روسيا لن تصدق مطلقا على قرار لمجلس الأمن بشن ضربة عسكرية ضد دمشق

عسكريان بريطانيان يتحدثان لـ {الشرق الأوسط} عن سوريا والدروس المستفادة من غزو العراق

اللواء البريطاني المتقاعد رودي بورتر (وسط) وتيم كروس (يمين) يتحدثان إلى «الشرق الأوسط» (خاص بـ«الشرق الأوسط» - جيمس حنا)
اللواء البريطاني المتقاعد رودي بورتر (وسط) وتيم كروس (يمين) يتحدثان إلى «الشرق الأوسط» (خاص بـ«الشرق الأوسط» - جيمس حنا)
TT

روسيا لن تصدق مطلقا على قرار لمجلس الأمن بشن ضربة عسكرية ضد دمشق

اللواء البريطاني المتقاعد رودي بورتر (وسط) وتيم كروس (يمين) يتحدثان إلى «الشرق الأوسط» (خاص بـ«الشرق الأوسط» - جيمس حنا)
اللواء البريطاني المتقاعد رودي بورتر (وسط) وتيم كروس (يمين) يتحدثان إلى «الشرق الأوسط» (خاص بـ«الشرق الأوسط» - جيمس حنا)

جاء القرار الذي تبنته الولايات المتحدة بالرد على استخدام الأسلحة الكيماوية من قبل النظام السوري بعد عامين ونصف العام من حرب أهلية وأخرى بالوكالة، أسفرتا عن سقوط 100 ألف قتيل، معظمهم من المدنيين، وكثير منهم من النساء والأطفال. وقد سبق تبني التصنيف نفسه للأسلحة غير القانونية كذريعة لغزو العراق عام 2003 واحتلاله. لكن بعد نحو عشرة أعوام لم يسفر استخدام تلك الأسلحة ضد المدنيين في ضواحي دمشق سوى عن حديث عن «هجمات تكتيكية فورية» ضد منشآت النظام السوري، فيما حافظت قوى إقليمية ودولية عدة على دعم عسكري ولوجيستي وسياسي فعلي لنظام الأسد، بل وعززته. وتعتبر روسيا وإيران وميليشيات حزب الله اللبناني من أبرز الأمثلة على ذلك الدعم وأشهرها.
وفي مواجهة ذلك، زودت دول الخليج العربي المعارضة المسلحة بالدعم، في محاولة منها للعمل كقوة مساندة لـ«حركة المقاومة». بالمقارنة، أظهرت دول غربية كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أكبر قدر من التردد في نشر قوات حفظ سلام. بل تم رفض تسليح الثوار السوريين في محاولة لتجنب تكرار «برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لتسليح المجاهدين» الذي يحمل اسم «عملية الإعصار» في أفغانستان عام 1980. وهذه العملية المخزية التي قامت بها وكالة الاستخبارات المركزية، والتي تعود إلى عقد مضى، زودت المجاهدين بالأسلحة والتدريب، إذ حاولت الولايات المتحدة أن تصبح لها اليد الطولى على الاتحاد السوفياتي.

يعتبر رودي بورتر وتيم كروس، وهما لواءان في الجيش البريطاني تقاعدا مؤخرا، التقتهما «الشرق الأوسط» في مكان خاص، أن هذا التردد والتأجيل أمران محتومان تماما، بالنظر إلى العمليات العسكرية «خلال العقد أو العقدين الماضيين»، والتأثير اللاحق الذي أحدثاه على السياستين الخارجيتين البريطانية والأميركية.
إن الصورة التي رسمها اللواءان اللذان تحدثا باستفاضة خلال المقابلة تعكس وضع مجتمع دولي يعاني من شكوك عميقة، تتزعمه إدارة أميركية يحكمها للأسف، خطاب «الخط الأحمر». يقول بورتر «لقد تسرع البعض كثيرا في قولهم إن أسلحة كيماوية أو أسلحة دمار شامل تعتبر خطا أحمر، من دون معرفة ما قد يفعلونه حيالها إذا ما تم تجاوزها بالفعل». ويؤكد قائلا «لقد تم تجاوز تلك الخطوط الحمراء. لكنني لا أعتقد أن الأميركيين لديهم أي رغبة في أي نوع من التدخل، بالطبع ليس من جانب واحد. وليس لدي تصور كيف سيعالجون الأمر».
لقد جرى التأكيد على الحاجة إلى تحالف دولي و«شرعية» المجتمع الدولي، خلال الدعوة لتوجيه ضربة عسكرية، أما اليوم فقد أخلى التهديد باستخدام القوة المجال للدبلوماسية.
وفي شهادته خلال التحقيق الذي أجري حول حرب العراق عام 2009، وصف تيم كروس الاستعداد لبناء عراق ما بعد صدام - تم التخطيط له على مدى أشهر وأعوام - بأنه «هزيل بشكل محزن». أما خطط شن هجمات ضد النظام السوري فيبدو أن التخطيط لها جرى خلال أيام.
أما الجنرال رودي بورتر فقد حذر من الافتقار إلى صبر استراتيجي حيال توجه ما يحظى بفرصة حقيقية للنجاح.
وتحدث الجنرالان لـ«الشرق الأوسط» عن أسباب حرص الغرب على تجنب أي تورط في سوريا، على الرغم من الاستخدام الأخير لأسلحة كيماوية الذي تسبب في إدانة دولية واسعة وأودى بحياة 1300 شخص، ونقل 3600 شخص إلى المستشفيات للمعالجة، بحسب منظمة «أطباء بلا حدود».
تخرج تيم كروس، الذي تقاعد في عام 2007، في أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في عام 1971، جنبا إلى جنب مع حاكم قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. ولفت نظر من هم أعلى منه مرتبة في كوسوفو، حيث تعامل مع أزمة إنسانية واسعة النطاق، ووجد نفسه «يبني مخيمات لاجئين للمسلمين الألبان في كوسوفو الذين كانوا يلوذون بالفرار من المسيحيين الأرثوذكس والصرب، ويديرها».

العراق عام 2003

يحظى الدور الذي لعبه الجنرال كروس في غزو العراق واحتلاله لاحقا باهتمام خاص، إذ يقدم دروسا قيمة لواقع سوريا ما بعد الحرب. عن ذلك الدور قال الجنرال كروس «لقد شاركت في هيئة التخطيط لما بعد الحرب في واشنطن، والتي أصبحت مكتب المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار، الذي تحول من ثم إلى (سلطة الائتلاف المؤقتة). ذهبت إلى بغداد في أبريل (نيسان)، بعد فترة وجيزة من انتهاء الغزو، وشاركت في جهود ما بعد الحرب المباشرة مع جاي غارنر».
«شاهدت الأمر برمته يتخذ شكلا عشوائيا»، قال كروس معربا عن إحباطه من حقيقة أنه «لم تكن هناك أي خطة بديلة» لعراق ما بعد صدام. وفي أعقاب إقالة جاي غارنر من سلطة الائتلاف المؤقتة - وهو قرار يراه كروس «مخزيا» - أرسلت الإدارة الأميركية بول بريمر، وهو دبلوماسي أميركي، إلى بغداد. وهناك، حسبما يزعم الجنرال، تخلى «الحاكم» عن العمل الذي كان يقوم به هو وجاي غارنر، لإشراك القيادة السياسية الجديدة، قليلة الخبرة، في إدارة العراق.
يقول كروس «مع بريمر جاءت عملية اجتثاث حزب البعث، التي لا أعتقد أنه قام بها بشكل فوري، فقد جلبها معه من واشنطن. وقد تم جعل هذا الأمر قانونا في إطار الأمر رقم 1 الصادر عن سلطة الائتلاف المؤقتة»، الذي حاول مخاطبة «التهديد الذي شكله استمرار شبكات حزب البعث وطاقم العاملين بها في إدارة العراق».
على الرغم من ذلك، فإن الأمر، الذي أدخله بريمر حيز التنفيذ يوم 16 مايو (أيار) عام 2003، حمل في متنه معنى تفكيك الهيكل الكامل للجيش العراقي السابق، وتمت إقالة أعضائه - الذين لديهم معلومات عن التجهيزات العسكرية ومخابئ الأسلحة - من مناصبهم، وحرمانهم من معاشات التقاعد.
يسترجع كروس قائلا إن «إرسال الجيش إلى أرض الوطن كان موقفا ساذجا بشكل ملحوظ». حرفيا، اتصل الناس هاتفيا برفاقهم في الفرق القتالية وقالوا «حسنا، أين بنادق الكلاشنيكوف؟ علينا أن نقف ونبدأ في كسب عيشنا نظرا لأنه ليس ثمة سبيل آخر للبقاء على قيد الحياة». و«كان ثالث ما فعله بريمر هو أنه وحد القيادة السياسية التي أمضى غارنر وقتا طويلا في الحديث إليها - وكنت جزءا من تلك العملية - وقال لهم (نحن لا نسلم لكم السلطة، سوف أدير هذه الدولة خلال العام المقبل، سأكون حاكم العراق، ولن ينتهي بكم الأمر إلى الاعتناء بأمر هذه الدولة)».
وواصل قائلا «كانت هذه بحق لطمة قوية لهم في ما يتعلق بمطامحهم السياسية». وأضاف «حين قال بريمر هذا لم يكن في وضع يسمح له بإدارة المكان. ومن ثم، خلق حالة التمرد، وقضى على أي نوع من الظهور الداخلي لنظام ديمقراطي - مع الضعف الذي يحتمل أن يكون عليه. ومن ثم كنت منتقدا له طوال الوقت، وما زلت كذلك. لكن، بالعودة إلى نقطتي السابقة، لم تكن هناك (خطة بديلة)، يحاول الناس إعدادها بشكل مستمر.. كانت مجرد وسيلة غير مجدية للقيام بالأشياء».
ويؤكد الجنرالان بورتر وكروس على أن هذه القرارات بالذات هي التي أتاحت تشكيل ميليشيات متعددة وبداية حالة تمرد ضخمة، وألقت بظلالها على العراق حتى اليوم. وهي تشير إلى أن الدرس الأساسي المستفاد، بالنسبة للدول التي تمر بمرحلة انتقالية - مصر وليبيا واليمن، وربما سوريا - هو تضمين كل عناصر المجتمع. وبصرف النظر عن مدى الصعوبة التي ربما يبدو عليها هذا، فإنه يشمل «عناصر النظام السابق». وأوضح الجنرال بورتر كيف كان ممكنا عام 2008 استغلال المسؤولين العسكريين العراقيين السابقين بشكل جيد بحق.

المصالحة

يتحدث اللواء رودي بورتر كيف أنه في عام 2008، خلال ذروة أحداث العنف تلك «عمل لحساب القائد العام والسفير الأميركي - الجنرال راي أوديرنو والسفير ريان كروكر - في إدارة خلية عسكرية - مدنية أميركية بريطانية صغيرة، كانت تسعى بفعالية للمصالحة بين ميليشيات الشيعة والسنة».
ويشرح الصعوبات الشخصية بالنسبة لهؤلاء المعنيين بالمصالحة الوطنية في أي نزاع، مستشهدا بتجربته مع اتفاقية «الجمعة العظيمة» - إطار سياسي لتحقيق السلام في شمال آيرلندا «كنا سنشجع على مشاركة قسم من السلطة مع أناس أدركنا أنهم قتلوا أطفالنا وجنودنا. في تلك المرحلة لم يكن بمقدوري هضم ذلك - على المستويين الشخصي والخاص - كمبادرة تحمل أي مغزى بالنسبة لي، وفي الوقت الذي عدت فيه كقائد لواء في عام 2003، كنت قادرا على تحقيق تقدم على المستوى الشخصي، ونظرت لتلك العملية باعتبارها الوسيلة الوحيدة للمضي بالمشكلة قدما».
وبعد مرور خمس سنوات تعين عليه محاولة التوسط بين الميليشيات الطائفية. ويعتبر التسامح والمصالحة، اللذان يحدثهما هذا، أقوى عنصرين لتحقيق الأمن والاستقرار والحكم الذي يكفل بناء الأمة. لكنهما الأصعب في التحقق.
يتحدث بورتر عن اضطراره للسفر في أنحاء عديدة في العالم «من أجل التعرف على الدور الذي ربما كانت بعض عناصر النظام السابق قادرة على أن تلعبه في العراق الجديد. كانوا أناسا على درجة جيدة جدا من الثقافة، ويتمتعون بقدرات هائلة، وخلفوا وراءهم سيرة مهنية كاملة في الجيش». في ذلك الوقت «كان ما يحتاجه العراقيون هو الاستقرار، ولم يكن بحاجة إلى تجريب، أو إلى محاولة فرض ديمقراطية ليبرالية وتطبيق اقتصاد سوق». ومن ثم، كان من الممكن أن توظف «عناصر النظام السابق»، ما لم تكن تتحكم في الجيش العراقي الجديد - لأنه ربما كان ذلك يتجاوز حدود المنطقة الحصينة للحكومة الشيعية، أن تمتلك أفرادا من السنة، كانوا في السابق أعضاء رفيعي المستوى بحزب البعث، يشغلون مناصب على مستوى الفيالق والفرق العسكرية - لكنهم يقدمون عمليا إرشادات حول كيفية تدريب وتجهيز وإدارة ما كان يعد بالأساس جيشا جديدا تماما».
شرح الجنرال السابق كيف وجد هو وفريقه «ضباطا سابقين برتبة عقيد وعميد في الجيش العراقي يقودون سيارات أجرة في مصر والأردن، لأنها الطريقة الوحيدة التي يمكنهم من خلالها كسب قوت يومهم. لكنه قال، مبديا بارقة أمل كانت تحدوه من قبل «كثيرون كانوا يقولون الشيء نفسه، إنهم يروق لهم لعب دور في العراق الجديد، وإن لديهم الكثير ليقدموه. وعرضنا هو: دعونا نأت ونتحدث إليكم، الأميركيين والعراقيين، حول هذا الأمر».
وعلى الرغم من ذلك فقد يثبت أنه كان طريقا مسدودا، مثلما أوضح بورتر «لم يكن الأميركيون شديدي الحرص لأنهم أدركوا ما سيكون عليه رد الفعل العراقي - كان رد الفعل العراقي هو (مستحيل). وفعليا، كان إدراج أفراد الجيش السابقين على لائحة قانون معاشات التقاعد الجديد أحد الأمور التي تمكنا من تحقيقها، وأبعد ما وصل إليه الأمر».
غير أن كلا من الجنرالين عرض قصة نجاح مصالحة في الشرق الأوسط. وعلق تيم كروس منتقلا إلى حكومة إقليم كردستان شبه المستقل «لم يكن طالباني وبرزاني أفضل الرفاق، كانت الخلافات بينهما خطيرة جدا. لكن، لأجل الصالح العام في المنطقة الكردية، كانا قادرين على أن يتصالحا معا، وظلا معا بشكل جيد جدا. لذلك، فإن كل شيء متاح.. ففي نهاية المطاف ينبغي على غالبية السكان أن تقول (كفى)».
ينطبق مفهوم المصالحة أيضا على علاقات العراق الخارجية. يقول بورتر «كانت هناك فرصة للتخفيف من حدة المشكلات بين الشيعة والسنة بشكل هائل، أو على الأقل إعادتها إلى وضعها السابق. وكان هذا متعلقا بأسلوب المالكي تجاه مجلس التعاون الخليجي، لنقُل بعد عام 2007 على الفور، حين تم انتخابه رئيسا للوزراء. أعتقد صادقا أنه أضاع ذلك. كانت هناك فرصة متاحة لمد الحوار مع مجلس التعاون الخليجي، خاصة مع السعودية. أعتقد أن تلك الدول - السعودية والكويت، وغيرهما - كانت في انتظار بدء نوع ما من الحوار. وأعتقد أنه ربما شهد المرء بعض التقدم في ما يتعلق بالتعاون الاقتصادي والتنمية، الأمر الذي كان ليفضي إلى تخفيف حدة التوترات، وربما توفير مكان أصيل في الشرق الأوسط للعراق خلال السنوات المقبلة. لكن تركيز المالكي، عموما كان منصبا على العلاقة مع إيران».
تقاعد الجنرال بورتر عام 2011، بعد مسيرة مهنية شهدت مشاركته في حربي العراق والبوسنة عامي 1994 و1995. وهناك، سعى لإتاحة إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية - حجر زاوية للسياسة الخارجية لرئيس الوزراء توني بلير في ذلك الموضع. قال متذكرا تلك الفترة في البوسنة «أعتقد أن المجتمع الإسلامي شعر في ذلك الوقت بأن المجتمع الدولي خذله. التقيت العديد من الساسة والأئمة في البوسنة ممن شعروا بأن الأمم المتحدة قد خذلتهم. لا يمكن القول بأن هذا الشعور انتشر في الشرق الأوسط، لكني أعتقد أن المنطقة شهدت توترا».

سوريا وتاريخ التدخل

«هناك قوة محركة مثيرة جدا دفع بها بلير في 1991 في كوسوفو»، حسبما يروي الجنرال بورتر. ويقول «في بعض الأحيان يتفوق الدافع الأخلاقي للتدخل على التصديق القانوني عليه. لم يكن هناك قرار بالتدخل في كوسوفو، ولو حاولوا لآل بهم الآمر إلى الفشل. غير أن الحجة الأخلاقية، التي قبلتها غالبية الأطراف، إن لم يكن كلها، كانت هي أن التدخل لا يتطلب قرارا - كان من الضروري فقط القيام به».
«ومع العراق في عام 2003، كان بوش مؤيدا بشدة لهذا الرأي. إذا استمعت لخطاباته من عام 2001 فصاعدا تجد أنها اتخذت خطا أخلاقيا ينص على حتمية التدخل: لا يمكننا أن نقف موقف المتفرجين وندع هذا الديكتاتور يمضي في مسلكه. من ثم، تظهر قضية أخلاقية، وفيها يكون من الصعب تشكيل قضية قانونية»، على حد قوله، مستخلصا أن هناك «جدالا نظريا يجب وضعه في سياق سوريا والمناطق الأخرى».
وكرر الجنرال تيم كروس قائلا «لم يصدر قرار عن الأمم المتحدة بشأن كوسوفو، لكنه كان الإجراء الصائب اللازم اتخاذه. لم يكن قانونيا، لكنه كان مشروعا. بالطبع، لن يكون التدخل في سوريا قانونيا، لأن الروس لن يصدقوا مطلقا على قرار مجلس الأمن». في واقع الأمر، كثير من المحللين والمعلقين عبروا عن اعتقادهم أن شن هجوم على نظام الأسد لا يخلعه من السلطة، ولن يفعل سوى زيادة الدعم المقدم له.
وهناك خطر يتمثل في تكرار «الخطة الأولى» الفاشلة من غزو العراق عام 2003، والتي بحسب الجنرال كروس افترضت أن «الشعب العراقي سيشعر بالسعادة الجمة بالتحرر، إلى حد أنه سيغدق علينا سيلا من الاستحسان، وسوف نعود إلى أرض الوطن». علاوة على ذلك، إذا ما أدى هجوم إلى هزيمة عسكرية للأسد، فإنه لا يضمن الاستقرار - بالطبع - من دون إجراءات ملائمة لحكومة مؤقتة لما بعد النزاع.
وأشار الجنرال كروس قائلا «لقد ولت أيام رفع العلم وإعلان الانتصار - كما في ألمانيا في عام 1945 - منذ فترة طويلة. في الأغلب الأعم، لا نعلن الحرب من خلال هذه الأشكال من نشر الجنود».
لم يترك هذا سوى قليل من الخيارات الأخرى. بدلا من سياسات «عدم التدخل»، اقتصرت هذه الخيارات على منح المساعدات الإنسانية، أو الإمداد بالأسلحة والتدريب على نطاق واسع، وهو قرار رفضه مسؤولون بريطانيون وأميركيون.
وتساءل كروس «هل تقومون بتسليح الثوار؟ إذن، من هم هؤلاء الثوار؟ وما نوع الأسلحة التي تسلحونهم بها؟». «لو كان هناك درس مستفاد من أفغانستان والمناطق الأخرى، فهو أن تسريب تلك الأسلحة سيتم. من ثم، فإنني لست مندهشا من أننا عالقون في هذه المعضلة»، هذا ما يقوله وهو يومئ في إشارة إلى برنامج عملية الإعصار. ويواصل «بكل صراحة، شعرت بذلك في هذا الوقت فعلا، ليس ارتباطا بالأحداث الماضية والتأمل فيها وحسب، بل لاعتقادي أيضا أننا دفعنا بالنظام في سوريا إلى موقف محرج بسرعة فائقة وسهولة شديدة، نظرا لعدم تعلمه من الدروس المستقاة من تجربتنا مع صدام وميلوسوفيتش وفي أفغانستان».
«ينتهي الأمر بالأسد إلى وضع نفسه في هذا الموقف المحرج. وبسرعة شديدة سنجد الجميع يقول إنه على الأسد الرحيل. هذا النوع من القادة (الأسد)، لا يقول في تلك الحالة: (حسنا، حسنا.. سوف أرحل). بل يضع نفسه في مأزق، ويخرج للقتال مع جيش يستمر في دعمه - وهو يفعل ذلك حقا، على عكس الجيش العراقي، الذي انهار في غضون ساعات، خلال حملة الخليج الأولى، وبسرعة فائقة في الحملة الثانية. هذا (الجيش السوري)، جيش قوي جدا»، هذا ما يقوله كروس مستندا إلى معلومات مسؤول أمضى حياته المهنية في تحليل التهديدات الأجنبية.
ويضيف «طالما شعرت بأننا دفعنا به إلى موقف عصيب بسرعة شديدة، ولا أتفق شخصيا مع كثير من التصريحات التي كانت تصدر عن مكتب الخارجية البريطانية – وحقيقة الصادرة عن جهات أخرى».
ثمة تناقض في ما يتعلق بالاستعداد لتقديم المساعدة في ليبيا والتردد إزاء سوريا. ضمن التدخل في ليبيا فرض منطقة حظر جوي لا تقدر بثمن. في الشرق، من شأن هذا أن يجعل الميزان يميل لصالح الثوار السوريين، إضافة إلى منع وقوع المزيد من الإصابات بين المدنيين. في حقيقة الأمر، يوضح تقرير صادر في وقت سابق من هذا العام، من قبل منظمة «هيومان رايتس ووتش»، كيف تم قتل 4300 مدني سوري نتيجة غارات النظام الجوية، في فترة الأشهر الثمانية بين نهاية يوليو (تموز) 2012، و22 مارس (آذار) 2013.
إلا أن اللاعبين الإقليميين والدوليين راقبوا استنزاف النزاع السوري للأمة والمنطقة، وعلى نحو متزايد العالم الخارجي. وأكد الجنرال تيم كروس قائلا «لو كانت سوريا قد ظهرت من قبل لشهدنا رد فعل مختلفا تماما» إزاء الأزمة السورية. وواصل، مقارنا الموقفين من منظور عسكري «من السهل نسبيا فرض منطقة حظر جوي في ليبيا. ليبيا عبارة عن شريط ساحلي - نحن فقط بحاجة للرجوع إلى الحملات من عام 1941 إلى 1944 عبر الشريط، بينما يتقدمون ويتراجعون. لا يوجد عمق لهذا. إنها منطقة قريبة من البحر. يمكنك القيام بالأشياء في ليبيا بسهولة نسبيا. سوريا مختلفة تماما. إنها كبيرة وقوية، ولديها كثير من المعدات - إمكانات دفاع جوي حديثة - والوصول إليها ليس بالأمر الهين. إن إنشاء منطقة حظر جوي أمر صعب جدا. لن أقول مستحيلا، لكنه بالغ الصعوبة».

سوريا والمجتمع الدولي

واستمرارا للحديث عن الجانب الدولي للنزاع، أقر الجنرال بورتر بـ«مدى حساسية المنطقة بأسرها للاضطراب في دولة أو أخرى». وطالما اهتم المحللون والخبراء بما يعرف بالتأثير الجانبي. فعبر الخطاب الطائفي، والصلات القبلية والأسرية التي تمتد عبر الحدود، والعلاقات السياسية المتأصلة، أثرت سوريا على الأحداث في لبنان. وينطبق هذا على وجه الخصوص على أماكن مثل طرابلس، حيث وصل العنف الطائفي إلى أبعد مدى منذ الحرب الأهلية المستمرة منذ 18 عاما في الدولة والتي مزقت نسيج المجتمع.
إن النزاع في سوريا «قد أثر على الوضع السياسي والعسكري في تركيا وفي إسرائيل وفي لبنان وفي إيران والعراق»، حسبما يشرح. ويضيف «بالطبع، العراق، حسبما أعتقد، قضية محورية، لأسباب ليس أهمها أن ملايين اللاجئين قد شقوا طريقهم إليه، وإنما أيضا بسبب المشكلة بين الشيعة والسنة. هناك، لديك حكومة شيعية في بغداد، وهي، إن شئنا الصراحة، عازمة على ألا يتشارك السنة السلطة، مجددا، مع السواد الأعظم من الطبقة الوسطى السنية، والفئة المقاتلة التي تم نفيها إلى أماكن مثل مصر وسوريا، ممن يتوقون إلى العودة تحت ستار ما، بسبب الدعم الضخم لدولة العراق الإسلامية.. ومن ثم، لدى السنة القدرة على إلحاق قدر كبير من الضرر بالعراق. وقد امتد هذا على نطاق واسع ليؤثر على الاستقرار هناك».
لكن فيما تمثل سوريا الآن شأنا دوليا مباشرا، يشعر الجنرال كروس بأن القضايا الإقليمية - مثل النزاع في الشرق الأوسط - تتطلب لمسة أكثر إقليمية.



«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

TT

«فخ الأسد»... ليلة هزت حلفاء طهران في بغداد

صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)
صورة ضخمة لبشار الأسد ملقاة على الأرض بعد هروبه على أرضية القصر الرئاسي في دمشق 8 ديسمبر 2024 (أ.ب)

يطلب مسؤول أمني رفيع في الحكومة العراقية من سائق السيارة أن يسرع قليلاً. عليه اللحاق بطائرة تعيده من دمشق إلى بغداد. واحدة من الرسائل تتدفق إلى هاتفه تقول: «الفصائل السورية في طريقها إلى العاصمة». في مساء يوم السبت السابع من ديسمبر (كانون الأول) 2024 كان المسؤول قد أنهى مهمة روتينية شمال شرقي سوريا، لتنسيق أمن الحدود، لكن البلاد الآن على وشك أن تكون بيد نظام جديد، يشع من أنقاض.

على أسوار دمشق، كانت سيارة المسؤول العراقي تنتظر «ترتيبات استثنائية» مع السلطات الجديدة في سوريا. ونشأت بين الجانبين «اتصالات من عدم».

يقول مسؤول سوري سابق في «إدارة العمليات العسكرية» إنها «المرة الأولى التي تواصلت فيها (هيئة تحرير الشام) مع مسؤول في الحكومة العراقية». ويقول عنصر أمن عراقي كان حاضراً في الترتيبات إن «الأمر تم بسلاسة غير متوقعة حينها، ودخلنا دمشق» رفقة عناصر من «الهيئة» صباح الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024. ثم وصلت رسالة مثل الصاعقة: «هرب (بشار) الأسد».

مطار دمشق بعد سقوط نظام الأسد (أرشيفية-أ.ف.ب)

كان مطار العاصمة السورية مسرح أشباح. حتى ضباط «لواء النقل الجوي» الذين يعرفهم المسؤول العراقي اختفوا. لا أحد يسأل عن تذكرة أو جواز سفر. الممر الخاص بالدبلوماسيين مشرع للرياح. غادر الرجل على متن رحلة استثنائية إلى بغداد.

خلال النهار، تحلق الطائرة وعلى متنها المسؤول الأمني مع حقيبة أسئلة عن سوريا الجديدة. في مسار الرحلة ذاتها، لكن على الأرض، تغادر ميليشيات عراقية كانت تتمركز في سوريا منذ عام 2011. العجلات التي تحركت من ريف دمشق نحو بلدة البوكمال، قرب الحدود العراقية، قطعت رحلة أخيرة باتجاه واحد لمئات المسلحين، تاركين خلفهم خمسة عشر عاماً من «محور المقاومة» ينهار الآن مثل جبل من رمال.

تكشف شهادات خاصة جمعتها «الشرق الأوسط» من شخصيات عراقية ضالعة في الملف السوري قبل هروب الأسد كيف انسحبت ميليشيات من سوريا دون تنسيق، أو ترتيبات مسبقة، وما دار في الكواليس حول رؤيتها لما حدث، وأظهرت لاحقاً أن طهران وموسكو والأسد كانوا قد اتخذوا قرارات عدم القتال في سوريا في أوقات متباعدة، ولم يشاركوا المعلومات المطلوبة مع حلفاء عراقيين إلا في وقت متأخر.

كما تسلط الشهادات الضوء على ردود فعل مجموعات شيعية في أعقاب انهيار نظام الأسد، وصلت إلى المطالبة بتقوية نفوذ الفصائل المسلحة في العملية السياسية العراقية، وتعزيز ما بات يعرف بـ«الحاكمية الشيعية» في بغداد، حتى «تستوعب صدمة أولئك الذين تركوا سوريا».

الرئيس السوري بشار الأسد يصافح رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في دمشق (أرشيفية)

«ليست مناورة... تم خداعنا»

في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بعد ثلاثة أيام من بدء «ردع العدوان»، أجرى رئيس الحكومة العراقية محمد السوداني مكالمة مع بشار الأسد. يومها كانت فصائل المعارضة السورية قد سيطرت على ريف حلب. وقال السوداني للأسد إن «أمن سوريا يرتبط بالأمن القومي للعراق». في اليوم التالي حاصرت المعارضة حماة. ولم يتصل السوداني بالأسد مرة أخرى.

في نينوى، المحافظة الشمالية القريبة من الحدود مع سوريا كان قادة فصائل شيعية يحاولون إرسال الدعم إلى سوريا، لأنه «مع تحرك الفصائل السورية كان عدد المسلحين الموالين لإيران أقل بكثير عما كانوا قبل سنوات». يقول مسؤول فصائلي في نينوى أيضاً إنهم «أخبروا المقاتلين أن عليكم حماية الشيعة والمراقد في سوريا، وكثيرون تحمسوا».

ويقول كاظم الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء» التي انخرطت في الميدان السوري منذ عام 2013، إن فصيله انسحب من هناك أواخر 2023. ويضيف: «كانت مهمتنا قد انتهت».

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي كانت تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

حتى عام 2018، ازدحمت سوريا بأكثر من 150 ألف مقاتل من «الحرس الثوري» الإيراني، وعناصر «حزب الله» اللبناني، وميليشيات عراقية، وفق تقديرات أمنية عراقية وسورية. بدا أن الجيش التابع للنظام السوري السابق أقل حجماً من كل الحشود الأجنبية. وبحلول ديسمبر 2023 حدث شيء ما، وسمح «الحرس الثوري» الإيراني بمغادرة مجموعات شيعية بعد مشاورات مع الأسد. قيل على نطاق واسع إن «صفقة إقليمية قادت إلى هذا التحول الميداني».

مع انسحاب جزء من الميليشيات الإيرانية وحلفائها من سوريا عام 2023، كان نظام بشار الأسد يحاول استعادة مقعده في الجامعة العربية. وتطلب ذلك منه الكثير من الوقت حتى يمهد لاندماج شبه مستحيل مع العالم العربي، لم ينجح في النهاية.

ومع بدء عمليات «ردع العدوان» في نوفمبر 2024، تقلص عدد الجماعات الإيرانية في سوريا إلى بضعة آلاف، لكن عودة الأسد لم تكتمل.

مع تحرك فصائل المعارضة نحو دمشق، كان الشعور السائد بأن الجماعات الشيعية تتحرك لسد نقص لم تنتبه إليه. في الثاني من ديسمبر 2024، تسلل العشرات من المسلحين ليلاً عبر طريق عسكري غير رسمي إلى الأراضي السورية، وأوقف طيران أميركي طريقهم بقصف أرتال قرب البوكمال. بعد ذلك، كان واضحاً أن الذين تحمسوا لدخول سوريا تراجعوا عن الفكرة.

في صباح اليوم التالي سيطرت قوات المعارضة السورية على 14 بلدة في حماة، وباتت تتفرغ لمعركة حمص. يومها أعلنت كتائب «حزب الله» العراقية أن «الوقت مبكر لاتخاذ قرار إرسال الدعم العسكري إلى سوريا».

ويقول مسؤول في فصيل شيعي مسلح إنه سأل مرؤوسيه في بغداد عن «عمليات ردع العدوان» في أيامها الأولى. قالوا له: «اطمئن... قد تسقط سوريا (بيد المعارضة)، لكن دمشق باقية (يقصد بيد الأسد)». ويضيف: «بعد أسبوع، لم نستوعب ما حدث».

قبل وصول المعارضة السورية إلى حمص، كانت المجموعات الشيعية ترجح أن الأمر سيتوقف هناك. يقول قيادي في فصيل شيعي إن «تقارير استخبارية اطلع عليها مسؤولون في جهاز الأمن الوطني العراقي، وقيادة الحشد الشعبي، وقادة فصائل، أفادت بأن الروس والإيرانيين سيوقفون زحف المعارضة، وأن مدينة حمص ستكون النقطة الفاصلة».

لم يستخدم الروس تفوقهم الجوي إلا بشكل محدود. ومع تحرك فصائل المعارضة من حماة باتجاه حمص في 6 ديسمبر 2024، كانت طائرات يُعتقد أنها روسية ضربت جسر «الرستن» الرابط بين المدينتين بقوة تدميرية لا تمنع عبور الأرتال.

لاحقاً، أظهرت لقطات مصورة من الجو أن الروس احتفظوا بطائرات سوخوي المزودة بالصواريخ في قاعدة حميميم دون استخدامها، وعبرت فصائل المعارضة الجسر إلى حمص التي أضحت محررة بالكامل بحلول فجر 7 ديسمبر 2024.

لقطة من فيديو لقناة «سوريا» تظهر طائرات حربية روسية رابضة في قاعدة حميميم باللاذقية خلال عمليات «ردع العدوان«

الآن، بات كثيرون من «محور المقاومة» أكثر قناعة بأن الزحف السريع للفصائل ليس مجرد مناورة. يقول القيادي الشيعي إنهم في تلك اللحظة فهموا أن «الإيرانيين شاركوا معنا مواقف متضاربة (...) ربما تم خداعهم».

لقد بقي السؤال عن أدوار طهران وموسكو غامضاً. لم تمتلك فصائل شيعية أجوبة حاسمة في الأشهر القليلة التي تلت هروب الأسد. اليوم، يعتقد الفرطوسي، المتحدث باسم «كتائب سيد الشهداء»، أن «الموقف الروسي والإيراني لم يتغير إلا بعد أن تراجع نظام الأسد، وانهارت القوى الماسكة للأرض، وتحولت المعركة إلى مواجهة مع شعب»، وفق تعبيره.

لكن مصادر من فصائل كانت نشطة في سوريا منذ عام 2013 تحدّثت عن «قرار اتخذته إيران مبكراً بعدم خوض معركة في سوريا بسبب حسابات إقليمية أشد تعقيداً». تقول المصادر إن «إيران لم تكن متأكدة من نتائج لصالحها في حال واجهت زحف المعارضة، لأنها اكتشفت متأخرة أن موسكو باتت تتصرف لوحدها في سوريا».

في النهاية، بدا أن أقطاب التحالف بين موسكو وطهران والأسد ينفصلون عن بعضهم، ويتخذون قرارات ميدانية متباعدة، سمحت بتقدم سريع للمعارضة، وهروب أسرع للأسد. لكن الأكيد من وجهة نظر القيادي الشيعي أن «الجماعات العراقية لم تكن في صلب نقاشات أفضت إلى ما حدث في النهاية».

في تلك اللحظة، كان أكثر من عشرة فصائل عراقية قد أمضت أكثر من عشر سنوات في الجبهة السورية، تورط خلالها آلاف المسلحين في بحر من الدماء.

و«تدور الدوائر»

في السادسة فجراً، يوم 8 ديسمبر 2024، كتب رئيس الوزراء العراقي الأسبق عادل عبد المهدي رسالة عبر «إكس» قال فيها: على الباغي تدور الدوائر. ثم طغت أجواء الصدمة على القوى السياسية الشيعية في بغداد.

يومان بعد التحرير، تكون جميع الفصائل قد غادرت الأراضي السورية، والأسد في موسكو. في 12 ديسمبر 2024، ظهر نوري المالكي وهو زعيم «ائتلاف دولة القانون» وكان حليفاً قوياً للأسد لسنوات، ليصرح بأن «الهدف مما حدث في دمشق هو تحريك الشارع في بغداد». وانفجر الرأي العام بالأسئلة عما حدث.

حاول المجتمع السياسي الشيعي في بغداد استيعاب الصدمة، ونشطت في الكواليس نقاشات عن «مستقبل الشيعة في العراق»، طغى عليها ارتباك شديد، وفق شهادات أشخاص شاركوا في اجتماعات خاصة عقدت في الأسابيع التي تلت هروب الأسد.

وتحدث هؤلاء أن صناع قرار شيعة لم يجدوا أجوبة عما حدث في سوريا، ودور إيران فيه، وواجه كثيرون صعوبات في الإجابة عن سؤال كيف سيتغير العراق والمنطقة بعد الأسد؟.

يقول أحد المشاركين في جلسة خاصة عقدت في يناير (كانون الثاني) 2025 إن الأزمة في سوريا لا تتعلق بهروب الأسد، وانكسار «محور المقاومة»، بل إنها بالنسبة لـ«العراقيين الشيعة تتعلق بإعادة تعريف دورهم بعد سقوط تحالفات وتوازنات قديمة».

جانب من أحد اجتماعات قوى «الإطار التنسيقي» (وكالة الأنباء العراقية)

وظهرت أعراض جانبية لهذه النقاشات الصعبة على الجماعات الشيعية. وروّج كثيرون من بيئة «المقاومة» لمشروع «الفيدرالية الشيعية» التي تمتد من سامراء إلى البصرة، على بحر من نفط. سرعان ما اضمحلت الفكرة مثل رماد بارد.

وتصاعد حديث جاد عن «الحاكمية الشيعية». يقول قيادي في فصيل مسلح إن «القوى الشيعية كانت تركز خلال الأشهر الماضية على تقوية الوضع الداخلي، وتعزيز حضورها في الحياة السياسية، وهذا ما يفسر المشاركة الفاعلة في الانتخابات التي أجريت في 11 نوفمبر 2025، وفوز فصائل مسلحة بمقاعد في مجلس النواب الجديد».

يبدو أن جميع الذين قاتلوا في سوريا فازوا بمقاعد في البرلمان الجديد. لقد حصلت حركة «عصائب أهل الحق» بزعامة قيس الخزعلي على 28 مقعداً داخل البرلمان، وفازت منظمة «بدر» بزعامة هادي العامري بـ18 مقعداً، وحصلت كتلة «حقوق»، التابعة لـ«كتائب حزب الله»، على ستة مقاعد، بينما حصلت قائمة تابعة لـ«كتائب الإمام علي» على ثلاثة مقاعد، وحصل تحالف «خدمات» بزعامة شبل الزيدي على تسعة مقاعد.

ويطرح هؤلاء اليوم مشروعاً انتقالياً يقوم على أدوار شيعية جديدة، يتقدمه طموح متنامٍ لدى قادة مثل قيس الخزعلي لصياغة مظلة تحمي الجماعات الشيعية من التفكك عبر حضورٍ أثقل في مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية معاً.

وفي مارس (آذار) 2025، سئل الخزعلي عن سوريا الجديدة. وقال إن «الدولة العراقية من واجباتها ومن مصلحتها أن تتعامل معها ما دامت تلك الدول والحكومات تمثل دولها».

ويقول قيادي شيعي إن لحظة هروب بشار الأسد لم تكن حدثاً في سوريا بقدر ما كانت زلزالاً في الوعي الشيعي داخل العراق؛ إذ دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في شكل التحالفات التي حكمت الإقليم لأعوام طويلة. لكن خلف هذا التحول تبرز أسئلة معلّقة، وشكوك حول «مستقبل النظرية الإيرانية ذاتها» بعدما بدأت تتعرّض لاختلال كبير بعد أربعة عقود من النفوذ المتواصل في المنطقة. يقول القيادي إن «الجواب لم ينضج بعد».


سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
TT

سوريا بعيون أميركية... «رحلة جنونية من العزلة إلى الانفتاح»

الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)
الرئيسان الأميركي دونالد ترمب والسوري أحمد الشرع في البيت الأبيض (أ.ف.ب)

مع مرور عام على إطاحة نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) 2024، تتابع أوساط سياسية وبحثية أميركية تطورات السلطة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع. ويشير هؤلاء إلى مساعي دمشق لتوطيد العلاقات بالمجتمع الدولي، في وقت تواجه فيه تحديات داخلية تشمل الاستقرار السياسي، وإعادة بناء الاقتصاد، فضلاً عن تحديات خارجية تتعلق برفع العقوبات ومكافحة الإرهاب.

وثمة إجماع بين أوساط أميركية معنية بالملف السوري على أن سقوط الأسد فتح نافذة تاريخية لإعادة بناء البلاد، لكن النجاح يعتمد على ترسيخ نموذج مستقر.

ويرى الخبراء أن الشرع «حقق تقدماً مذهلاً في عام واحد؛ من إنهاء الحرب، إلى الانخراط الدولي، لكنه يحتاج إلى مزيد من الإصلاحات لتجنب احتمالات الفوضى».

ويقول ستيفن كوك، الزميل الأول في «مركز دراسات الشرق الأوسط وأفريقيا» بـ«مجلس العلاقات الخارجية»، إن «لقاء الشرع مع الرئيس (الأميركي) دونالد ترمب في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يمكن أن يكون منطلقاً لبدء عمل جاد وواعد في سوريا»، مشيراً إلى أن «رفع واشنطن العقوبات يتزامن مع إظهار دمشق مساعيَ جادة للقيام بإصلاحات سياسية؛ أهمها في (التعامل مع الأقليات ومكافحة التطرف)»، لكنه يحذر بأن «الحكم في بلد مفلس وممزق سياسياً يظل سؤالاً مفتوحاً».

ويشير كوك، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن الانتخابات البرلمانية المحدودة التي جرت في 5 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (التي غطت 119 مقعداً من 210)، كانت «خطوة رمزية مهمة»، لكنها لم تشمل مناطق الدروز والكرد؛ مما قد يعكس «هشاشة الانتقال»، داعياً إلى توسيع الممارسة لتجفيف منابع الانقسام.

الرئيس السوري أحمد الشرع يحضر بدمشق حفل توقيع مذكرة تفاهم للاستثمار في سوريا يوم 6 أغسطس 2025 (رويترز)

تغيير الشرق الأوسط

يشيد آرون زيلين، الخبير في «معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى»، بجهود الشرع في مكافحة «داعش»، ويقول إن لديه فرصة لإحداث تأثير إيجابي في منطقة الشرق الأوسط، لكنه نصح الحكومة السورية الجديدة بالتركيز على تفكيك فصائل مسلحة في البلاد.

وعدّ زيلين تصريحات الشرع الإصلاحية بشأن بناء مؤسسات الدولة علامة إيجابية على توجهات حكومته، رغم قلقه من أن الاقتصاد المدمَّر يهدد الاستقرار في سوريا، لا سيما مع التقديرات التي تفيد بأن تكلفة إعادة إعمار البلاد قد تصل إلى 216 مليار دولار.

بدوره، يقول إدوارد جيريجان، مدير «مركز بلفير للعلوم والشؤون الدولية» بجامعة هارفارد، إن الشرع يواجه «اختباراً لإعادة التوحيد» في بلاد متعددة الطوائف والإثنيات، ويوصي بـ«تعزيز الثقة الداخلية» عبر إصلاحات أمنية موحدة.

ويبدي المحلل الأميركي سيث فرانتزمان تفاؤلاً كبيراً بمستقبل سوريا، عادّاً الشرع «رجلاً مثيراً للإعجاب ومغيراً للعبة»، ويصف التحول في سوريا في أقل من عام بـ«الجنون المطلق»؛ بالتحول من دولة منبوذة إلى دولة بفرص واعدة ومدعومة من الغرب ولاعبين وازنين في الخليج العربي والمنطقة.

ورأى الشرع، في تصريح أمام «منتدى الدوحة» يوم 6 ديسمبر 2025، أن سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، بعدما تحولت من منطقة مصدرة للأزمات إلى نموذج للاستقرار، مشيراً إلى أن البلاد «تحتاج الآن إلى بناء مؤسسات مستقرة؛ وهو ما يضمن استمرارية عادلة لبناء الدولة».

الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد «قسد» مظلوم عبدي خلال توقيع اتفاق دمج «قسد» في الجيش السوري بدمشق يوم 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

صراعات داخلية

ويقول فرانتزمان إن زيارة الشرع التاريخية إلى البيت الأبيض في نوفمبر 2025 تعدّ «محوراً مهماً لإعادة بناء سوريا المحطمة»، بالتزامن مع رفع الشرع من قائمة العقوبات الأميركية، وتجديد تعليق «قانون قيصر».

ويشيد معظم التحليلات بالشرع لتحقيقه تقدماً ملموساً في الاستقرار الداخلي، لكن التحذيرات تتعلق بالصراعات الداخلية التي قد تذكي أعمال عنف أو فوضى. أما خارجياً؛ فتشيد تقارير أميركية بحرص الشرع على توجيه بلاده نحو الغرب، وانضمامها إلى «التحالف الدولي ضد (داعش)»، حيث يشيد مركز «بروكينغز» بعلاقات الرئيس السوري بتركيا والولايات المتحدة، بوصفها مفتاحاً للاستقرار، محذراً من السماح بعودة نفوذ روسيا وإيران.

وكان الشرع قد أقر، خلال حضوره مؤتمر «مبادرة مستقبل الاستثمار»، بالرياض، في 29 أكتوبر 2025، بأن هناك مخاطر استراتيجية ارتبطت بالفترة السابقة تسببت في خلق حالة من الاضطراب والقلق لبعض دول العالم.


الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
TT

الصعود التركي في سوريا... من المواجهة إلى التحالف

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان خلال استقباله الرئيس السوري أحمد الشرع خلال أول زيارة له في أنقرة 4 فبراير 2025 (الرئاسة التركية)

تشكلت في الأسابيع الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا قناعة بأن تركيا لعبت الدور الأكبر في الوصول «السلس» لفصائل المعارضة إلى دمشق في 8 ديسمبر (كانون الأول) 2024، وتعزز ذلك مع دعم أنقرة السريع للإدارة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، وتقديم نفسها بوصفها أحد «الرعاة الأساسيين» في مرحلة ما بعد الأسد.

كانت تركيا أول دولة ترسل مسؤولاً رفيع المستوى إلى سوريا للقاء الشرع في «قصر الشعب»، إذ زار رئيس مخابراتها، إبراهيم كالين، دمشق يوم 12 ديسمبر 2024، وتوجه للصلاة في الجامع الأموي، ليبدو أنه حقق وعد الرئيس رجب طيب إردوغان، في الأيام الأولى للثورة السورية في 2011، عندما قال سينهار نظام الأسد بأسرع وقت و«سندخل دمشق ونصلي في الجامع الأموي».

وأوحت تصريحات لوزير الخارجية هاكان فيدان بأن تركيا هي من لعبت الدور الرئيسي في سقوط الأسد وفتح الطريق أمام الشرع إلى دمشق، عندما قال، بعد أيام قليلة، إن أنقرة أقنعت روسيا وإيران، خلال الاجتماع بصيغة «آستانة»، على هامش «منتدى الدوحة» في 7 و8 ديسمبر 2024 بعدم التدخل.

من وجهة نظر فيدان، كان «نظام بشار الأسد ضعيفاً للغاية خلال العامَين أو الأعوام الـ3 الماضية، مع مقاومة نسبية في بعض الأماكن، لكن المعارضة دخلت حلب دون إطلاق نار تقريباً. مع ذلك، لو كرر الروس والإيرانيون رد فعلهم في عام 2016، لكان الشعب السوري قد واجه خطر المزيد من إراقة الدماء والنزوح».

وعندما سُئل فيدان: «كيف أقنعتم روسيا بعدم الوقوف إلى جانب الأسد؟». أجاب بكلمة واحدة: «تحدثنا».

إسرائيل قصفت مطار حماة العسكري في مارس الماضي على خلفية تقارير عن استخدامه من جانب تركيا في نقل مواد لوجيستية ومعدات لإقامة قاعدة جوية في حمص (أ.ف.ب)

تقييم الحصاد

في 16 أغسطس (آب) 2025 عقدت مجموعة التنسيق بين المؤسسات التركية اجتماعاً برئاسة نائب وزير الخارجية نوح يلماظ، الذي أصبح الآن سفيراً لتركيا في دمشق، أُجريت خلاله مراجعة شاملة للعلاقات مع سوريا والخطوات التي ستُتخذ خلال الفترة المقبلة لتعزيزها وتنفيذ الاتفاقات التي توصل إليها الجانبان في مختلف المجالات.

خلال الأشهر الـ8 الأولى بعد سقوط الأسد، وعبر تحركات مكثفة، كانت تركيا أول دولة تعيد فتح سفارتها في دمشق، إضافة إلى قنصليتها في حلب، كما وقعت في 12 أغسطس مذكرة تفاهم للتعاون العسكري والتدريب والاستشارات.

وتحركت تركيا على المستوى الثنائي والإقليمي لدعم حكومة الشرع في مكافحة تنظيم «داعش»، وإقناع الولايات المتحدة بمنظور جديد يجعلها تتخلى عن دعمها لـ«قسد» التي تشكل «وحدات حماية الشعب» (الكردية) عمودها الفقري، في السيطرة على شمال شرقي سوريا، بعد التحالف معها في الحرب على «داعش».

في هذا الإطار سعت تركيا إلى تشكيل تحالف يقوم على مبدأ «الملكية الإقليمية»، الذي يعني أن تقوم دول المنطقة بنفسها على حل مشاكلها دون تدخلات خارجية، وبدأت بالفعل جهوداً لتشكيل منصة خماسية تضمها مع كل من الأردن والعراق ولبنان إلى جانب سوريا، وعقد وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء المخابرات في الدول الخمس اجتماعاً في عمان في 9 مارس (آذار) الماضي، لكنه لم يسفر عن تأسيس آلية سعت إليها أنقرة.

نتيجة لذلك شكّلت تركيا آلية تنسيق مع سوريا عبر مركز عمليات مشترك في دمشق، لتأكيد دعمها للحكومة السورية في الحرب على «داعش».

وعقدت خلال الأشهر الـ10 المنقضية 3 اجتماعات لوزراء الخارجية والدفاع ورئيسي المخابرات في البلدين فضلاً عن الزيارات الثنائية المتبادلة على مستوى وزيري الخارجية، وزيارات رئيس المخابرات التركية لدمشق، كما زار الشرع تركيا 3 مرات في الفترة بين فبراير (شباط) وأغسطس.

على الصعيد الاقتصادي، أعادت تركيا تشغيل جميع البوابات الحدودية مع سوريا، وتم توقيع بروتوكول في أنقرة يوم 5 أغسطس الماضي، لإنشاء لجنة اقتصادية وتجارية مشتركة، وبدء دراسة إنشاء مناطق صناعية، بهدف إنعاش الاقتصاد السوري المتضرر من جراء الحرب وتعزيز التجارة بينهما. كما أعاد البلدان الجاران تأسيس مجلس الأعمال المشترك، الذي توقف عن العمل في 2011.

وتقول تركيا إنها تهدف إلى تجاوز عتبة ملياري دولار في صادراتها إلى سوريا بنهاية العام الحالي، مستغلة الزخم في العلاقات التجارية بينهما. واتخذت خطوات جديدة لتسهيل وتسريع التجارة مع سوريا، وتم الاتفاق على أن تصبح حلب مركزاً لوجيستياً قوياً في الفترة المقبلة.

جانب من لقاء ترمب ونتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو 2025 (أ.ف.ب)

تنافس مع إسرائيل

في المقابل، تغيرت أهداف تركيا في سوريا عما كانت عليه خلال حكم بشار الأسد، فبعدما كانت تركز على تأمين حدودها مما تصفه بـ«تهديد (قسد)»، وإنشاء منطقة آمنة على حدودها الجنوبية بعمق يتراوح ما بين 30 و40 كيلومتراً، تسعى اليوم إلى إزالة هذه المجموعة الكردية من المعادلة السورية، عبر ترك أسلحتها والاندماج في مؤسسات الدولة، وإقناع الولايات المتحدة بوقف دعمها لها عبر عرض قيام إدارة سورية جديدة بحراسة سجون «داعش»، ودعمها في هذا الأمر. وزادت على ذلك بالسعي لدى الولايات المتحدة لملء الفراغ، حال انسحاب القوات الأميركية.

لقد أظهرت تحركات تركيا في الواقع السوري الجديد سعيها لملء الفراغ العسكري من خلال العمل على إنشاء قواعد برية وبحرية وجوية في وسط سوريا وعلى سواحلها عبر نموذج يشبه تدخلها في ليبيا بعد القذافي، كما تردد من خلال وسائل إعلام، والانفراد بأكبر دور في الاقتصاد السوري وإعادة الإعمار والتدخل في جميع المجالات من الصحة إلى التعليم وغيرها، استكمالاً لما بدأته بالفعل منذ سنوات في شمال سوريا.

أثارت هذه التحركات قلق إسرائيل التي تخشى استبدال الوجود التركي بالوجود الإيراني في سوريا، وفرض أمر واقع جديد تكون فيه تركيا هي الضامن سياسياً وأمنياً، اعتماداً على علاقاتها القوية مع الإدارة الجديدة ومع فصائل معادية لها.

جانب من اجتماع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وترمب والشرع لبحث رفع العقوبات المفروضة على سوريا في الرياض مايو الماضي (واس)

«نعم أخذتها»

وبدا أن تركيا نجحت في سباقها لإظهار دورها بوصفها «راعياً» تتشاور معه الإدارة السورية حول مستقبل البلاد، وبرزت بوصفها واحدة من أبرز القوى المهيمنة، وهو ما أكده الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالبيت الأبيض في يوليو (تموز) 2025.

قال ترمب إنه هنّأ إردوغان، في اتصال هاتفي بينهما، على «أخذه سوريا (...) وإنه كان يحاول النفي، ويقول إنه لم يأخذها، وإنه قال له إنك فعلت شيئاً عجز الآخرون عن فعله طوال ألفي عام، مهما تعددت أسماؤها تاريخياً، وإنه (إردوغان) قال في النهاية نعم أخذتها».

وجاء موقف ترمب بعد متابعة حالة التنافس بين تركيا وإسرائيل في سوريا، والمخاوف المتبادلة بينهما التي دفعت إسرائيل إلى تدمير قواعد جوية ومطارات رئيسية، بينها مطار حماة العسكري، والقضاء على مقدرات الجيش السوري، مع تردد أنباء، بعد 3 أشهر من سقوط حكم الأسد، عن سعي تركيا إلى إقامة قواعد جوية في حمص، ما دفع تركيا وإسرائيل إلى إرساء قواعد اشتباك تمنع الصدام بينهما في سوريا خلال اجتماعات فنية في باكو توسطت فيها أذربيجان.

عرض ترمب على نتنياهو حل مشاكله مع تركيا إذا كان منطقياً في طلباته، لافتاً إلى علاقته الجيدة مع إردوغان، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي قال، قبل مغادرة واشنطن، إن تركيا تريد إنشاء قواعد عسكرية في سوريا، وإنه يرفض إقامتها لأنها تُشكل خطراً على إسرائيل.

بدورها، تؤكد تركيا أن المسألة الرئيسية بالنسبة إليها وللولايات المتحدة هي ضمان ألا تشكل إسرائيل تهديداً لسوريا، وألا تكون سوريا مصدراً لتهديد أي طرف في المنطقة، وأن يحترم الجميع سلامة أراضي وسيادة بعضهم، بحسب ما قال وزير خارجيتها، هاكان فيدان، الذي شارك في جانب من اجتماع ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بالبيت الأبيض في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025.

وعبرت تركيا، أكثر من مرة، عن عدم انزعاجها للمفاوضات بين دمشق وتل أبيب، مشددة على أن هدفها الأول هو وحدة أراضي سوريا وسيادتها.

ورد إردوغان، الذي التقى ترمب في البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) الماضي، على تصريح أخير لنتنياهو، منذ أسابيع قليلة، قال فيه إن إسرائيل «أوقفت تركيا في سوريا»، مطالباً بالتركيز على ما تفعله تركيا بدلاً من التركيز على ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية، مضيفاً: «نحن نفعل ما يلزم في إطار أولوياتنا الاستراتيجية، وسنواصل ذلك».

جانب من الاجتماع بصيغة «آستانة» لوزراء خارجية تركيا هاكان فيدان وروسيا سيرغي لافروف وإيران عباس عراقجي على هامش منتدى الدوحة في ديسمبر 2024 (الخارجية التركية)

شبح العقوبات

تحرص تركيا أيضاً على عدم البقاء بعيداً عن أي ملف يتعلق بسوريا، بما في ذلك رفع العقوبات، الذي بدأ بإعلان مفاجئ من ترمب، قال إنه بناء على طلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وإردوغان، الذي شارك، عبر الهاتف في اجتماع بالرياض، في مايو (أيار) تمت فيه مناقشة رفع العقوبات.

وأكد إردوغان مواصلة تركيا دعمها لدمشق في حربها ضد التنظيمات الإرهابية وفي مقدمتها «داعش»، واستعدادها لتقديم الدعم فيما يتعلق بإدارة وتأمين مراكز الاحتجاز التي يُحتجز فيها عناصر «داعش»، لافتاً إلى أن قرار ترمب رفع العقوبات عن سوريا يحظى بأهمية تاريخية، وأن هذا القرار سيكون مثالاً للدول الأخرى التي فرضت عقوبات على دمشق، وأن فرص الاستثمار ستشمل مختلف المجالات في سوريا، بعد رفع العقوبات.

وسبق إعلان ترمب رفع العقوبات اجتماع ثلاثي لوزراء الخارجية التركي، هاكان فيدان، والولايات المتحدة، ماركو روبيو، وسوريا، أسعد الشيباني، على هامش «منتدى أنطاليا الدبلوماسي» في جنوب تركيا، في أبريل (نيسان) الماضي، لمناقشة تفاصيل تعهد ترمب بإسقاط العقوبات عن سوريا.

وتلقى فيدان دعوة لزيارة أميركا بالتزامن مع زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك في جانب من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 10 نوفمبر الماضي.

وعقد فيدان لقاءات مع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والممثل الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترمب في الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، والسفير الأميركي في أنقرة المبعوث الخاص إلى سوريا، توم براك، والعديد من المسؤولين الآخرين في البيت الأبيض، فضلاً عن لقاء مع الشرع ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ولقاء ثلاثي جمعه بالشيباني وروبيو.

وقال فيدان إنه تم خلال الاجتماعات تبادل وجهات النظر حول كيفية إدارة المناطق الإشكالية في شمال وجنوب سوريا، وفي أماكن أخرى، بشكل أفضل وكيف يمكن تنفيذ العمل على إلغاء «قانون قيصر»، وإن التركيز منصبّ حالياً على ما يمكن فعله لرفع العقوبات في إطار «قانون قيصر» بشكل كامل، لمساعدة الاقتصاد السوري على التعافي.

وأشار إلى أن الشرع التقى أعضاءً في الكونغرس، وشدد على أهمية التصويت على إلغاء «قانون قيصر»، مضيفاً أن الرئيس الأميركي يتبنى نهجاً إيجابياً تجاه التعامل مع القضايا السورية.

الشرع وعبدي خلال توقيع اتفاق اندماج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية في دمشق 10 مارس 2025 (إ.ب.أ)

هاجس «قسد»

تعمل تركيا على استغلال حالة التشاور المستمر بشأن سوريا، في ضمان موقف أميركي داعم لتنفيذ الاتفاق الموقع بين الشرع، وقائد «قسد»، مظلوم عبدي، في دمشق 10 مارس الماضي، بشأن اندماجها في الجيش والمؤسسات الأمنية السورية، الذي يفترض أن ينتهي تنفيذه قبل حلول نهاية العام الحالي.

وبعد 47 عاماً من الصراع المسلح، أطلقت تركيا مبادرة العام الماضي، لحل حزب العمال الكردستاني ونزع سلاحه، أسفرت عن دعوة زعيمه، السجين لديها، عبد الله أوجلان في 27 فبراير الماضي، إلى حله والتخلي عن الكفاح المسلح، والتحول إلى العمل الديمقراطي في إطار قانوني.

وتتمسك أنقرة بأن دعوة أوجلان تشمل جميع امتدادات حزب «العمال الكردستاني»، وأن «البنية الحالية لـ(قسد) تقوّض وحدة سوريا وتهدّد الأمن القومي لتركيا وتعرّضه للخطر»، وأنه لا يمكن حصر مسألة نزع سلاح حزب العمال الكردستاني في تركيا وحدها.

وتطالب «قسد» تركيا بعدم عدّ مؤسساتها العسكرية والإدارية والأمنية، والإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا، تهديداً لها، لأنها «مؤسسات للسلام والأمن».

وعدّ قائد «قسد»، مظلوم عبدي، أن اتفاق 10 مارس مع الشرع شكل منعطفاً مهماً بإغلاق الطريق أمام محاولات تقسيم سوريا ومنع انزلاقها إلى حرب أهلية، وضمن الاعتراف الدستوري بحقوق الكرد، لكنه أكد أنه «يجب أن تكون هناك سوريا لا مركزية، بحيث يتمكّن كل إقليم من إدارة نفسه».

وذهب الكاتب في صحيفة «حرييت» القريبة من الحكومة التركية، فاتح تشيكرجه، إلى أن أميركا تسعى لتأسيس «نموذج بارزاني» الذي أرسته في شمال العراق ضد إيران، في شمال سوريا، وأن الممر الذي يجري إعداده من العراق إلى سوريا يهدف إلى ذلك، وهو مطلب إسرائيلي أيضاً لمنع نقل الأسلحة من إيران إلى لبنان والمنطقة المحيطة.

ولفت إلى أن تركيا لم تقبل في البداية بنموذج مشابه لـ«بيشمركة بارزاني»، وهي الآن تعد «قسد» الحليفة لأميركا، تنظيماً إرهابياً، لكنها يمكن أن تقبل الأمر بعد ذلك في شمال سوريا كما حدث في إقليم كردستان العراق.

الحال، أن تركيا ستواصل خلال المرحلة المقبلة السعي لترسيخ موقعها بوصفها أبرز قوة مؤثرة في إعادة تشكيل سوريا، مستفيدة من علاقتها الوثيقة بالإدارة الجديدة ودعم واشنطن المتزايد لدورها. ومن المتوقع أن تضغط أنقرة باتجاه استكمال دمج «قسد» في مؤسسات الدولة السورية وتقليص أي حضور عسكري غير مرغوب فيه قرب حدودها. لكن التنافس مع إسرائيل والحضور الأميركي قد يحدان من قدرة تركيا على فرض رؤيتها بالكامل.