«أنطاكيا مدينة جميلة... انتهت، لم تعد موجودة»، هكذا قالت سيدة تركية كانت تبكي قرب منزلها المتضرر جراء الزلزال الذي ضرب المدينة مطلع الأسبوع، وكانت أنطاكيا بين أكبر ضحاياه من بين المناطق العشر التي دمرها الزلزال.
لم تعد أنطاكيا، التي سُكنت باستمرار منذ عام 300 قبل الميلاد، قابلة للحياة الآن. هرب من هرب من سكانها إلى أقارب لهم، أو إلى مخيمات مؤقتة، فيما بقي فيها قلة من السكان الذين ينتظرون خيارات أخرى قد تقدمها لهم السلطات التركية التي يشكو بعض السكان من أنها تباطأت في الاستجابة للزلزل، وهو ما يبرره مسؤول محلي في المدينة بأن اللامركزية في تركيا ساهمت في هذا الارتباك. يقول: «في اليوم الأول كلنا ضربنا الزلزال، وكلنا تضررنا منه بالموت والإصابة والتشريد، وربما احتجنا إلى بعض الوقت لاستيعاب حجم الكارثة. فالمدينة قُلبت عن بكرة أبيها، ولزمنا بعض الوقت للاستجابة المنظمة بعد التواصل مع الحكومة المركزية التي كانت تتعامل مع واحدة من أكبر كوارث القرن». ويضيف للتأكيد على موقفه، أن مسؤولاً كبيراً أبلغه في صباح اليوم التالي للزلزال بأن «العمل المنظم غير ممكن في هذه اللحظة، لكن على كل شخص أن يقوم بما يستطيع أن يفعله، لتدبير أموره، ومن ثم المحيطين به».
الاستجابة البطيئة تحولت في اليوم الثالث لاستجابة كبيرة، حيث وضعت السلطات التركية ثقلاً كبيراً في عمليات الإنقاذ، ودفعت بآلاف المتطوعين والجنود إلى المدينة التي تحولت خلية نحل لا تهدأ.
الدخول إلى المدينة من بابها الشمالي بات عملية صعبة للغاية مع امتداد طوابير الشاحنات وسيارات الإسعاف وسيارات تحمل متطوعين من أتراك وفرق أجنبية عديدة يشارك رجالها في العملية. ووضع الدمار الذي لحق بالبنية التحتية ثقلاً كبيراً على عملية التموين اللوجيسيتة لتغطية احتياجات من بقي من السكان ومن يعمل في رفع الأنقاض.
الدمار في كل مكان عند مدخل المدينة الشمالي، حيث تكثر المصانع، ومعظمها يعتمد مبدأ الهنغارات التي التوى حديدها بشكل غريب، فيما لا تزال النيران مشتعلة في بعضها، حيث ينبعث دخان «لا يبعث على القلق»، كما يقول أحد رجال الإنقاذ، معتبراً أن الهم الأكبر لدى فرق الإنقاذ كان المواد القابلة للاشتعال المخزنة في هذه المصانع، كما قوارير الغاز والأكسجين.
ومع الدخول إلى قلب المدينة، يتبين حجم الكارثة الكبير الذي ضرب وسط أنطاكيا من شمالها إلى جنوبها بمحاذاة نهر العاصي، حيث كان التأثير الأكبر للزلزال، فيما كانت الأضرار أخف على الطرف الغربي، لكن في جميع الأحوال لا يبدو أن ثمة منزلاً واحداً قابل للسكن بأمان في كامل المدينة، كما يقول عضو في فريق إنقاذ صيني كان يعمل فيها.
كانت المباني في داخل هذا «الخط الناري» تتخذ أشكالاً مختلفة، بعضها انهار بالكامل طبقة فوق طبقة، وبعضها مال «يستريح» على مبنى مجاور، ومعظم الأبنية التي بقيت واقفة اختفى منها الطابقان الأرضي والأول. أما الأغرب فكانت أبنية اقتلعت من مكانها ورميت جانباً على منازل مجاورة، وأعمدة أساس كانت مغروسة في الأرض فصارت مرتفعة عالياً.
إلى جانب ضفة النهر، تغيرت معالم الطريق. أماكن ارتفعت وأخرى انخفضت، وتشققات الأرض توحي ببعض أسرار ما جرى في تلك الليلة، ومعاناة أهل المدينة الذين شهدوا فجراً قاسياً. تدمرت في المدينة الكثير من المعالم الأثرية والكنائس القديمة التي تشتهر بها، لكن كنيسة القديس بطرس التاريخية التي تسكن كهفاً في قلب الجبل المجاور نجت من الدمار، مع بعض التشققات التي لا تهدد أسس البناء، كما يقول مسؤولون محليون أتراك، خصوصاً أن المدينة القديمة التي تسكن طرف الجبل لم تشهد حجم الدمار نفسه الذي طال الجانب الآخر من النهر. ومن ضحايا الزلزال أيضاً «جامع المعراج» الذي يعد من المعالم الحديثة في المدينة. كما طال الدمار كنيسة الروم الأرثوذكس الكبرى، كما كنيس اليهود القديم الذي تضرر ولم يسقط، لكن الحاخام الوحيد فيه وزوجته قضيا تحت أنقاض منزلهما.
«اهتزت الأرض بنا كما لم نعتد أبداً... بدأت الأشياء المعلقة تتساقط علينا»، يقول الشاب السوري مهند. ركض إلى غرفة أولاده حملهم وخرج مع زوجته بعد الهزة الأولى. جاره التركي علق في منزله، فالباب لم يفتح. يقول مهند إنه أوصل عائلته إلى الخارج، ثم عاد مع بعض جيرانه لمحاولة إنقاذ العائلة. ولما لم يفتح الباب، كان القرار بنجدتهم من نافذتي المطبخين المتجاورين. مر الابن الأكبر متعلقاً بشرشف رماه إليه جاره، لكن الأب لم يستطع التمسك جيداً بسبب الخوف والاهتزازات المستمرة. سقط الأب من الطابق الثالث. أنقذت بقية العائلة، وأصيب الأب بكسور بالغة، لكنه نجا.
أيمن يمتلك محلاً للحلاقة داخل أنطاكيا، ويسكن في منزل من دورين، يعيش هو في الطابق الأول، وجاره السوري في الطابق الأرضي. مع بدء الزلزال، حاول إيقاظ جاره الثاني في الشقة المقابلة، ولما لم يلق استجابة، قرر القفز من النافذة مع اشتداد الزلزال. قفز ليجد نفسه على الأرض مباشرة، فمنزله سقط بالكامل واختفى الطابق الأرضي. جارهم السوري وزوجته بقيا تحت الأنقاض، وأطفالهما خرجوا أحياء مع بعض الإصابات.
في مقابل قصص التعاون الإنساني، كانت السرقات التي تعرضت لها المدينة موضع شكوى السكان الذين بقوا. تعترف امرأة بأنها وعائلتها أخذوا من المحال المجاورة طعاماً ومعلبات، لكن السرقات الفعلية تمت لاحقاً. تقول إنها شاهدت أشخاصاً يجمعون الهواتف وأجهزة الكومبيوتر... وحتى زجاجات «الشامبو» من المحال المتضررة التي فتح الزلزال أبوابها وجدرانها وتركها عرضة لعمليات السرقة.
ورغم حجم الكارثة، تحاول السلطات المحلية التركية تقدير ما إذا كان ثمة إهمال أو غش وراء سقوط بعض المباني أسرع من غيرها، كحال مجمع «رونيساس رزيدنس» في المدينة، الذي قبضت السلطات على متعهد البناء قبيل مغادرته مطار إسطنبول.
يقول إبراهيم، وهو أحد مقاولي البناء المعروفين في أنطاكيا، إن المدينة بأكملها تحتاج إلى هدم مبانيها وإعادة بنائها وفق أسس حديثة. وهذا الموضوع يكاد يكون الشغل الشاغل للسكان الناجين بعد ذهاب موجة الصدمة الأولى.
أنطاكيا... المدينة الجميلة «لم تعد موجودة»
الزلزال اقتلع الأبنية من جذورها
أنطاكيا... المدينة الجميلة «لم تعد موجودة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة