فاز جورج كوهين، الذي توفي في الثالث والعشرين من شهر ديسمبر (كانون الأول) الجاري عن عمر يناهز 83 عاماً، ببطولة واحدة فقط خلال مسيرته الكروية كأحد أفضل المدافعين في تاريخ إنجلترا على الإطلاق، لكن هذه البطولة كانت كأس العالم عام 1966. وكان راضياً تماماً بما حققه. أما سبب عدم حصوله على بطولات أخرى فيعود إلى أنه قضى مسيرته الكروية بالكامل على مدار 14 عاماً مع نادي فولهام، الذي كان الفوز بالبطولات والألقاب معه صعباً للغاية، بالإضافة إلى أنه تعرض لإصابة خطيرة في الركبة جعلته يعتزل كرة القدم وهو في التاسعة والعشرين من عمره، عندما كان في قمة عطائه الكروي.
ومع ذلك، كانت مسيرة كوهين الكروية تستحق كل التقدير والإعجاب. كان كوهين يلعب في مركز الظهير الأيمن مع منتخب إنجلترا، وكوَّن مع راي ويلسون ما يمكن اعتباره أعظم ثنائي في مركز الظهيرين الأيمن والأيسر في كرة القدم الإنجليزية على الإطلاق، لعب 37 مباراة دولية قبل أن يعلق حذاءه ويعتزل كرة القدم بسبب الإصابة. كان كوهين مدافعاً صلباً وسريعاً للغاية، ولديه قدرة فائقة على التحمل، وهي الصفات التي كان يحتاج إليها المنتخب الإنجليزي تماماً في تلك الفترة تحت قيادة المدير الفني ألف رامزي، نظراً لأنه كان يلعب من دون أجنحة –مدافع يمكنه التقدم للأمام بفضل سرعته الفائقة وخلق فرص للمهاجمين بتمريرات عرضية من على الأطراف.
لقد فعل كوهين ذلك ببراعة كبيرة خلال جميع مباريات كأس العالم عام 1966، حيث لعب كل دقيقة من كل المباريات التي لعبها منتخب الأسود الثلاثة في المونديال وقدم مستويات استثنائية طوال الوقت، وكان يتميز بالتركيز الشديد.
وُلِد كوهين في كنسينغتون غربي العاصمة البريطانية لندن، وترعرع في فولهام، حيث كانت والدته الآيرلندية المولد، كاثرين، تعمل مديرة في محطة الكهرباء المحلية، بينما كان والده لويس (المعروف باسم هاري)، يعمل في تركيب الغاز. وعلى الرغم من أصوله اليهودية من جانب والده، وانحدار بعض أفراد عائلته من أصول أوكرانية، فإنه لم يكن يعد نفسه أبداً يهودياً.
كانت والدة جورج امرأة قوية ولها التأثير الأكبر على حياته، وكانت هي التي دعمت رغبته في أن يصبح لاعب كرة قدم محترفاً، بينما كان والده يرى أنه يجب أن يتعلم حرفة قبل أن يرحب بفكرة احترافه لكرة القدم في نهاية المطاف. برزت موهبة جورج منذ سن مبكرة، وكان أكثر سرعة وقوة من الكثير من أقرانه من الأطفال الآخرين، وهو الأمر الذي يعزوه جزئياً إلى قدرته على شرب ماء الملفوف (الكرنب) المسلوق، وهو الطعام الوحيد الذي كان يمكن لوالديه شراؤه آنذاك. كان جورج ملاكماً جيداً، وكان يهتم للغاية بمتابعة مباريات الملاكمة طوال حياته، لكن لاعب فولهام السابق إرني شبرد اكتشف موهبته الكروية في مدرسة فولهام المركزية. وقَبِلَ كوهين، بدعم من والدته، عرضاً للانضمام إلى فريق الكرة بنادي فولهام.
لعب كوهين أول مباراة مع الفريق الأول لنادي فولهام في عام 1957 عندما كان يبلغ من العمر 17 عاماً. وكان فولهام يلعب آنذاك في دوري الدرجة الثانية، ويضم لاعبين مثل جوني هاينز وجيمي هيل. جذب كوهين أنظار الجميع منذ البداية بفضل سرعته الفائقة وقوته البدنية الهائلة وقدرته على التقدم للأمام لتقديم الدعم الهجومي، وسرعان ما أصبح أحد أشهر لاعبي كرة القدم في عصره، وساعد فريقه في عام 1959 على الصعود إلى دوري الدرجة الأولى (الشكل القديم للدوري الإنجليزي الممتاز). كان ظهراء الجنب في ذلك الوقت يتميزون بالقوة البدنية والالتحامات القوية والصلابة الدفاعية وليست السرعة والمهارة، لذلك كان كوهين لاعباً مختلفاً وسابقاً لعصره وقادراً على اختراق دفاعات الفرق المنافسة وتقديم الدعم الهجومي اللازم لزملائه. وقال كوهين ذات مرة: «كانت طريقة لعبي تعتمد على اللياقة البدنية الرائعة أكثر من أي شيء آخر. لقد كان ذلك يمثل جزءاً أساسياً من طريقة لعبي لدرجة أنه كان الميزة الأكثر قيمة بالنسبة لي».
وجذب كوهين أنظار المدير الفني للمنتخب الإنجليزي ألف رامزي في الوقت المناسب تماماً، ولعب أول مباراة دولية مع منتخب الأسود الثلاثة أمام أوروغواي في عام 1964، عندما أطاح بجيمي أرمفيلد من مركز الظهير الأيمن الذي ظل يحتكره لفترة طويلة. وسرعان ما أدرك رامزي أن لديه جوهرة ثمينة في هذا المركز، خصوصاً أن رامزي نفسه كان يلعب كظهير أيمن عندما كان لاعباً. استمرت العلاقة القوية بين الاثنين، حتى بعد موقف مؤسف حدث في التدريبات عندما لعب رامزي في فريق مكون من خمسة لاعبين ضد كوهين في فريق آخر، لكن كوهين تدخل مع رامزي بكل قوة وأطاح به في الهواء قبل أن يسقط على الأرض على رأسه. نهض رامزي في نهاية المطاف وقال لجورج: «لو كان لديَّ ظهير آخر، فلن تلعب غداً».
لحُسن الحظ، كان رامزي يركز على لياقة وسرعة كوهين أكثر من تركزيه على تدخلاته القوية، خصوصاً لأن قلبَي دفاع المنتخب الإنجليزي آنذاك -جاك تشارلتون وبوبي مور– لم يكونا يتميزان بالسرعة. كان ويلسون، زميل كوهين الذي كان يلعب في مركز الظهير الأيسر، سريعاً أيضاً، وبالتالي كان اللاعبان يتقدمان كثيراً إلى الأمام لتقديم الدعم الهجومي اللازم وإرسال الكرات العرضية المتقنة داخل منطقة الجزاء. كان اللاعبان يتميزان بالتواضع والهدوء -كان كوهين هادئاً بشكل أكبر داخل وخارج الملعب- لكن مساهمتهما الكبيرة في فوز المنتخب الإنجليزي بكأس العالم 1966 نالت تقديراً كبيراً من زملائهما في الفريق ومن الجمهور الإنجليزي ككل.
كان كوهين مرحاً وودوداً، لكنه كان هادئاً للغاية وله طريقته الخاصة في القيام بأي شيء. وقال مور، قائد المنتخب الإنجليزي في تلك الفترة: «لم يكن هناك أي لاعب آخر أكثر استعداداً أو تفانياً من جورج. كان يقوم بأي عمل يُسند إليه دون تعقيدات أو شكوى». وعلى الرغم من أنه كان لاعباً بارزاً فإنه كان يفضّل الابتعاد عن الأضواء والعمل والعيش في هدوء. وفي إحدى رحلات المنتخب الإنجليزي إلى كندا، لم يرَه اللاعبون الآخرون خارج الملعب كثيراً لدرجة أن التكهنات بشأن مكان وجوده قد تحولت إلى مزحة! واتضح بعد ذلك أنه كان يقضي معظم وقته في غرفته بالفندق في قراءة الكتب والابتعاد عن أشعة الشمس الحارقة. لقد كان قارئاً نهماً، وكان دائماً ما يحمل الكتب في يده، خصوصاً في أثناء السفر.
لكن ما حدث بعد الفوز بكأس العالم كان مخيباً للآمال إلى حد بعيد. ففي ديسمبر (كانون الأول) 1967، وفي أثناء مباراة فولهام ضد ليفربول، تعرض كوهين لالتواء شديد في الركبة وخرج من الملعب وهو يتألم بشدة. غاب كوهين عن الملاعب لمدة عام وتم استئصال غضروفه، ثم عاد للمشاركة في بعض المباريات لكنه ظل يعاني بشدة وقيل له إن ركبته تضررت بشدة ولا يمكنه اللعب مرة أخرى. قال كوهين عن ذلك: «كنت غاضباً للغاية لأنني كنت في قمة عطائي الكروي، كما أن حصولي على كأس العالم قد منحني ثقة كبيرة للغاية في نفسي، وكنت في أفضل حالاتي على الإطلاق». وبصفة إجمالية، لعب كوهين 408 مباريات في الدوري على مدار 14 عاماً مع نادي فولهام.
تولى كوهين القيادة الفنية لفريق الناشئين بنادي فولهام لمدة عام، لكنه ابتعد بعد ذلك عن كرة القدم وانتقل للعمل في شركة تعمل في مجال المعمار في لندن، حيث تعلم الرسم الفني وقانون التخطيط. أسس كوهين شركته الخاصة للتطوير العقاري وأطلق عليها اسم «جورج آر كوهين بروبرتيز»، وظلت الشركة تعمل بشكل جيد لفترة من الوقت.
ومع ذلك، فشلت صفقة لتطوير قطعة أرض في منطقة «تونبريدج ويلز» في مقاطعة كنت، وخسر كوهين رأس ماله بالكامل. تعافت الشركة بشكل جزئي بعد ذلك، لكن الأمور لم تعد أبداً كما كانت مرة أخرى، واضطر في عام 1998 لعرض الميدالية الذهبية التي حصل عليها في مونديال 1966 للبيع. وعندما لم يتم الوصول إلى السعر المطلوب في المزاد، اشترى رئيس نادي فولهام آنذاك، محمد الفايد، الميدالية من كوهين مقابل مبلغ لم يتم الكشف عنه واحتفظ بها في النادي. كما عيَّنه نادي فولهام سفيراً لعدة سنوات في المباريات التي تقام على ملعب الفريق.
لم تكن الصعوبات التي واجهها كوهين في العمل هي مشكلته الوحيدة، فقد عانى بشدة عندما تُوفيت والدته عام 1971 وهي في الثانية والستين من عمرها. وبعد خمس سنوات، أُصيب بسرطان الأمعاء وظل يُعالج منه لمدة 14 عاماً. وفي عام 2000 الذي حصل فيه على وسام الإمبراطورية البريطانية، تُوفي شقيقه الأصغر بيتر، بعد تعرضه لهجوم في ملهى ليلي في نورثهامبتون، وهو ما جعل كوهين في «حالة غضب دائمة» لفترة طويلة بعد ذلك.