً، سلباً أو إيجاباً، عن الآخرين السابقين عليه أو التالين له، البعيدين عنه أو المحيطين به. ترى الثقافات التقليدية في كل تلك الملابسات معطيات لا فكاك منها، يرثها عن الآباء والأجداد، وينسبها المتدينون خاصة إلى القضاء والقدر؛ أي إلى الخطة الإلهية للوجود البشري. أما الثقافة الحديثة فلا ترى فيها قدراً حتمياً أو قيداً نهائياً، بل مجرد نقطة انطلاق، شرط تاريخي للوجود الإنساني يمكن تحسينه عبر الترقي الأخلاقي والكفاح المعرفي.
قطعاً، نحن لا نختار اللحظة الزمنية التي تبدأ منها حياتنا، فقد جئنا إلى عالمنا بإرادة فائقة تسمو على رغباتنا، وتشكَّل وجودنا من معطيات أساسية ورثنا أغلبها كطبيعة أجسادنا طولاً أو قصراً، قوة أو ضعفاً، ولون بشرتنا سواداً أو بياضاً، وأيضاً أصولنا الاجتماعية راقية أو عادية، ومستوياتنا المادية ثراءً أو فقراً، وجميعها خطوط عريضة تشي بالملامح الأولية لوجوهنا. غير أن تلك الملامح ليست إلا مادة وجودنا البدئي، أما صورة وجودنا الفعلي فتبقى رهن قدرتنا على التعاطي مع معطياته الأساسية، بوصفها أنساقاً للفعل ومجالات للحركة، فقد تزهو صورنا وتزدهر مغامرتنا الحياتية بالقدرة على التطور والترقي عبر التعلم والتحرر، كما تذهب الرؤية التنويرية المتفائلة للطبيعة الإنسانية، التي تعتقد في قابلية الإنسان للكمال، حسب جان جاك روسو، إذ يكفي الرجل البسيط شرفاً أن يُعلِّم أولاده ويربيهم ليكونوا أفضل حالاً منه، ولو بدرجة واحدة على السلم الطويل، ثم يأتي أولادهم أفضل منهم بدرجة أخرى، وهكذا يتحرك النوع الإنساني على طريق الكمال رغم عمق الآلام التي يواجهها أفراده. وفي المقابل قد تبهت صورنا إذا ما افتقدنا الحذق في رسم معالمها، وتفشل مغامرتنا الحياتية إذا أهملنا دواعي نجاحها ووسائل تطويرها، فلا توجد نقطة معينة يبلغها الإنسان يستطيع التوقف عندها ويقول إنه قد أنهى مهمته سوى لحظة موته، فالوضع الإنساني يتأرجح على الدوام بين صعود وهبوط، لا يقبل الجمود، حيث السكون في سياق الوجود ليس إلا حركة بطيئة نحو الموت.
يمكننا الحديث هنا عن محددات حضارية للشرط الإنساني، تختلف بين دولة متقدمة وحرة، وأخرى متخلفة ومستبدّة. فلو تصورنا شاباً ذكياً وطموحاً وُلد في إحدى الدول التي تعاني الاستبداد والطائفية، فلن يتجاوز حلمه أن يكون طبيباً أو قاضياً... أو غير ذلك من مهن الطبقة الوسطى. أما إذا وُلد بنفس السمات الشخصية، في مجتمع حر يتسم بالتعددية والديناميكية كالمجتمعات الغربية، فالأغلب أن تتفتح أبواب حلمه على أعلى مواقع الحكم والسلطة، على منوال الرئيس الأميركي الأسبق، ذي الأصول الأفريقية باراك أوباما، مما يعني أن ثمة قدرة على تعديل الشرط الإنساني بالكفاح والصبر، دون القدرة على كسره والخروج من فلكه كلية. كما يمكن الحديث عن محددات اجتماعية ـ اقتصادية للشرط نفسه، فثمة وضع إيجابي يتمتع الإنسان في سياقه بركائز قوة كالثروة والسلطة والنفوذ، وأيضاً ببيئة حياة راقية ومنظمة، نتيجة وضعه الطبقي المتميز أو ثراء عائلته الموروث.
وفي المقابل ثمة وضع سلبي يجابه الإنسان بمعوقات كالفقر والبطالة والمرض، أو بيئة حياة قاهرة نتيجة وضعه الطبقي المتدني. بل إن ثمة تمايزاً بين الأفراد داخل الوضع الطبقي نفسه، يمكن ردّه إلى القدر الشخصي، فجمال الأنثى الفائق قد يمنحها، عبر الزواج، فرصاً واعدة للحياة خارج سياقها الاجتماعي الضاغط، على العكس من نظيراتها اللائي يفتقدن ميزاتها.
يشعر الإنسان في ظل الوضع الإيجابي بالقدرة الفائقة على تحقيق الذات والسيطرة على المصير، كما يشعر مع الوضع السلبي بالعجز والضياع إزاء محدودية الفرص وصعوبة الاختيارات، لكن يبقى الأمل معقوداً على المرونة التي يتمتع بها الشرط الإنساني. لقد وُلد كثيرون وترعرعوا في ظل ملابسات مواتية، لكنهم فقدوا مكانتهم تدريجياً بفعل الإهمال والعبث وضعف الهمة، والعجز عن تنمية ما ورثوه من ثروة مالية وسلطة سياسية، أو حتى صيانته. ففي السياسة قد يفقد الملوك عروشهم الموروثة، والرؤساء مقاعدهم المكتسبة، تحت ضغط فشلهم البيّن أو استبدادهم الخشِن أو ظلمهم الفاقع. وفي عالم المال يفقد الكثيرون ثرواتهم الموروثة ومؤسساتهم الاقتصادية الناجحة بفعل جهل البادي، أو نزقهم البالغ، وميلهم إلى التمتع بالرذائل، وما يصاحب ذلك من لا مبالاة أخلاقية وغطرسة إنسانية. مثل ذلك الفشل غالباً ما يحدث في مجالات أخرى لأناس لم يرثوا ملابسات حياتهم الرغدة، بل اكتسبوها بفعل مواهبهم واجتهادهم في بداية حياتهم، لكنهم سرعان ما فقدوها بفعل الزلل والغرور. يحدث هذا في الفن عندما يفقد النجوم بريقهم لأنهم لم يحترموا مواهبهم، ولم يقدّروا محبة جماهيرهم، فسلكوا في الحياة طريق العبث أو المجون، لينتهي بهم الأمر في سجون مظلمة أو فقر مدقع يعجزون معه عن علاج أنفسهم وتأمين حوائجهم في شيبتهم. وعلى المنوال نفسه ثمة لاعبو الكرة وعارضات الأزياء وغيرهم من أرباب المهن البراقة التي سرعان ما يحقق أصحابها قدراً كبيراً من الثروة والشهرة قبل أن يعودوا ويفقدوه، لتتوارى أسماؤهم وينطفئ بريقهم مبكراً، ربما لأن بنيتهم النفسية لم تكن من المتانة بحيث تتحمل صدمة الصعود السريع، أو لأن ثقافتهم الشخصية لم تكن بمستوى مواهبهم الفطرية... إلخ.
أما الأمر الأهم هنا فهو أن الشرط الإنساني ليس بسيطاً أو مسطحاً، تصوغه فقط ركائز القوة المادية القابلة للقياس: الثروة والسلطة والنفوذ، بل ينطوي على موارد معنوية تجعله أكثر عمقاً وتوازناً، تتمثل في الأبعاد الروحية والأخلاقية والمعرفية والجمالية للحياة، كالإيمان الديني، والحب الرومانسي، والحكمة الفطرية، والحس الفني. فبينما تلبي الركائز المادية غريزة الطموح البشري إلى ما هو أقوى، فإن الموارد المعنوية تلبي ملَكة التسامي الإنساني إلى ما هو أرقى. ورغم أن أغلب اللذات التي يسعد بها البشر ترتبط بالحواس والغرائز؛ أي الماديات كالمأكل والمشرب والملبس والجنس، فإن بعض اللذات تبقى قرينة للمعنويات كالشعور بالرضا الإلهي من لدن شخص مؤمن، لا بد أن يزيد الإيمان من قدرته على تقبل وضعه الحياتي، وعلى التصالح مع عالمه. وأيضاً الشعور بالكرامة الشخصية وتقدير الذات الناجم عن الاتساق الأخلاقي لدى إنسان يمارس عمله بكفاءة وإخلاص وتفانٍ. أو الشعور بمحبة الآخرين، الذي قد يتوفر لشخص لا يملك من موارد القوة والثروة قدر ما يملك من ملَكات التواصل العاطفي والتكيف الاجتماعي، خصوصاً عاطفة الحب الرومانسي، التي تظل شعوراً استثنائياً وقدراً سعيداً لا يمكن شراؤه بمال أو مقايضته بسلطة.
وربما كان الوضع البشري الأمثل هو ذلك الذي يجمع فيه الإنسان بين الموارد المادية ونظيرتها المعنوية، بين ركائز القوة وملَكات التسامي، بين وضع اجتماعي مميز يساعده على الفعل والتأثير، وبين بصيرة تدرك أن سعادته رهن قدرته على تلمس معنى الوجود الخالد وليس على الاستمتاع بملابسات وجود متغيرة. فإذا ما عجز الإنسان عن الجمع بينهما، بفعل ذبول ساحق في شروط وجوده البدئي، أو عادية قدراته الشخصية أو حتى لضعف همته، فربما وجد في الموارد المعنوية ما يمنحه السكينة واليقين والأمل. أما إذا غابت عنه الموارد المعنوية أيضاً فلا شك في أن يصبح ألمه الوجودي أكثر عمقاً، وقلقه على المصير أكثر حدة.
* باحث مصري
عن «الشرط الإنساني»... وسؤال المصير
عن «الشرط الإنساني»... وسؤال المصير
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة