هناك مَن اعترض على قناة «إم بي سي» يوم أن أعلنت أن ستبث مسلساً تلفزيونياً في شهر رمضان عن حياة الملك العربي العظيم معاوية بن أبي سفيان والخلاف الذي نشأ بين المسلمين في القرن الأول الهجري. حجة من يرفضون هذا العمل الفني، أنه سيبعث الفتنة من جديد، مع أن الخلاف بين السنة والشيعة خلاف سياسي وليس دينياً على الحقيقة، والخلاف السياسي يمكن حله بالنقاش والتفاوض، لا بالتجاهل. معاوية لم يكن مَلك السنة فقط، بل كان مَلك السنة والشيعة في زمانه، أي من يعيشون في مملكته التي اتسعت كثيراً بعد توليه الحكم. كان الرمز للحكم الإسلامي/الدنيوي منذ سنة 40هـ إلى يومنا هذا، فعندما تقرر أن الواجب هو أن يسقط معاوية من الذاكرة فإنك بذلك ترفض كل الأنظمة العربية المَلكية كذلك. لا يمكن أن ترفض حكم معاوية وتقبل بالملكيات، ولا يمكنك أيضاً أن ترفض معاوية دون أن ترفض حكم علي بن أبي طالب لأنه مَلكيّ هو الآخر وهو مَن ورّث الملك لابنه الحسن، سابقاً معاوية في التوريث. الإسلام لا ينطوي على نظام حكم سياسي محدد، بل الحكم أمر من أمور الدنيا التي تُركت للناس، وقد مارس المسلمون كل أنواع المُلك؛ الوراثي والشوري وحكم النخبة والمستبد العادل، وبالتالي لم يأتِ معاوية بشيء من عنده. وهذا ينطبق تماماً على قضية النظام الاقتصادي المحدد، غير الموجود أصلاً في الإسلام.
لا أرى أي موجب للمخاوف من أن هذا العمل الفني سيُشعل جذوة الطائفية أو أنه سيبعث الكراهية من جديد، فالكراهية غائبة تماماً عن الدنيويين المتحضرين من الطرفين، وحاضرة لا تغيب عن صدور الدينيين. وحتى بالنسبة إلى الدينيين، سيكون من الحسن أن يعرف جميع الأطراف، كيف وقعت القصة ولِمَ وقعت؟ الحديث عن أسباب الاختلاف سيؤدي إلى تخفيف حدة الخلاف، لأنك ستفهم من أين ينطلق الآخر، ومن الضروري أن يعرف كل طرف أسباب ودوافع الآخر، لا على الطريقة القديمة الساذجة التي تقسم البشر إلى أشرار وأخيار، ثم يزعم كل طرف أنهم الأخيار وأن خصومهم الأشرار، ثم يبقى الجميع في جزر معزولة كلما دخلت أمة لعنت أختها. العزلة مضللة حتى لأحسن الناس تعليماً، فالأميركيون أيام الحرب الباردة الأولى كانوا يتخيلون الروس وحوشاً أو شبه وحوش.
من جهة المصادر التاريخية التي روت لنا قصة الفتنة، قد يَحسُن أن أكشف حقيقة أنها واحدة عند السنة والشيعة، فالسنة كالشيعة اعتمدوا على روايات الكوفيين، إذ لم يكن أحد في القرن الأول يريد أن يتحدث عمّا جرى بين الصحابة إلا قلة قليلة من غير الكوفيين، ولذلك أصبحت الرواية الكوفية هي السائدة، وكل ما ترسخ في أذهان الناس فهو في الغالب كوفيّ، باستثناءات قليلة. الكوفيون لهم دور كبير في توسيع دائرة المرويات التي اشتهرت وتضخمت عند أهل الحديث، كأن معظم الحديث صناعة عراقية. وما أكثر الذين غرقوا في أَسْر الرواية الكوفية، ومن ضمنهم اثنان من أكابر المثقفين العرب في القرن العشرين: طه حسين وعباس العقاد، وإن كان الأول أخفّ إيغالاً.
يقال إن لأهل الشام رأياً آخر، لكنك تبحث عنه فلا تجده في القرنين الأول والثاني. لو بقي لنا شيء من نصوصهم لربما استطعنا أن نضرب الرأي بالرأي النقيض لنخرج بمركّب، لكن النقيض يكاد يكون معدوماً في القرون الأولى.
يقال إن إمام أهل الحديث أبا إسحاق الجوزجاني (الذي عاش في القرن الثالث) كان ناصبياً قاسياً على الكوفيين ولا يقبل لهم حديثاً، ورغم كونه تلميذاً لأحمد بن حنبل فإنه كان صاحب رأي غريب عن محيطه، كان منحرفاً عن عليٍّ ولا يحبه. اجتمع على بابه أصحاب الحديث، فأخرجت جارية له فرّوجة لتذبحها فلم تجد من يذبحها، فقال: «سبحان اللّه! فرّوجة لا يوجد من يذبحها وعليٌّ يذبح في ضحوة نيّفاً وعشرين ألف مسلم». الجوزجاني فيما يبدو هنا يمثّل رأي أهل الشام الذين كانوا مع معاوية ممن اختفت مقولاتهم، لأن التدوين في الإسلام لم يبدأ إلا في عصر العباسيين، ولا تكاد تجد شيئاً بقي من زمن الأمويين. ربما أنه قد وُجد، لكن يبدو أن العباسيين قد محوا كل تلك الآثار، لأنهم كانوا يرون أن الشيعة هم مادة دولتهم، ولذلك شجعوا الرواية الكوفية واكتفوا بقطف رؤوس آل البيت المعارضين لها، وبعضهم كان يدّعي التشيع.
النصب مذهب لم يعد موجوداً على الحقيقة، إذ لا يوجد من يصرّح بعداوة عليٍّ كما كان هذا الشيخ من علماء الحديث، تلميذ ابن حنبل. هناك من يتهم ابن حزم وابن تيمية وابن كثير بأن فيهم نصباً. ربما أن ابن حزم يحب بني أمية لعلاقته بهم فهو مولاهم ووزيرهم، أما ابن تيمية فلم يعش في كنف أحد غير المماليك، أي إنه لا يملك ولاء أموياً أصيلاً سوى ما بقي من إرث شاميّ في أيامه. ربما لديه تحفُّظ على الروايات الكوفية، فقد رفض عدداً من الأحاديث التي يقال إنها قيلت في عليٍّ من مثل حديث «رد الشمس لعليّ»، وحديث «من أحبّ عليّاً فقد أحبّني ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني»، وحديث «أنت وليُّ كل مؤمن بعدي»، وحديث «سد الأبواب كلها إلا باب عليّ»، وحديث «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»، وحديث «أقضاكم عليّ»، وغيرها كثير، كل هذه الأحاديث حكم عليها ابن تيمية بأنها كذب، وقرر أن عليّاً إنما قاتل الناس على طاعته، لا على طاعة الله. ووصفه بوصف أشد جرأة فقال إنه كان مخذولاً حيثما توجَّه، وإنه حاول الخلافة مراراً فلم ينلْها، وإنه إنما قاتل للرئاسة لا للديانة، وإنه لم يقاتل الكفار ولا فتح الأمصار وإنما رفع السيف بين أهل القِبلة. لا شك أن هذا موقف خصم.
لكن، ثمة فجوات في القصة: لماذا تُرك عثمان ليواجه الموت لوحده؟ أين الصحابة الذين كانوا كثرة في المدينة ولِم لَم يحموه؟ لماذا انتصرت دولة معاوية وانتهت دولة علي بن أبي طالب للأبد مع ما اشتهر به من شجاعة هي محطّ إعجاب الناس ورغم كونه ابن عم النبي وزوج ابنته؟
لكي نمارس التحليل السياسي لهذه المعضلة التاريخية، ينبغي أن نبدأ بداية صحيحة. هناك معلومة موجودة في كل كتب السير، لكن يغفل عنها كثيرون، مع أنها مفتاح كل القصة وحل اللغز، من وجهة نظري. تذكر كتب السير أن بني أمية من بين كل بيوت قريش، كانوا منذ البداية هم أهل راية الحرب، بمعنى أن هذه الأسرة هي من يملك السلطة السياسية قبل النبوة، وهم من يقرر حالتَي الحرب والسِّلم مع المدن والقبائل المجاورة. بينما كان الهاشميون أهل السقاية، سقاية الحجيج، أي إنهم مَن يملك السلطة الدينية. هذا يعني أن معاوية أتى من بيت سياسي، بيت يعرف كيف يدير شؤون الحكم والناس، بينما أتى عليٌّ من بيت ديني، بمعنى أن عليّاً كان أكثر تديناً، وبمعنى أن معاوية كان الأقرب للانتصار السياسي، بل الطبيعي أن ينتصر رجل السياسة.
السياسي الحقيقي يدرك أهمية الدنيا، يدرك أهمية «الشعرة» التي تكون بين الحاكم والمحكومين، يدرك أهمية الكرم وبذل المال في كسب الشعب، ولذلك قال عقيل بن أبي طالب، أخو عليّ: «الصلاة خلف عليّ أرجى والطعام على مائدة معاوية أطيب». معاوية أكرم الناس بينما حملهم عليٌّ على الزهد في الدنيا والقتال المستمر، ولذلك شكا من أن أهل العراق لا يطيعونه كطاعة أهل الشام لمعاوية. كان معاوية واعياً لأهمية الحلفاء والقيادات التي سيوليها على الأمصار، لذلك ولّى عمرو بن العاص على مصر والمغيرة بن شعبة على الكوفة لأنه يعرف قيمة هؤلاء الدهاة. بينما ولّى عليٌّ أبا موسى الأشعري (رجل متدين آخر)، ما إن اندلعت الحرب حتى أعلن الحياد ورفض الحرب بين المسلمين. هناك من يقول إن أبا موسى خذل عليّاً، وقد يكون هذا صحيحاً، لكن لا بد أن يسألوا أولاً: مَن ولّاه ومَن جعله المتحدث الرسمي باسمه؟! ثمة غفلة عن اختيار القيادات والكفاءات.
في كل عام يصبّ الصفويون لعناتهم على معاوية بن أبي سفيان وعلى بني أميّة، ويعدّونهم كفاراً قفزوا على السلطة من دون استحقاق، فهم لا يملكون «حقاً إلهياً» كالذي يدّعيه خصومهم. مع أن كل عاقل يعرف أن نظرية «الحق الإلهي» في الحكم، مِن أفسد نظريات الحُكم وأكثرها رجعية، نظرياً وعملياً، لأنه ليس هناك أدنى نسب يربط بين الله وهؤلاء الناس، وأفسد منها مَن وسَّع الدائرة قليلاً فجعل الإمامة في قريش وأن النار مصير من نازعهم في الأمر، مع أن هذا كله مجرد أكاذيب. القيادة للأصلح القادر على التطور ومراعاة الظرف الراهن.
دولة بني أمية الأولى التي قامت في المشرق سنة 662 ميلادية وإن سقطت سنة 750، لكنها عادت، وأقام أحفاد أمية دولة أخرى في المغرب الإسلامي، حيث الأندلس في سنة 929 وبنوا هناك حضارة عالمية من أعظم الحضارات التاريخية، ازدهرت فيها العلوم والفنون والفلسفة ونظام الحياة من دون أدنى ادعاء في «حق إلهي»، السبب في نجاح تلك الدولة هو دنيويتها. كانت دولة الرفاهية منذ أيام الخليفة الراشد الأموي عثمان بن عفان، وقد كان الأمويون يُكرمون شعوبهم غاية الإكرام ويعلمون أن من لا يُقدّم الحزم والكرم لا يمكن أن يحكم العرب. لقد أحبهم الناس في ذلك الزمان، وعندما خرج عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس فارّاً بحياته، لم يكن غريباً أن الأعداد التي خرجت معه لا تقارَن كثرةً بأعداد الذي خرجوا للموت في كربلاء مع الحسين. لقد خرجت أعداد غفيرة من العرب مع الأمويين إلى الأندلس ودخل كثير من البربر والشعوب الأخرى عن اختيار ومحبة، ومنهم الفيلسوف الوزير الفقيه ابن حزم الأندلسي الذي تمتلئ كتبه بالدفاع عن حكم بني أمية والمنافحة عنهم، فماذا يعني ذلك؟ العرب وغير العرب، يريدون حاكماً يُحسن صناعة الحياة، يستطيع أن يجعلها ممكنة، ولا رغبة لهم بتاتاً فيمن يرى لنفسه حقاً إلهياً في استعباد الناس وفي أن يموتوا من أجله.
معاوية باختصار هو مؤسس الدولة العربية الدنيوية التي لم تغادر حدود الإسلام، ولهذا السبب تحديداً استطاع أن ينتصر. يكافح التشيع الصفوي اليوم للتشويش على أذهان العرب، ففي زمن ليس بالبعيد كانت دولة بني أمية هي الدولة العربية الأولى عند كل القوميين العرب، لكن موقف كثير منهم تغير في العقود الأخيرة وأصبحوا يرون القومي العروبي منحازاً لإيران و«حزب الله» وللكهنوتية المتخلفة. ومن هنا كان من المحمود أن يتدخل الكتّاب والمؤرخون من خلال عمل فني ثري الإنتاج لتصحيح هذه الصورة الخاطئة وإبراز الرأي الآخر، ولا شك أن مسلسل معاوية الذي ستبثه قناة «إم بي سي» في رمضان سيكون له أثر كبير في هذا التصحيح.
* باحث سعودي
رمزية معاوية في الفكر الإسلامي
رمزية معاوية في الفكر الإسلامي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة