عند الرقم (16) من شارع «أونغين» الواقع في الدائرة العاشرة في باريس؛ أي عملياً في قلب العاصمة الفرنسية، يقوم «المركز الثقافي الكردي أحمد كايا»، الذي يُعد مركزاً اجتماعياً مهمته مساعدة أكراد باريس ومنطقتها. وهذا المركز كان هدفاً لاعتداء قاتل في وضح النهار؛ إذ ولج إليه ظهر أمس، رجل سبعيني وأخرج مسدساً وأطلق النار على من في داخله، ثم دخل مقهى يرتاده أكراد، وبعده صالون حلاقة، ليستمر في إطلاق النار، بحيث كانت النتيجة مقتل 3 أكراد وجرح عدة أشخاص آخرين، أحدهم يعاني من وضع حرج. وككل مرة يحصل فيها حادث من هذا النوع، أكان إرهابياً أم غير إرهابي، سارعت قوى الأمن التي استُدعيت للمكان، ونجحت في السيطرة على الجاني بإطلاق النار عليه، حيث أصيب في ساقيه. وأفاد شهود بأن الجاني أطلق على الأقل 8 رصاصات.
وسريعاً أيضاً، وصلت سيارات الإسعاف وقوة أمنية أكبر منعت السير في شارع «أونغين»، وضربت طوقاً أمنياً حول مكان الحادث، شمل المركز الكردي، ومنعت الاقتراب منه، ثم انهالت الأسئلة التي تتناول هوية الجاني والأسباب التي جعلت الجالية الكردية هدفاً لهذه العملية ودوافع الرجل، فضلاً عن السؤال حول ما إذا كان قد نفذ عمليته منفرداً أم أنه تلقى مساعدة. ولاحقاً برز سؤال آخر؛ إذ يذكر المراقبون أنه قبل 10 سنوات وليس بعيداً عن هذا المركز، جرت عملية اغتيال راح ضحيتها 3 مناضلين أكراد، ووقتها وُجهت أصابع الاتهام إلى المخابرات التركية.
وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة الفرنسية قد أمرت بحل مجموعة تركية في عام 2020 كانت تتصرف وكأنها ميليشيا داخل فرنسا، ولها تمددات في بلدان أوروبية أخرى، أبرزها ألمانيا.
وشيئاً فشيئاً، أخذت تتوالى المعلومات المربكة الواحدة بعد الأخرى، وأهمها أن هذا الرجل فرنسي الجنسية البالغ من العمر 69 عاماً، خرج من الحبس الاحتياطي قبل 11 يوماً فقط. وسبب إيداعه السجن أنه في 8 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، هاجم مخيماً للاجئين عديمي الإقامة في الدائرة الثانية عشرة في باريس بسيف وجرح 3 منهم، وجروح أحدهم جاءت خطيرة، وقُبض عليه وأوقف وأودع السجن بانتظار محاكمته، وأنه سُمح له بالخروج من السجن قبل 11 يوماً فقط ليعاود الكرة، وهذه المرة لاستهداف جالية بعينها هي أكراد باريس والمنطقة الباريسية. وليس قرار القضاء السماح له بالخروج من السجن لتحضير محاكمته شيئاً مستغرباً، لكن المستغرب أن أحد شروط خروجه أن يبقى تحت الرقابة القضائية التي لم تُحترم في حالته. وتفيد شهادات استُقيت أمس، بأن الرجل وصل إلى الحي الذي توجد فيه جالية كردية كبيرة بسيارة خاصة، مما يرجح أن تكون له علاقات ما قد تكون ساعدته ومكّنته من ارتكاب اعتدائه الذي نشر مناخاً من الذعر قبل يومين من عيد الميلاد؛ أي في فترة تكون فيها الشوارع والساحات والمحلات والطرقات بالغة الازدحام.
وسريعاً جداً، عمدت النيابة العامة في باريس إلى فتح تحقيق قضائي بتهمة ارتكاب جرائم اغتيال والقتل المتعمد والعنف المشدد، وأوكلت التحقيقات إلى الفريق الجنائي التابع للشرطة القضائية في العاصمة. ورغم أن النيابة المتخصصة في شؤون الإرهاب تابعت عن قرب تطورات الملف، فإنه لم يُنقل إليها، مما يعني عملياً، أنه حتى هذه اللحظة، لا يُنظر إلى ما حصل على أنه عمل إرهابي، ولكن الأمور يمكن أن تتغير لاحقاً. وأفادت لور بيتشو، المدعية العامة في باريس، في تصريح مقتضب للصحافة، بأن الجاني متهم بطعن شخصين نهاية العام الماضي.
ومن جانبها، أشارت مصادر الشرطة، إلى أن مطلق النار فرنسي الجنسية ومتقاعد، وكان يعمل سائقاً للقطار وصاحب سوابق. وقالت رئيسة بلدية الدائرة العاشرة، ألكسندرا كوربارد، إن الجاني أصيب خلال توقيفه، وإنه نُقل إلى المستشفى وهو في «حالة حرجة نسبياً». ووُضع الأخير في حالة التوقيف الاحتياطي لـ24 ساعة يمكن مدها إلى 48 ساعة، يقدم بعدها إلى قاضي التحقيق الذي يعود له أن يأمر بحبسه احتياطياً حتى اكتمال التحقيقات وإحالته إلى المحاكمة.
وتباعاً، تتالت التعليقات والتنديدات؛ فاعتبرت رئيسة الحكومة إليزابيت بورن، أن ما حصل «عمل بغيض»، ونددت رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو، بالاعتداء، معتبرة أن الجالية الكردية كانت المستهدفة. وقطع وزير الداخلية جيرالد دارمانان، زيارته التفقدية إلى مدينة توركوان الواقعة شمال البلاد، وعاد إلى باريس وزار مكان الحادث للاطلاع على التطورات، بيد أن ما قاله الوزير المسؤول عن الأمن، أثار بعض أعضاء الجالية الكردية حينما أعلن أن الجاني «استهدف بوضوح أجانب»، قبل أن يضيف أنه «ليس من المؤكد أن يكون حاول قتل أكراد على وجه الخصوص». وفضلاً عن ذلك، أفاد دارمانان بأنه لا معلومات متوافرة «حتى الآن» حول وجود صلات للمشتبه به مع نشطاء من اليمين المتطرف. وكشف الوزير الفرنسي عن معلومتين: الأولى، أن الرجل عضو في نادٍ للرماية، وأنه «يملك عدة أسلحة مسجلة». والثانية، أن الضحايا «على ما يبدو» غير معروفين من الأجهزة الأمنية الفرنسية. وإذ أكد أنه أمر بتشديد الإجراءات الأمنية في أماكن التجمعات الكردية، وفي محيط المقرات الدبلوماسية التركية؛ قال إن المسؤولين الأمنيين سوف يجتمعون للنظر في وجود تهديدات أمنية للأكراد في باريس أو في مكان آخر على الأراضي الفرنسية.
أما الرئيس إيمانويل ماكرون، فقد غرد مندداً بـ«المقتلة» التي استهدفت الأكراد، معتبراً أنهم كانوا «هدفاً لاعتداء كريه»، وأضاف أن «أفكاره تذهب للضحايا وللأشخاص الذين يصارعون الموت للبقاء على قيد الحياة، ولعائلاتهم وأقاربهم». وختم مشيداً بـ«شجاعة رجال الأمن وبصلابة أعصابهم».
وتسبب مجيء دارمانان والطوق المحكم الذي ضربته قوات الشرطة لحمايته، بمناوشات بينها وبين شبان أكراد كانوا يطلقون شعارات تندد بتركيا، ويصيحون: «ليسقط النظام التركي» بالكردية والفرنسية. وعمد بعضم إلى إشعال النار في الشارع والبدء برمي الكراسي والحجارة وما وقع بين أيديهم على رجال الأمن، وإقامة المتاريس على غرار ما عرفته باريس زمن «السترات الصفراء». ورد الأمنيون بإلقاء قنابل الغاز والقنابل الصوتية لتفريق المتظاهرين، وعمدوا إلى إقفال جميع المسالك المفضية إلى شارع «أونغين» الذي يضج عادة بالمارة بفضل وجود عشرات المطاعم والمقاهي والحانات والمحلات فيه. وأفادت معلومات الشرطة، بأن 5 من أفرادها أصيبوا بجروح في المناوشات، وأنه تم القبض على أحد المتظاهرين.
ومساء أمس، أفادت معلومات متداولة في الدوائر الصحافية في باريس، بأن الجاني اسمه ويليام أم، وأنه وُلد في مدينة مونتويل، في قضاء سين سان دونيس الواقع شمال العاصمة. كذلك أفيد بأن القوى الأمنية داهمت عدة مواقع بحثاً عن أدلة، خصوصاً فيما يتعلق بعلاقات الجاني بتنظيمات حزبية من اليمين المتطرف، أو ذات الصبغة الميليشياوية. كذلك يجري البحث فيما إذا كان هذا الرجل يتمتع بجميع قواه العقلية، وأيضاً في كيفية استمرار امتلاكه أسلحة نارية رغم وجوده في السجن بسبب اعتداء عنصري بالغ الخطورة ارتكبه نهاية العام الماضي. وهذه الأسئلة هي ما يسعى التحقيق لجلائها في الساعات والأيام القادمة. وقد داهموا شقة الجاني مساء، وهي واقعة في الدائرة الثانية في باريس.